إسمها سواكن، وفي رواية أخرى "سواجن" حيث يعود الاسم إلى أسطورة تنتمي إلى عصر النبي سليمان، وتقول الأسطورة إن سليمان استضاف فيها بلقيس ملكة سبأ، ومن بعد قرر جعلها سجناً لمن يعصون أوامره من الجن.
صارت سواكن تحت الأضواء مؤخرًا بعد موافقة حكومة السودان على وضعها تحت تصرف تركيا مؤقتاً لتعيد ترميمها وأشعل هذا جدلًا خاصة في مصر والإمارات وإرتريا
ولسواكن السودانية مرويات شعبية قديمة، فقطط سواكن تثير الإعجاب حسب الكثيرين، فهي أكثر التصاقاً بذاكرة من مروا بها، قطط غريبة الأشكال وتمد أصابعها لتصافح الزوار، ويعتقد البعض أنها تتحدث إلى بعضها وتضيء بعيونها اللامعة عتمة الليل.
اقرأ/ي أيضًا: مصر والسودان.. آفاق النزاع الكبير حول كيفية التعامل مع سد النهضة
لكن بعيدًا عن الأساطير، تكتسب سواكن أهميتها من كونها أقدم ميناء سوداني ومعبراً للحجاج الذين يشدون الرحال إلى مكة. إضافة إلى لمحة جمالية أثرية طاغية، لا تزال تلون قصورها العتيقة. يمكنك أن تستنشق عطر التاريخ العالق في الجدران، فقد رُصفت المدينة القديمة فوق جزيرة مرجانية، وأحيطت بالطابع العثماني.
عندما تزور سواكن حالياً ستُفاجأ بأنها مجرد أطلال لمدينة تبدو خارجة للتو من حرب عالمية، ليس ثمة حركة تجارية ولا بشرية بعد أن انتقل الميناء الرئيس إلى مدينة بورتسودان التي شيدها الإنجليز، ونفخوا فيها من روحهم الاستعمارية لتغطي على البعد الإسلامي العتيق لسواكن.
جغرافياً، الوصف الأبلغ لسواكن هو أنها ميناء ثانٍ في شرق السودان وجزيرة أقرب إلى مزار سياحي، تبعد عن العاصمة الخرطوم 560 كيلومترًا ومساحتها 20 كيلومترًا مربعًا وترتفع عن سطح البحر 66 متراً. وتنبع القيمة الاستراتيجية لها في قربها من ميناء جدة السعودي، وقد استخدمها الحجاج الأفارقة قديماً في طريقهم لمكة، كونها الطريق الأقرب والأكثر أماناً، وبالرغم من أن الاستعمار الإنجليزي الذي حط ببواخره على ساحل البحر الأحمر اختار أن يميز مدينة بورتسودان عليها، بذريعة عدم صلاحيتها لاستقبال السفن الكبيرة، إلا أن الوجه الآخر لذلك التجاهل يكمن في رمزية سواكن وطرازها العثماني الفريد، حيث غزاها السلطان العثماني سليم الأول في القرن السادس عشر، وخلال الحكم العثماني كانت تابعة لولاية الحجاز، ثم مقرًا لحاكم ولاية الحبشة العثمانية التي تشمل مدينتي حرقيقو ومصوع في إريتريا الحالية، ورفض العثمانيون تبعيتها لمحمد علي باشا والي مصر، وأجروها له مقابل مبلغ سنوي، وها هم أحفادهم يعودون إليها اليوم باهتمام.
وذلك بعد أن أعلن السودان أنه وافق على ما سُمي تطوير تركيا لسواكن، ويُذكر أن علاقة تركيا بالمدينة ليست جديدة وإنما كانت هناك جهود سابقة لإعمار المدينة، ومن ذلك إعادة تشييد مبنى الجمارك، وتأهيل المسجد الحنفي والمسجد الشافعي، وصيانة مبنى المحافظة، بجانب الاتفاقيات المبرمة مع منظمات تركية لتشييد مباني أخرى وترميم الأثار، كما أن العمل قائم لإخلاء المدينة من سكانها، بوصفها جزيرة سياحية وتعويضهم، حسب ما ذكره معتمد سواكن خالد سعدان.
ما جعل سواكن تعتقل الأضواء نهاية العام الماضي ومطلع هذا العام ليس تلك الأساطير التي تدور حولها، وإنما هذه الموافقة من حكومة السودان بوضعها تحت تصرف تركيا مؤقتاً لتعيد ترميمها ومن أجل تطويرها، وأشعل هذا جدلًا، وثارت ثائرة الجوار العربي، تحديداً مصر والإمارات وإرتريا، وذلك بحجة أن تركيا سوف تقيم عليها قاعدة عسكرية.
يقول الكاتب الصحفي وائل علي لـ"الترا صوت" إن "السودان يبحث عن مصالحه مع تركيا ولا يرغب في جعل سواكن قاعدة تجلب له المتاعب كما يردد الإعلام المصري، الهدف هو جعلها مدينة أثرية لتشجيع السياحة لكن هذا قد يعني بالنسبة للمصريين الاستئثار بجزء من سياح مصر بعد تردي الأوضاع الأمنية المصرية وتراجع السياحة"، كما أن السودان، والحديث لذات المتحدث: "منطقة جذب سياحي، واكتسبت قيمتها في ثباتها على الطراز العثماني الإسلامي وأي عون تركي في البحر الأحمر سينعشها".
يُروج الإعلام المصري إلى أن تركيا تهدف إلى إنشاء قاعدة عسكرية في سواكن بينما تختص الإمارات بالبحث عن السيطرة على معظم الموانئ المهمة عبر إدارة موانئ دبي
يحكي محدث "الترا صوت" من منظور زياراته المتكررة إلى سواكن أنها لا تصلح كقاعدة عسكرية، وهي حجة النظامين المصري والإماراتي بشكل خاص، ويقول في محاولة لإثبات وجهة نظره: "نسبة لصغرها، المدينة كبيرة ولكن الجزيرة صغيرة، ما تبقى فيها من منازل هو حوالي ثلاثمائة منزل، وعدد السكان ألف نسمة، والإنشاءات الجديدة تقوم بها شركات تركية تضم المباني على الشكل القديم".
وفي سياق تعليقه على حملة الإعلام المصري والإماراتي وأخيراً الإرتري على السودان، يقول إن الحملة لم تقدم دليلاً واحداً على أن السودان باع المدينة إلى تركيا لتجعل منها قاعدة عسكرية، لأنه لم يرد أي حديث عن البيع أو التنازل، ولم ينجح الإعلام المصري في تعزيز مخاوف السعوديين، بحسب وائل علي، بدليل أن السعودية اكتفت بتطمينات النظام السوداني لها ولم تصعد الأمر.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة الخبز في السودان.. مقاومة بالحيلة لمناورات السلطة
وقبل أيام، كانت حطت طائرة نائب رئيس الوزراء الإماراتي منصور بن زايد في الخرطوم، وهي أول زيارة لمسؤول إماراتي رفيع خلال السنوات الماضية، ورغم كون الزيارة قد أحيطت بسرية تامة، إلا أنه رشح أن الوزير الإماراتي التقى بالبشير وقدم إليه عرضاً مغرياً مقابل إيقاف التعاون التركي ومنع صفقة انتقال إدارة سواكن إلى الأتراك، إلا أن الرئيس السوداني، بحسب ذات التسريبات، طمأن السلطات الإماراتية بأن السودان لن تنطلق منه أي مواقف عدائية تجاههم، وأعاد التأكيد أن الهدف من الوجود التركي في سواكن اقتصادي وسياحي وهو وجود مؤقت.
في الوقت نفسه خرج الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في حوار تلفزيوني أول الأسبوع الماضي واتهم من أسماهم بـ"أصحاب المصالح في السودان وإثيوبيا"، بـ"محاولة خلق صدام بين الخرطوم وأسمرا"، وعلق سلباً على زيارة أردوغان للسودان.
أسياس أفورقي في حديثه للتلفزيون الإيرتري قال: "الوجود العسكري في سواكن إن صح غير مقبول". وأضاف: "لست متأكداً من الوجود العسكري التركي في سواكن أما الوجود التركي في الصومال فهو غير مقبول ولا يساهم في استقرار المنطقة". وشدد على أن "تركيا تنفذ أجندة الإخوان المسلمين في البحر الأحمر بدعم قوى الهيمنة العالمية وتسعى لفرض نفوذها في المنطقة".
تتعامل الإمارات مع قضية سواكن من منطلق الصراع على الموانئ في البحر الأحمر، ولذلك تحرص على استقطاب السودان لحلفها
تصريحات أسياس أفورقي أعقبها بزيارة إلى مصر منتصف الأسبوع الماضي، فيما أغلق السودان حدوده الشرقية مع إرتريا وأعلن حالة الطوارئ، وذلك بعد تلقيه معلومات أمنية بوجود أخطار تتهدد البلاد، وتقودها مصر واريتريا انطلاقاً من قاعدة "ساوا" بحسب مساعد الرئيس السوداني المهندس إبراهيم محمود.
لرئيس هيئة الأعمال الفكرية السودانية محمد الواثق وجهة نظر تعيد الصراع حول سواكن إلى مربع الاستقطاب الإقليمي، إذ يعتبر أنها "تتنزل كمحاولة إماراتية ـ مصرية لمنع السودان من الاصطفاف مع تركيا، وهي مجرد ذريعة لإثارة الغضب حول الاصطفاف الجديد للسودان، كما أوضح الواثق لـ"ألترا صوت"، بجانب التقاطعات العسكرية والاقتصادية.
يتعامل محمد الواثق مع قضية سواكن من منطلق الصراع على الموانئ في البحر الأحمر، ويآخذ على الإمارات رغبتها في السيطرة على معظم الموانئ المهمة عبر إدارة موانئ دبي، مثل ميناء عدن وميناء جيبوتي ومحاولتهم ذلك في مصوع، وربما عينهم على ميناء سواكن.
و"سواكن كانت نقطة ارتكاز عثمانية وولاية ساحلية تطل على الحجاز، وهي تحمل مدلول الحماية التاريخي للدولة العثمانية على المنطقة الإسلامية ومعابرها كافة"، حسب الواثق، وتلك إشارة رفضها وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في تغريدته الشهيرة حول حاكم المدينة فخري باشا، ونتجت عنها مساجلات بين بن زايد وأردوغان، تسببت في أزمة دبلوماسية بين البلدين. ومع ذلك تكتسب سواكن كل يوم صيتاً جديداً، وحضوراً لافتاً في الإعلام وتصريحات المسؤولين، لدرجة أنها تكاد تكون المدينة التي سوف تقصم ظهر البحر الأحمر.
اقرأ/ي أيضًا:
"الرجل البمبان" في السودان.. تصاعد وتيرة الاحتجاجات والقمع والاعتقالات