في عالم العطور الشرقية والتراث، يطل البخور السوداني برائحته الفريدة والممتلئة بزخم عدد من العواصم العالمية وتاريخها العريق على العديد من المجتمعات العربية وغير العربية. ويعتبر استخدام البخور بشكل عام جزءًا لا يتجزأ من تقاليد المجتمع الشرقي، ويتميز السودان بتنوع أصناف البخور وفخامته وتعدد استخداماته، ليسجل حضورًا لا يُمكن تجاهله في عالم العطور العربية والأفريقية.
لا يقتصر البخور السوداني على كونه مجرد عطر، بل يعتبر بمثابة فن يتجلى بشكل واضح في اختيار المكونات وتركيبها بعناية فائقة
ولا يقتصر البخور السوداني على كونه مجرد عطر، بل يعتبر بمثابة فن يتجلى بشكل واضح في اختيار المكونات وتركيبها بعناية فائقة. كما يعتبر البخور السوداني أحد أضلع التراث في البلاد، وظل متداولًا بين الأجيال عبر العصور كجزء من التعبير عن الهوية والتراث الثقافي في السودان، كما يُستخدم البخور في مختلف المناسبات سواء كانت احتفالية دينية أو اجتماعية، ليضفي بذلك لمسة من الفخامة والرونق على الأجواء.
وهنالك عدد من أنواع البخور السوداني، أهمها بخور الصندل الذي تستخدمه العروس والنساء المتزوجات بشكل خاص، وهو يعتبر من أغلى أنواع البخور. ومن بين أنواع البخور أيضًا الشاف والعنفر الذي يستخدم في المنازل ضمن الروتين اليومي للنظافة والترتيب. وهنالك أنواع أخرى مثل بخور اللبان والجاولي والعدني والتيمان، ويستخدم عدد منها في الطقوس المصاحبة لتقديم القهوة في السودان. واستحدثت النساء في السودان طرق جديدة لعمل البخور مع المحافظة على أصالته واستحداث مكونات جديدة في تركيباته وشكله النهائي.
بخور الشاف
يستخدم خشب أشجار الشاف في صناعة هذا النوع من البخور، وهو يصنع بغرض الاستعمال اليومي في المنازل، ويدخل في مكوناته عدد من العطور بجانب السكر. ومن ضمن العطور المستخدمة في صناعة بخور الشاف: عطر "الفليردامور" الفرنسي، بحانب "سواردي باريس" والمسك والضفرة المسحونة. كما يستخدم منقوع القرنفل والمحلب في تشريب ألواح الشاف قبل أن تضاف إليه العطور.
وتتواجد أشجار الشاف في السودان بشكل كثيف، خاصة في مناطق غرب السودان، ويدخل في العديد من أغراض زينة المرأة السودانية بجانب مكونات أخري.
وتقول السيدة محاسن محمد (65 عامًا): إن البخور يقاس به مدى ترتيب المرأة واهتمامها بأعمال منزلها. وتؤكد في حديثها لموقع"الترا سودان"، أن للبخور طقوس معينة يجب اتباعها حتى تعلق روائحه العطرة بأركان المنزل، مشددة على ضرورة استخدامة بعد أعمال مسح الأرضيات مباشرة، بحيث تكون ما زالت مبللة بشكل جيد. وأضافت أنه يمكن استخدام البخاخات من أجل نثر رذاذ المياه على مفروشات المنزل واستخدام البخور بعد ذلك من أجل أن تعلق رائحته في المفروشات.
بخور الصندل
يستخدم بخور الصندل السوداني بشكل خاص لأغراض تخص العروس والنساء المتزوجات، إذ يصنف من الروائح القوية التي لا يجوز للمرأة أن تتزين بها إلا لزوجها حسب الأعراف السودانية المشتقة من الدين الإسلامي الحنيف. ويكون بخور الصندل على شكل قطع صغيرة، واستحدث نساء السودان الآن شكلًا جديدًا من أشكال بخور الصندل، فهمن يقمن بتحويله إلى نشارة، وتعتبر طريقة تحضيره مشابهة بشكل كبير لبخور الشاف، ويعتمد على إذابة السكر بالحرارة، وهو باعتباره مادة لاصقة تمكن أعواد الصندل من الاحتفاظ بالعطور على سطحها، وذلك بجانب الضفرة والمسك.
ويعتبر بخور الصندل جزءًا من طقوس الجرتق في الزواج السوداني، وذلك بجانب حفلات "الحنة" التي تسبق حفل الزواج الرسمي، كما يستخدم في تبخير غرفة العروس ومنزلها الجديد وملابسها كتقليد سوداني فريد.
بخور العنفر
من أعواد خشب العنفر الذي تنتشر زراعته غربي السودان يصنع بخور العنفر ذو الرائحة البديعة. يتميز هذا النوع من البخور عن أقرانه بأنه بارد على الجهاز التنفسي، وكذلك لا يتسبب هذا النوع من البخور السوداني في حساسية العيون كما يحدث لدى بعض الأشخاص عند تعرضهم لأنواع البخور الأخرى.
ويحضر بخور العنفر عن طريق نقع أعواد خشب العنفر التي تكون ذات قطر صغير وقصيرة مقارنة بأعواد بخور الشاف أو الصندل. وتنقع الأعواد في عطر لمدة ثلاثة أيام، ثم تضاف هذه الأعواد إلى كمية من السكر المذاب بالتسخين، ومن ثم يضاف إليه دهن العنفر والقليل من زيت الصندل، ويقلب المزيج بشكل جيد ويتم وضع البخور في أكياس بلاستيكية لمدة يوم كامل قبل أن يتم نقله إلى البرطمان الزجاجي ليكون جاهزًا للاستعمال.
بخور التيمان
يتكون بخور التيمان من أنواع مختلفة من الأعشاب التي يتم اختيارها بعناية، وتطحن هذه الأعشاب وتخلط مع بعضها وتستخدم كبخور متعدد الأغراض، وتختلف الروائح المنبعثة منه باختلاف الأعشاب التى توضع فيه. يعرف بخور التيمان أيضًا باسم المسبع نسبة لأنه يتكون من سبعة أنواع من الأعشاب.
يدخل في تكوين بخور التيمان كل من السدر وعين الديك والشب والقرض والحلتين، ويأتي ذلك بجانب اللبان والكمون. وبحسب روايات محلية تعود تسميته إلى أخوين توأم ، وهما أول من بدأ العمل في محلات العطارة، والتي لطالما ارتبطت كثيرًا باسم التيمان في السودان.
ويعتبر بخور التيمان جزءًا لا يتجزأ من جلسات القهوة في السودان، والتي يطلق عليها محليًا "قعدات الجبنة"، كما أن هناك اعتقاد سائد أن هذا النوع من البخور يمكن أن يقي من العين والحسد، لذلك يرتبط بشكل كبير في تبخير المحال التجارية في الأسواق الشعبية، ويستخدمه ربات المنازل لطرد الذباب وفي أعمال التدفئة في ليالي الشتاء الباردة.
مشروع مربح
تنشط العديد من النساء السودانيات ممن يعملن في المشاريع المنزلية الصغيرة في صناعة البخور، والتي تؤكد مها الطيب أنها من المشاريع المربحة للغاية. مها تقول لموقع "الترا سودان" إنها تعمل في صناعة البخور في المملكة العربية السعودية، مؤكدة أن هنالك إقبال كبير على شراء البخور السوداني، إذ لا يقتصر البيع على السودانيين المقيمين في المملكة العربية السعودية، بل العديد من الجاليات العربية في المملكة بجانب المواطنين الأصليين يقبلون بشكل كبير على شراء البخور السوداني.
وفي دولة مصر التي شهدت تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السودانيين جراء الحرب وارتفاع معدلات البطالة، لجأ كثير من النساء إلى عمل المشاريع المنزلية بما فيها البخور الذي وجد رواجًا واسعًا هناك، حيث انتشرت في مقاطع فيديو لناشطات مصريات على مواقع التواصل الاجتماعي وهن يجربن المنتجات السودانية بما فيها البخور، لتعكس الحرب الوجه المشرق للثقافة السودانية.
أسعار متباينة
تتباين أسعار البخور السوداني بحسب نوعه وجودته، بحيث تؤكد مها الطيب أن الصندل هو من أغلى أنواع البخور، ويعود ذلك إلى ارتفاع المواد التي يصنع منها هذا البخور، حيث يبلغ سعر الكيلو الواحد من بدرة الصندل ما يقارب (240) دولارًا.
فيما تعتبر الأنواع الأخرى من البخور منخفضة الثمن نوعًا ما مقارنة ببخور الصندل، وتعتبر العطور المستخدمة في صناعتها هي المتحكم الرئيسي في سعرها وجودتها، إذ أنه كلما زاد عدد العطور المستخدمة في البخور أصبح بجودة عالية الأمر الذي يؤثر في سعر المنتج من متجر إلى آخر.
يعتبر البخور السوداني أحد أهم أوجه التراث في البلاد التي انتقلت بشكل كبير إلى المجتمعات المجاورة
وبلغت أسعار البخور السوداني في مصر من (130) إلى (160) جنيهًا مصريًا لكل من أنواع الشاف والعنفر. وبالرغم من ارتفاع أسعار البخور السوداني في مصر إلا أنه يشهد إقبالًا غير معهود على شرائه، بحسب أصحاب المشاريع في مصر.
ويعتبر البخور السوداني أحد أهم أوجه التراث في البلاد التي انتقلت بشكل كبير إلى المجتمعات المجاورة الأخرى، وعكست للعالم أصالة وعراقة التراث في السودان.