02-سبتمبر-2020

(الشرق الأوسط)

"إنها أوساخ الدولة"، بهذا العبارة المجازية المُضَرَجَة بحُرقة الحرمان من الدولة التي أدى عجزها البنيوي عن القيام بأدوارها المؤسسيَّة الفاعلة، إلى حرمان اللبنانيين من الحياة والوجود الجمعي الحقيقي والمغاير الذي بشرت به حداثتهم الجمالية والشعرية والفكرية في أوج طلعاتها الجنينية في ستينيات القرن المنصرم، عبِّر أنطوني الشاعر عن فجيعة انفجار مرفأ بيروت الذي حدث في الرابع من آب/ أغسطس2020.

كان كنس المتطوعون اللبنانيون للشوارع بعد الانفجار يحيل إلى طقس من التعميد الجمعي التواق إلى التخلُّص من كل ما هو مُختل ومعطوب وعاطل

نزل أنطوني من اللقلوق في جبل لبنان إلى بيروت لنظافة ركام ومخلفات الانفجار، مضيفًا أنه نزل لكي "يكنس فساد الدولة وإهمالها".

لقد حلَّت المجازات البنيوية العميقة محل الشعارات السياسية العارية التي رفعها ثوار الانتفاضة اللبنانية التي تفجرَّت في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أي حل الموقف البنيوي المُتمرِّد على الدولة، محل الموقف الشعاراتي الرافض لطبقتها السياسية الفاسدة. إذ من الملاحظ من تلك الشعارات، وأبرزها "كلهن يعني كلهن"، أنها كانت تُعبِّر عن الرفض المطلق للطبقة السياسية برمتها، مُمَّثلة في شبكاتها الزبونية الفاسدة وفي تحالفاتها الهشَّة ومحاصصاتها الطائفية المأزومة، بينما العبارات المجازية، والتي لا تخلو طاقتها التعبيرية من السخط الاحتجاجي واليأس السياسي أيضًا، ما هي إلا تعبير عميق عن موقف بنيوي رافض لاختلالات الدولة اللبنانية وعدم صلاحية هياكلها وتآكُل مواعينها الوظيفية.

اقرأ/ي أيضًا: واشنطن ترفع الحظر العسكري عن قبرص اليونانية وأنقرة تهدد بتسليح الشطر التركي

فعندما شرع أنطوني الشاعر، هو ورفاقه في تنظيف شوارع لبنان من أنقاض انفجار المرفأ، كان يقول أنه "يكنس فساد الدولة وإهمالها"، وكأن نظافة الشوارع والشارع نفسه يحيلان إلى ضرب من التمهيد لإنتاج فعل اجتماعي تأسيسي جديد لدولة المواطنة والحقوق والعدالة والمساوة التي يتوق إليها اللبنانيون؛ أي كنس الُمخلَّفات الناجمة عن الانهيار البنيوي العميق للدولة والشروع في اجتراح كل ما من شأنه التأسيس لمشروع وطني جديد قائم على أسس بديلة لبناء الدولة، إن مجاز الكنس هذا، ما هو إلا طقس من طقوس التعميد الجمعي التواق إلى التخلُّص من كل ما هو مُختل ومعطوب وعاطل والشروع أيضًا في تجذير وتأسيس وبناء كل ماهو جديد وحيوي وفعَّال، أي بوصفه طقسًا للخلاص من القديم والشروع في التأسيس للجديد معًا وفي آنٍ واحد.

ولم يكن انفجار المواد الكيمائية (2750 طنًا من نترات الأمنيوم)، المُخزنة في العنبر رقم (12) بمرفأ بيروت، يبعُد أكثر من (500) مترًا من فندف السان جورج الذي رُكِنت بجانبه الشاحنة المُفخَّخة والتي أودى انفجارها بحياة الرئيس اللبناني السابق رفيق الحريري في فبراير 2005. وما بين تاريخ اغتيال الحريري وتاريخ تخزين نترات الصوديوم في العام 2014 بالمرفأ، تسع أعوام من احتدام المشهد السياسي الطائفي التناحري، الذي حوِّل لبنان إلى "مشرحة" من الفساد والمحاصصات والعلاقات الزبونية، تلك المشرحة التي أخذت تتقَّطع على طول منصَّتها المُضَرَجَة أوصال الجسد اللبناني إلى أشلاء وشراذم ودمامل بفعل الأجندة الإقليمية المتصارعة والتدخلات الخارجية التي حوَّلت البلاد إلى دولة مختطفة وبلا سيادة وطنية حقيقية.

ومن المفارقات التاريخية الفاضحة أنه في ستينات القرن الماضي كان معدل نمو الاقتصاد اللبناني يأتي في المرتبة الرابعة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وسويسرا، إذ ترافقت مع هذه الحالة النمائية المزدهرة والواعدة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، حالة من البزوغ المتصاعد للحداثة الجمالية اللبنانية أيضًا، الأدبية والشعرية والغنائية، والتي بلغت ذروتها في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم.

لكن يبدو أن حالة التحديث الاقتصادي كانت تمضي في افتراقٍ فالتٍ لا يتلاقى أو يتقاطع مع حالة الحداثة الجمالية في محورٍ من المحاور البنيوية التي كان بوسعها أن تُحفِّز ميكانيزمات الدولة وتشحذ حساسياتها الوظيفية مما يجعلها قادرة على الانخراط في شكل من أشكال التحديث الذاتي الشامل للبنى المؤسسيِّة والبنى الاجتماعية التقليدية أيضًا. فلا التحديث الاقتصادي ولا الحداثة الجمالية تزاوجا زواجًا سعيدًا يُمكِّنهما من أن يتخللَّا الجسد الوجودي السياسي والاجتماعي للبنان الجريح والمُثخن بالانقسامات الطائفية والتحالفات السياسية المأزومة.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون يحدد الإصلاحات في لبنان ضمن إطار زمني ومطالبات شعبية باستقالة عون وبري

وحتى النزوع الاجتماعي الطليق، الذي ظل يوحي دومًا بنمط حياتي حداثي أكثر تحرَّرًا وانعتاقًا من الجمود والتقليدية اللذين أخذ يمتح منهما نسق الاستبداد السياسي السائد بالبلاد، ظلَّ نزوعًا فوقيًا يُضفى حالة حداثية طارئة وزائفة على واقع الطبقة الثقافية والسياسية اللبنانية. إنَّ حريق مرفأ بيروت، ماهو إلا تنويع مجازي من تنويعات حرائق الاستبداد الطالعة من أحشاء آلة العنف الداخلي - الخارجي، وهي آلة لا تنفك نيرانها من إشعال حالات شقاقية ناجمة عن التحديث الاقتصادي والاجتماعي المعطوب، ومن الحداثة الجمالية المُجهضة أيضًا، حيث أخذت هذه الحالات الشقاقية تعمل على تقنيع البنى التقليدية وتأبيد الحواضن الاجتماعية الموِّلدة للاستبداد والفساد والانقسامات.

تجسد لبنان نموذجًا حيًا لتلك البلدان التي ابتعلت بنى الاستبداد السياسي والطائفي حداثتها الجمالية

لذلك لا تُجسِّد لبنان، تلك الجغرافيا الملعونة فحسب، نظرًا لموقعها الجيوسياسي بين بؤر الصراع العربي الاسرائيلي، والتي ظَّلت مُستباحة من قبل أجهزة الاستخبارات الأجنبية وجهاز استخبارات النظام السوري وإيران، ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي وإلى الآن، ولكنها تُجسِّد أيضًا نموذجًا حيًا لتلك البلدان التي ابتعلت بنى الاستبداد السياسي والطائفي حداثتها الجمالية فصار هذا الضرب الحداثي الجنيني الباكر شائهًا وكسيحًا ومهزومًا في وجه الأجندة الإقليمية وجداول أعمال الساسة المحللين المثقلة بالخيانة.

ومع اقتراب موعد الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، في أيلول/سبتمبر القادم، والذي كان في زيارته الأولى قد عبَّر  موقفه من الكارثة اللبنانية من خلال وضع حد زمني بدايةً من أيلول/سبتمبر للشروع في التأسيس لعقد سياسي جديد وإجراء إصلاحات هيكلية جذرية بالدولة، يبدو من اللافت الإشارة إلى المفارقة بين موقف ماكرون وبين موقف بعض النواب في المجلس النيابي الذين تقدموا باستقالاتهم، مُعلنين عن شكل من أشكال القطيعة مع المنظومة الحاكمة. والفارق الملحوظ بين الموقفين، أن ماكرون عبَّر موقفه عن رؤية بديلة للإصلاح الهيكلي وإعادة التأسيس البنيوي للدولة، وهو موقف جسَّده ميدانيًا بزيارة موقع الانفجار واحتضان بعض المنكوبين والمفجوعين من ضحايا الجميزة والكرنتينا وغيرها من المناطق المحيطة التي تتضرَّرت من انفجار المرفأ، بينما اكتفى النواب المستقيلين بالاستقالة دون الذهاب إلى أبعد من ذلك. ويبدو أن الصفوة السياسية اللبنانية أدمنت استنزاف أفق التوافقات السياسية والتي هي في جوهرها محض صفقات زبونية ليس إلا، فما أن تتوَّرط في الدخول في صفقة وتفشل في الخروج بها من براثن الأزمات البنيوية التي تعصف بجسد الدولة اللبنانية المُنهك سرعان ما تتوَّرط في صفقة أخرى لا تكون محصلتها النهائية إلا إعادة إنتاج للأزمات والخيارات المسدودة، وذلك دون أن يهتدي عقلها السياسي بأفقٍ مغاير يحمل ملامح مشروع رؤية بديلة لبناء الدولة وإعادة التأسيس لأجهزتها.

كان لا بد للتدخلات السياسية الإقليمية المسمومة في لبنان أن تنتج مثل نموذج إعلان حكومة العهد "توافق بعبدا" المريض والمأزوم

إن أزمنة وتواريخ الدولة الحديثة في لبنان لا تُشكِّل في جوهرها إلاَّ انقطاعات عن فعل التأسيس الحقيقي لمشروع دولة المواطنة؛ إذ لم يتم تجسير الفراغ بنيويًا ومؤسسيًا بين طور عقد التأسيس الوجودي بإعلان "دولة لبنان الكبير" في العام 1920، وطور عقد التأسيس السيادي بإعلان "استقلال لبنان" في العام 1943. وعزَّز من هذه الانقطاعات احتلال إسرائيل لجنوب لبنان في الفترة الممتدة من 1978 إلى 2000، ودخول القوات السورية وبقائها في لبنان للفترة من 1976 إلى 2005، لتنتج لنا كل تلك التداخلات المسمومة في المحصلة النهائية نموذج إعلان حكومة العهد "توافق بعبدا" المريض والمأزوم.

اقرأ/ي أيضًا

لبنان يكلف سفيره السابق في ألمانيا بتشكيل الحكومة بعد "ضغوط فرنسية"

"خلل" في ترجمة بيان التطبيع يكشف ادعاءات أبوظبي بشأن وقف مخطط الضم الإسرائيلي