شكلت زيارة الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في آذار/مارس 2020 إلى العاصمة السودانية الخرطوم التي كانت تخطو في ذلك الوقت أولى خطواتها بعد التخلص من نظام المعزول والخروج من عزلة دولية – شكلت دافعًا لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك لطلب مساعدة برلين في قطاعات النقل والموانئ والطاقة.
صوت البرلمان الألماني على رفع القيود والتعاون مع السودان وتقديم الدعم التقني ومع ذلك تركل الخرطوم جميع هذه الفرص
تتحرك برلين في الملف السوداني منذ استضافة المفاوضات بين المعارضين ونظام المعزول، وكثيرًا ما نجحت في إحداث اختراق، وربما نصحت الدبلوماسية الألمانية الرئيس الألماني بضرورة زيارة الخرطوم التي كانت قد غادرت للتو "حقبة سوداء" بأن هذه العملية ستدمج هذا البلد الأفريقي الكبير والشاسع ضمن المنظومة العالمية.
سارعت ألمانيا إلى الإعلان عن "مساعدات جدية مباشرة"، وابتدرت ذلك بمنحة مساعدات مالية مباشرة قدرها (80) مليون يورو، ثم أعلنت عن مساعدات تقنية قيمتها نحو (15) مليون دولار لتطوير جهاز التحكم في الكهرباء في العاصمة السودانية، ولم ينفذ المشروع لأن الجانب السوداني كان غارقًا في توفير الخبز والوقود، والتغلب على الطوابير اليومية للمواطنين للحصول على السلع الضرورية مثل غاز الطبخ؛ فصانع القرار في وزارة الطاقة السودانية في ذلك الوقت وهما الوزيران المتعاقبان تواليًا عادل إبراهيم وعبدالرحمن خيري يبدو أنهما لم يستوعبا الرغبة الألمانية في المساعدات الفنية المباشرة بدلًا عن تقديم الأموال.
تحديث مركز التحكم الرئيسي وتطويره بالتكنولوجيا الألمانية التي لديها باع طويل في قطاع الطاقة، يعني قفزة كبيرة لقياس الطاقة المنتجة وتوزيعها وخفضها وتجنب الأحمال ومعرفة الخلل والقراءات الصحيحة للكميات في الشبكة العامة، لكن هذه الطموحات ذهبت أدراج الرياح.
واصلت برلين في تقديم المساعدات إلى السودان، وبدأت مشروع تطوير وتحديث الخطوط الجوية السودانية (سودانير) عبر شركتها العملاقة "لوفتهانزا" التي أرسلت بعثة إلى العاصمة السودانية الخرطوم في العام 2021، وبدأت في تقييم الوضع مع مسؤولي وزارة النقل و"سودانير". وطبعًا لم يكتمل المشروع الذي حددت الشركة مدته بثلاث سنوات، جراء الانقلاب الذي نفذه العسكريون في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وكانت ألمانيا أول دولة قررت تجميد المساعدات والتعاون مع السودان ضمن دول الاتحاد الأوروبي.
وزير الخارجية الألماني هايكو ماس الذي زار الخرطوم في أيلول/سبتمبر 2019 بعد أيام قليلة من تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة عبدالله حمدوك لم يغادر العاصمة السودانية قبل أن يردد الأناشيد من "أرض الاعتصام" قرب القيادة العامة مع الفتيات والشبان، مقدمًا مواساته للسودانيين في المجزرة التي كادت أن توأد أحلام الشعب.
ويبدو أن الحكومة الانتقالية في ذلك الوقت، وهي تستقبل وزير الخارجية الألماني وبعد أقل من أربعة أشهر تستقبل الرئيس الألماني، لم تستطع استيعاب الرغبة الألمانية في دفع الخرطوم إلى الأمام من منطلق الموقع الإستراتيجي لهذا البلد.
وفي حزيران/يونيو 2021 تعاقدت وزارة النقل السودانية مع شركة "هامبورج" الألمانية الاستشارية لتطوير الميناء الجنوبي في بورتسودان، بما في ذلك تطوير عمليات سحب الحاويات وتفريغها في زمن قياسي وزيادة سعة الحاويات ووضع نظام للصيانة المبرمجة والدورية للميناء الجنوبي.
إن هذه المشاريع الألمانية كانت تهدف إلى وضع السودان على "منصة تأسيس مؤسسات الدولة التي قد تدر عليها دخلًا ماليًا تمكن الحكومة من الحصول على موارد مالية بدلًا عن الاقتراض أو المنح الخارجية".
دفع السودان ثمن انسحاب ألمانيا من المشاريع التي بدأت العمل فيها غاليًا حينما وقع انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، وما يزال يدفع ثمن هذا الانسحاب بتراجع هذه القطاعات وتدهورها.
تحين الفرص للدول الأقل نموًا مرة أو مرتين، وهناك قادة سياسيون وزعماء يحاولون استغلال هذه الفرص لتحسين حياة شعوبهم، وهناك من لا يكترثون لها في سبيل توطيد السلطة التي بيدهم أولًا قبل كل شيء.
ربما امتلك عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق قدرة على استيعاب الفرص التي أتت إلى السودان، لكنه عمل في ظل توازن حساس حسب ما كان يردد، توازن بين عسكريين يتربصون وأحزاب لم تستوعب بعد أن هذا البلد شاسع ومترام ولا يدار من "الخرطوم" بعقلية "أركان النقاش".
وبعد مرور ثلاثة أعوام على اهتمام برلين بهذا البلد وتوقف هذا الاهتمام جراء الانقلاب العسكري، فإن الأمور لو سارت دون تقويض للحكم المدني، فمن المرجح أن السودانيين كانوا سيودعون قطوعات الكهرباء على الأقل إذا استمرت ألمانيا في التعاون مع السودان، مع الأخذ في الاعتبار جدية الجانب السوداني برئاسة عبدالله حمدوك وعدم انشغاله بصراعات العسكريين والسياسيين، إلى جانب وضع مشاريع الطاقة في السودان على الطاولة لتنفيذها عبر ألمانيا. والفرصة ما تزال سانحة أمام السودانيين حسب مجريات الأمور للاستفادة من الرغبة الألمانية في تقديم الدعم التقني والفني للمشاريع الكبرى التي تتمثل في الطاقة والنقل والموانئ، فهل يتمكن صانع القرار الحكومي في "الخرطوم" من استغلالها لمصلحة الشعب السوداني؟