إلى جانب كونها مفتاحًا للنص بصورة مكررة، تأتي الجملة الأولى في أعمال الطيب صالح خاضعةً لطبيعة النص البنائية، في أخذ موقع معتاد من حيث كونها الاستفتاح الذي -خلال سعيه إلى الترابط مع اللاحق من النص لتشييد فضائه- سيُدين بولائه للمقابلات.
تبدأ قصة "دومة ود حامد" بانتباهة تُستثار لصالح البدء في تشييد فضاء سيأخذ بالتوسع وبواسطة المقابلة
فتبدأ قصة "دومة ود حامد" بانتباهة تُستثار لصالح البدء في تشييد فضاء سيأخذ بالتوسع وبواسطة المقابلة. فمن الجملة الشرطية البسيطة "لو جئت بلدنا" يضعنا النص أمام عالم سردي واسع ومرصوف بالمقابلات: نحن/أنت، الساكن/الغريب، الريف/المدينة، الأسطورة/العلم.. إلخ.
ولا غرابة يمكن استنفادها لصالح هذا التكليف المكرر لتوظيف المقابلة، كما لا غرابة في الالتزام بتحميل الاستفتاح وزر الحكاية، طالما أنه يصدر من الذي سمي من قبل بعبقري الرواية العربية؛ فتشبه عملية القراءة تتبعنا لتيار نهر، لولا أنه تتبع معكوس، أي من المصب إلى المنبع؛ حيث جدارة اللقب التي تكشف عن بعض طرائقها. ففي تكرار تقنية بعينها، لا يحول هذا التكرار دوننا والاكتشاف أو حتى يصبح عائقًا أمام جلاء خطوات الأسلوب التي تظهر في طريقه إلى تنزهه عن إثارة الملل، وصولًا إلى وصفه بالعبقرية. ذلك بسبب الدهشة المتجددة حين الكشف عن مرادها -أي تكرار التقنية- وهو هذا التكثيف الذي يأخذ بلب الحكاية ومن ثم يعيد إنتاجها بحيث تنتهي أولًا في كفاية فضول القارئ المستكشف للحكاية، وثانيًا في تذويقها للبداية وإغواء تعريتها من دون الوقوع في فخ ابتذال الحكاية.
بالتالي إذا أمكننا أن نقول عن الجملة الأولى، فبما نفهمه كذلك عن الإخفاء وليس فقط عن الإظهار، وبأنها -أي الجملة الافتتاحية- لا هي رمز الحكاية ولا هي خلاصتها، لكنها صيرورة الحكاية نفسها، تلك التي تبدأ وتنتهي عندها؛ فهي مصب النهر (النتيجة) الذي أمام أعيننا، ولكن لن يمكننا تحصيل المعرفة بمنابعه إلا عبر خوضنا رحلة عكسية (طريق البحث بالدلالات) نتتبع فيها السرد إلى نهاياته عن طريق القراءة.
فما زالت روائع الأدب الخالد على مر العصور تدين لهذا الاستمرار في وقوفها مواجهة النسيان والزمن إلى توكئها على عصا الافتتاحيات التي تكثف الحكاية وتعطيها كيانها دون أن تكشف عن وجهها كليةً.
وللأعمال التي سطرت أسماء مؤلفيها بأحرف لا يطالها الزمن بالتجاوز، كانت استفتاحيات الأعمال الكلاسيكية هو ما ينهمك بالعمل في تأسيسه على هذا الخلود في الزمن.
ولبداية البداية فأب الرواية الحديثة "سيرفانتس" كما يحب لكثير من النقاد تسميته، برائعته "دون كيخوته" التي تبدأ بـ "في مكان ما في لامانشا، في منطقة لا يعني تذكرها، عاش قبل زمن طويل رجل نبيل، من هؤلاء الذين لديهم رمح ودرع مركونان على الرف". هذه البداية التي لن تكتفي بكونها مجرد افتتاحية موفقة لأهم الأعمال الأدبية في عصرنا، إذ أنها لا تعمل فقط على تهيئتنا لخوض مغامرة بانتهائها تعلن عن الحدود الفاصلة بين العالم الروائي والواقعي، لكنها تنتهي أيضًا إلى مهمة تدبيج السمات الوجودية لعصر بأكمله، هو عصر الفروسية الذي انقضى ولم يتبقَّ منه للتناول إلا النقد الساخر.
بينما سيبدأ "تولستوي" في "آنّا كارنينا" بـ "كل العائلات السعيدة متشابهة، لكن تعاسة كل عائلة من نوع مختلف". فلا تصير هذه البداية إلى عبقريتها بنسبها إلى عمل عظيم كلاسيكي آخر، لكنها تظل مفتاحًا لهذا النص الذي ينفتح على عالم يتلمس فيه القارئ منذ الجملة الأولى ملامح واقع شمولي ومشغول بنفسه عن الفرد، لا يحكي لنا عن ماهية الشعور بالسعادة إلا كتعميم معني بالاحتفاظ بخصوصية التعاسة.
إن عصورًا بأكملها يتم الكشف عنها بواسطة الأدب، تكشف عنها أعمال بعينها، فلدينا كافكا الذي يحيلنا إلى النظر بطريقة أخرى للواقع (تحقيقه حلم السوريالية كما يقول كونديرا في دمج الحلم بالواقع) فبواسطة "التحول" وبدايتها غير المعقولة وغير الواقعية بالمرة "استيقظ غريجوري سامنثا بعد أحلام مزعجة على فراشه وهو حشرة"، لم يكن فرانز يكتب فقط قصة مثيرةً عن موظف يتحول إلى حشرة، لكنه كان يدشن الوصف المنفلت عن بلادة الواقعي لملهاة هذا العصر الحداثوي؛ حيث "يستيقظ" الإنسان نتيجة "أحلام مزعجة" على "واقعه الممسوخ" الذي يتنافى مع أي قيمة أسبغت عليه من قِبلنا.
تنتهي افتتاحية العالم النصي إلى كونها تحديًا بسبب ما تمثله بالنسبة للقارئ الذي عندما يبدأ في مطالعة عمل ما فإنه يكون مسبقًا أمام عالم مغلق عن إدراكه، عالم غريب عنه تمامًا، سيعتمد في عملية استكشافه والنفاذ إليه فقط على تتبّع السرد.
ومثلما يكون علينا بعد اختبار الأرض البدء بتشييد الأساسات في طريقنا لإنشاء الصروح، كان على الكاتب أمام البياض الأبدي للصفحات الخالية اختيار جملته الأولى؛ فهي التي سيعتمد عليها كأساس يتم تشييده، ومن ثم لتكون مسؤولة عن مسار السرد لاحقًا. وبتعبير الروسي إيفان بونين فالجملة الأولى هي ما سيحدّد صوت العمل نفسه.
وتبدأ قصة "دومة ود حامد" بحرف امتناع يُفصل فيه بين شطره وجوابه "لو جئت بلدنا سائحًا، فأغلب الظن يا بنيّ أنك لن تمكث فيها طويلًا"، ذلك بواسطة عبارة "أغلب الظن" التي تمنح وجودها لصالح دلالة التردد في إصدار الحكم القاطع الذي سيستمر في تردده بين جنبات القصة، مانحًا أفقها البراءة من تهمة إطلاق الأحكام الجاهزة أو النهائية.
فنحن أمام سارد متواضع، لا يغريه موقعه من السرد أن يحيكه مقاسًا على أوهامه. وبدلًا عن ذلك ينهمك في سرد يبدأه مجملًا، وينهيه بتفصيله لليومي.
تخبرنا أيضًا هذه الافتتاحية عن وجود شخصيتين، يمسك فيها "الأكبر سنًا" بلجام الحوار السردي يوجهه أينما شاء. وتأتي معرفتنا بالأكبر سنًا من مخاطبة السارد للشخصية الأخرى "يا بنيّ" والتي في المقابل يبدو أنه في زيارة سريعة للقرية، ولأول مرة.
فيأخذ السارد الأول موقعه من حيث البنية الموضعية للسرد، مستغلًا فرصة أنه سيبدأ الحكاية. ومن صوته سينسج عالمها.
وبينما السارد الثاني هنا الآن في القرية -كما يتضح- إلا أن ذلك لا يمنع السارد الأول من استخدام صيغة الماضي المستمر؛ فيقدم بواسطته وصفًا دقيقًا للقرية (وصفًا يمكن تسميته بالداخلي) مع إحكام سيطرة صوته على الجو السردي الذي ينشغل بإخبار يأخذ في صورته بانورامية تطل على القرية، فتلتقط بداية الأجواء المحيطة بها. إذ يبدأ السارد الشيخ بوصف السماء "ترى سحابة داكنة ربضت على البلد"، ومن ثم يصف الجو صيفًا أو شتاءً. وفي الحالتين يمدنا هذا الوصف بمنح صورة مزعجة وغير لطيفة بالنسبة للزائر، ولو حدث وكان الجو متمكنًا منه الاعتدال لا تطرف الظروف الطبيعية وليس هناك وجود "النمتة" أو "ذباب البقر" فإنه لن يكون هناك شيء! ذلك مقارنة بالمدن التي سيكون فيها جرائد، وإذاعات، ودور سينما.
وبالعودة إلى البداية "لو جئت بلدنا سائحًا.." نجد أن الامتناع الظاهري لتركيب الجملة يخفي من تحته إمكانيةً لهذا المجيء بوجه آخر غير السوح. إنه وجود كامل لعالم آخر لا ينفتح على إمكانياته بسبب هذا النفي؛ ليستمر بعدها السارد في دس عوالم أخرى غير تلك التي ينصفها بالقول، والتي لا تبدو إلا كغطاء قشري لهذه العوالم. ولكي يتعرف هذا الزائر عليها يتوجب عليه في المقام الأول التغيير من وضعية هذا الاشتراط الذي يضعه فيه السارد ويقدمه كأمثولة لصالح وجوب وجود عوالم أخرى.
تخبرنا أيضًا هذه الافتتاحية عن وجود شخصيتين، يمسك فيها "الأكبر سنًا" بلجام الحوار السردي
إنها مرافعة ضد التصورات المسبقة، فالسائح لا يمكنه أن يتعرف على عالم يوفد إليه، حيث الفائدة المرجوة من هذا الفعل تنتفي في حال معرفته بطبقات العوالم المتراكبة، والمخفية من تحت هذا الواقع الذي لا يعرف عنه إلا دوافعه لهذه الزيارة.