كيف غرقت قرى المناقل بولاية الجزيرة وسط السودان بالسيول التي ارتفعت لمستوى بلغت حدود الأمتار عن سطح الأرض؟ هذه هي الأسئلة التي تشغل الرأي العام المحلي في السودان في الوقت الراهن.
تقع منطقة المناقل التي تضم عشرات القرى جنوب ولاية الجزيرة وسط السودان، وهي منطقة زراعية تضم أقسام زراعية كبيرة وقنوات ري بأنظمة استمرت منذ عقود رغم التدهور الذي اعترى المشروع الزراعي الأكبر في البلاد.
يقول خبراء في الري إن القنوات الرئيسية في الجزيرة لم تكن مهيأة لتحمل كميات هائلة من المياه في موسم الفيضان
من ينظر إلى قنوات الري في مشروع الجزيرة -والمناقل ليست استثناء- سيلاحظ كيف أنها فقدت البنية التحتية التي ميزت أنظمة الري بسبب سوء الإدارة والإهمال والسرقات التي طالت الكتل الحديدية التي تتحكم في تمرير المياه وحجزها.
بدأت السيول في منطقة المناقل قبل أسبوع كامل، ووصلت المياه عبر قنوات الري التي فاضت عن قدرتها الاستيعابية إلى القرى المجاورة، بينما استغرقت حكومة الولاية أسبوعًا كاملًا لاعتبار المناقل "منطقة كوارث" تستدعي التدخل الإنساني.
ويقول خبراء في أنظمة قنوات الري إن القنوات لم تكن مهيأة لاستقبال "كميات فوق المعدلات الروتينية" من المياه القادمة من خزان سنار الواقع جنوب المناقل، حيث اضطرت وزارة الري إلى إغلاق البوابات لمنع مرور المياه إلى مشروع الجزيرة.
وقال مصدر حكومي من وزارة الري لـ"الترا سودان" بعد أن اشترط حجب اسمه إن "وزارة الري مسؤولة عن خزانات المياه، ولم تمرر المياه المخزنة في سنار، والكميات التي عبرت تتمثل في السيول والفيضانات والأمطار".
وأضاف المصدر الحكومي: "لدينا سجلات يومية في المحطات النيلية، ونحن أوصلنا كميات المياه الواردة من خزان سنار إلى مشروع الجزيرة والمناقل إلى درجة الصفر حتى نجنبها السيول الغرق".
توقف التمويل
وقالت تقارير إعلامية إن وزارة المالية لم تمول مشاريع نظافة قنوات الري قبل موسم الفيضان، وهي إجراءات روتينية كانت تمولها الحكومة في السنوات السابقة، ومع تدهور قنوات الري في المشروع حجزت كميات هائلة من المياه، والتي غمرت المناطق السكنية في المناقل بغرق القرى الواقعة على مقربة من قنوات الري الرئيسية "الكنار" القادمة من خزان سنار.
ونقل خبير في الخزانات بوزارة الري السودانية لـ"الترا سودان" رافضًا الكشف عن هويته، أن طريقة توزيع قنوات الري بالتدرج في مشروع الجزيرة والمناقل لا تسمح بحدوث الفيضانات والسيول إلا في حالة وجود عجز في تصريف المياه وانفجارها في بعض المناطق وتغيير طريقها إلى المناطق السكنية.
وتابع: "يحدث هذا الأمر نتيجة اصطدام المياه المندفعة بوجود عوائق أمامها في القنوات الرئيسية. وما حدث في المناقل نتيجة طبيعية للإهمال الذي طال قنوات الري لعدم توفر التمويل الحكومي".
وأجرى "الترا سودان" اتصالًا هاتفيًا بمتحدث وزارة المالية للاستفسار عما إذا كانت الوزارة وفرت تمويل نظافة قنوات الري، ولكن لم يتم الحصول على المعلومات المطلوبة لعدم الرد.
اللافت في الأمر أن وزارة المالية أعلنت في الأول من آب/أغسطس أنها أفرجت عن (45) مليار جنيه لتمويل العروة الصيفية متأخرة فترة شهرين عن الوقت المطلوب، الذي كان يُنتظر أن يكون جاهزًا نهاية أيار/مايو الماضي.
وصنفت حكومة ولاية الجزيرة المناقل "منطقة كوارث" عقب السيول التي اجتاحت مساحات شاسعة في المحلية الواقعة جنوب الولاية وشردت الآلاف من مساكنهم.
تدهور قنوات الري
ويعتقد الخبير الزراعي المتقاعد عبد الله أنور في حديث لـ"الترا سودان"، أن إزالة الحشائش والعوائق من قنوات الري في مشروع الجزيرة يتم عبر حملات حكومية درجت السلطات المختصة على تنفيذها سنويًا قبل موسم الفيضان، لافتًا إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تدهورًا في هذه المشاريع المهمة، وبالتالي متوقع أن لا تجد المياه القنوات سالكة وتهدمها في بعض الأحيان لأنها لم تجد برامج التقوية الهندسية.
وأشار أنور إلى أن الصرف على هذه المشاريع لم يكن أولوية بالنسبة للسلطة الحاكمة التي تنفق على القطاع الأمني بسخاء شديد، موضحًا أن "كارثة المناقل" مضاعفة مرة بعدم تأهيل قنوات الري ومرة أخرى بالخسائر التي تكبدها المواطنون في فقدان المنازل والممتلكات والإنتاج الزراعي والماشية.
وتابع: "أنا اؤيد محاكمة المتسبب في التقصير الحكومي حتى لا يكرر أي مسؤول ما حدث هذا العام مرة أخرى".
بينما علقت السلطات المحلية بولاية الجزيرة على "كارثة المناقل" بالقول إن السيول تفوق إمكانيات الولاية، وعزا أمين عام حكومة ولاية الجزيرة مصطفى دفع الله، السيول والأمطار التي شهدتها الولاية لـ"التغيرات المناخية".
أقمار صناعية
وأثبتت الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية فوق خزان سنار عدم تمرير كميات فوق المعدل من المياه إلى مشروع المناقل، ما ينفي فرضية فتح بوابات السد بالتزامن مع الأمطار الغزيرة والسيول.
وكتب أيمن حمدي المهتم بتتبع صور الأقمار الصناعية على حسابه الشخصي على فيسبوك قائلًا: "وفقًا لما راج في الوسائط لصور أقمار صناعية مأخوذة من خرائط غوغل، وبعد النقاش مع الزملاء من المختصين والمهندسين في الشركة؛ نوضح أن الصورة مأخوذة من "غوغل مابس" ومصدرها إيرباص بتاريخ تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أي قبل موسم الخريف الجاري بتسعة أشهر".
وأضاف: "راجعنا صور فضائية حديثة من منصة "بلانت" الأمريكية، لنجد أن هنالك تغييرًا طفيفًا تم في تشغيل خزان سنار ليس له أثر في الكارثة المرصودة".
ونوه حمدي إلى أن متابعته لمجرى القناة الرئيسية من خزان سنار لم يرصد أي فيضان من القناة، حيث غمرت مياه السيول والأمطار المناطق المنخفضة قرب القناة.
تظل أسئلة الإهمال وضعف التمويل وتأخر رد الفعل قائمة ليجيب عليها المسؤولون
وقال حمدي إنه رصد سيول مندفعة نحو المناطق المنخفضة، مما يستبعد أي فرضية تم تداولها حول أثر القناة الرئيسية على الكارثة.
إزاء هذه المعلومات التي بذلها متطوعون ومختصون في تتبع صور الأقمار الصناعية فإن النظريات الرائجة عن فتح بوابات خزانات سنار على المنطقة ليست هي السبب المرجح في غرق قرى المناقل، ولكن تظل أسئلة الإهمال وضعف التمويل وتأخر رد الفعل قائمة ليجيب عليها المسؤولون لسكان المناقل المنكوبة بكارثة هي الأسوأ من نوعها منذ عقود طويلة، في المنطقة الزراعية الوادعة التي ظلت ترفد البلاد بالمحاصيل والثروة الحيوانية.