في بلادي موارد مهدرة لا بواكي عليها، مسؤولون يتعاملون معها كحق خاص لهم مطلق الحرية في التصرف فيه من دون حسيب أو رقيب، إذ لم تبلغ بلادنا بعد مصاف دول المؤسسات التي تحاسب على كل شيء سواء كان تصرفًا عابرًا أو سلوكًا شخصيًا أو تصريحًا غير منضبط، ناهيك عن تبديد الثروات والأموال العامة والتلاعب بها.
استطعت الدخول إلى باحة مصنع الشركة الدولية كجيولوجي وليس كصحفي فلم يكن مسموحًا بدخول الصحفيين
يتمتع السودان بموارد هائلة من المعادن وخاصة المعدن الأصفر (الذهب) منذ القدم؛ فلم يكن غزو محمد علي باشا للسودان إلا لشيئين هما الرجال والذهب، وإلى يومنا هذا ما تزال نظرة الدول الخارجية إلى السودان لا تتعدى ذلك.
ومن ينظر للواقع يلحظ حقيقة ما أوردته ففي حرب اليمن التي طال أمدها يُصدر الجنود السودانيين للقتال فيها في بلاد لا علاقة لهم بها ولا علاقة لمصالح البلاد بما يجري فيها سوى الدفاع عن مصالح بلاد أخرى مقابل فتات أموال لا تغني ولا تسمن من جوع.
أما ملف الذهب ففيه حكاية أخرى تكشف عن عقلية الحاكم وأزمة الحكم التي تعيشها البلاد منذ الاستقلال، إذ يتعامل أغلب المسؤولين مع المناصب كأنها ورثة يعبثون بها كيفما يشاؤون.
من خلال عملي كصحفي سنحت لي الفرصة لزيارة مناطق التعدين التقليدي والمقنن في مختلف ولايات السودان منها الشمالية والبحر الأحمر وغرب كردفان وشمال دارفور، ووقفت بنفسي على طبيعة الحياة هناك وتعرفت من قرب على إدارة ملف التعدين فيها.
عقب سقوط نظام عمر البشير، زرت منطقة صواردة في الولاية الشمالية، حيث مصنع الشركة الدولية التابعة لجهاز الأمن والمخابرات العامة ولم يكن الدخول إلى مقر المصنع سهلًا لولا الاحتجاجات الكبيرة من قبل المواطنين حينها وتنفيذهم لاعتصام أمام المصنع للمطالبة بإغلاقه وترحيله نسبة للمخالفات العديدة والتأثيرات البيئية التي تم تأكيدها وفق دراسة علمية شارك فيها عدد من الأكاديميين المختصين في الشأن البيئي والجيولوجي وكان من بينهم عضو مجلس السيادة في حكومة الفترة الانتقالية البروفيسور صديق تاور.
استطعت الدخول إلى باحة المصنع بمعية وفد من المهندسين الجيولوجيين، كجيولوجي وليس كصحفي لأنه غير مسموح بدخول الصحفيين. وما أن وصلنا حتى جاء موظف حكومي يتبع للشركة السودانية للموارد المعدنية، وابتدر معنا نقاشًا أشبه بالتحقيق، وعندما تمت مواجهته بالمشاكل التي تسبب فيها المصنع، وبحكم وجوده كان يفترض به أن يضطلع بدوره الرقابي في حماية البيئة وإنسان المنطقة، بدأ في الدفاع عن نفسه أمام الحقائق التي تم إيرادها ومن بينها تسرب المواد الكيميائية وتأثيرها على البيئة وكذلك عدم الاستخدام الآمن لهذه المواد وفق الاشتراطات التي تقرها قوانين وزارة المعادن.
هذه الحادثة شكلت لدي فكرة عن طبيعة الرقابة التي يفترض أن تقوم بها الدولة لحماية البيئة والإنسان من الأضرار التي قد تنجم عن عدم الاستخدام الآمن للمواد الكيميائية وتطبيق الاشتراطات المتفق عليها من قبل الشركات العاملة في مجال التعدين.
عدد من العاملين في وزارة التعدين وخاصة الجيولوجيين منهم حدثوني في السابق عن ملف التعدين وكيف يدار بواسطة الحكومة السودانية، كما أنني ذهلت عقب تواصلي مع بعضهم لمعرفة المزيد عن تفاصيل تهريب الذهب وحقيقة الأمر وكيف تتم هذه العملية؟ وهل هناك جهات بعينها متورطة في الأمر؟ ومن المسؤول عنها؟ وماهي العلاقة التي تربط مبارك أردول بالملف الرقابي في الولايات؟ إلى جانب تفاصيل زيارتي لمواقع التعدين الأهلي في جبل عامر وغرب كردفان؟ للكشف عن الكثير المثير في هذا الملف عقب التحقيق الذي أعدته الزميلة الصحفية النابهة نعمة الباقر لشبكة (سي إن إن) الأمريكية، سأضع بين أياديكم المزيد من التفاصيل المثيرة عن هذا الملف في المقال القادم.