13-نوفمبر-2023
الفنان والموسيقار السوداني محمد الأمين

الفنان والموسيقار السوداني محمد الأمين

بعد فترة غياب وافتراق قسريَّيْن امتدا سبعة أشهر، فجع السودانيون صباح اليوم الإثنين 14 تشرين الأول/نوفمبر 2023، برحيل الفنان والموسيقار محمد الأمين. فطوال (60) عامًا أو تزيد لم يغب صوت المغني وموسيقاه عن جمهوره المتجدد جيلاً إثر جيل، وربما مثّل هذا الارتباط النادر بين فنان وجمهوره حالة استثنائية في تاريخ الغناء السوداني، لم تتحقَّقْ لأيٍّ من الفنانين السودانيين الآخرين من الكبار. رحل محمد الأمين اليوم، بعيدًا عن جمهوره ومحبيه، بعد أن أجبرت الحرب الدائرة في مدينته الخرطوم، وقريبًا جدًا من مسرح جمهوره الأثير (نادي الضباط) على الانسراب خارج السودان، ومن ثم الانسياب بعيدًا خارج مدارات الدنيا؛ مثل زورق لحني أسطوري يعبر عباب "النوتات" الموسيقية العبقرية.

تغني الفنان محمد الأمين لعشرات الشعراء منذ بداية مسيرته الغنائية، في بداية ستينات القرن الماضي، إذ كانت أغنية "أنا وحبيبي" أولى أغنياته الخاصة

فنان الثورات والعشاق

اسمه كاملًا محمد الأمين حمد النيل الطاهر الإزيرق. ولد في 20 شباط/فبراير 1940 في قرية "ود النعيم" التي تبعد (20) كيلومترًا جنوب غرب مدينة "ود مدني" بولاية الجزيرة. وهناك في مدينة "ود مدني" تشكلت الذائقة الموسيقية واللحنية لـ"ود اللمين"، ففي هذه المدينة الفريدة، ومنذ وقت مبكر جدًا، كان الاهتمام كبيرًا بالموسيقى وتعليمها ورعاية الموهوبين من أبنائها على أيدي معلمين موسيقيين محترفين، وهو ما حظي به "ود اللمين"، إذ وجد الاهتمام الأول من "خاله الأستاذ بلة يوسف الإزيرق فأجاد العزف على آلة المزمار ثم آلة العود التي تمكن منها وهو لم يتعد (12) عامًا"، ثم تطورت ملكاته الموسيقية على يد معلمه في المدرسة الأولية الأستاذ السر محمد فضل الذي رعى موهبته الفذة وعلمه إتقان العزف على آلة العود.

اشتهر الفنان محمد الأمين بأدائه للأناشيد والأغاني الثورية والوطنية، لكن هذا لم يمنع تميزه غير المحدود في تلحين الأغنيات العاطفية وتوزيعها وأدائها، وهي الأغاني التي شكلت القاعدة الكبرى من جمهوره. كان "ود اللمين" يحفظ كلمات تلك الأغنيات "مموسقة"، ويرددها تطريبًا وغناءً على مدى سنين، وكأنها ألحان أبدية التجدد غير مرتهنة للوقت ولا اختلاف الأذواق مع تقادم الأجيال.

https://t.me/ultrasudan

ثورة أكتوبر

يكاد "ود اللمين" أن يكون فنان "ثورة أكتوبر" الأول، فهو أول من تغني لهذه الثورة المجيدة (نشيد أكتوبر 21 كلمات فضل الله محمد)، وهو النشيد الذي ظل يردده السودانيون سنويًا في ذكرى أولى ثوراتهم ضد الحكم الديكتاتوري في السودان، إلا أن مأثرة "ود اللمين" الكبرى في الغناء للثورة والثوار كانت مشاركته الرئيسة في أداء النشيد الملحمي لثورة أكتوبر (قصة ثورة)، ففي هذه الملحمة أظهر محمد الأمين كل قدراته الأدائية واللحنية في تقديم عمل خالد يمجد الثورة والثوار والشهداء، ويرسخ إلى الأبد في أذهان السودانيين قيم الفداء والتضحية والانتفاض لأجل الحرية والمساواة والحياة الكريمة في وطن حر معافى.

الفنان والموسيقار السوداني محمد الأمين
يعد محمد الأمين أحد أيقونات الفن السوداني

شعراء وأغانٍ خالدة

تغني الفنان محمد الأمين لعشرات الشعراء منذ بداية مسيرته الغنائية، في بداية الستينات من القرن الماضي، إذ كانت أغنية (أنا وحبيبي) أولى أغنياته الخاصة، وأولى ألحانه وتوزيعه، وهو ما يميزه في مساره الفني الممتد منذ تلك اللحظة وإلى أوان رحيله المفجع. ومن الشعراء الذين تغنى "ود اللمين" بأشعارهم وخلد أعمالهم: الأستاذ هاشم صديق، والأستاذ فضل الله محمد، والدكتور مبارك أحمد خليفة، ومحجوب شريف، وخليفة الصادق، والدكتور عمر محمود خالد، وإسحاق الحلنقي (وعد النوار، وبتتعلم من الأيام، وغربة وشوق، ولقاء وعهد)، ومحمد علي جبارة (بعد الشر عليك)، والدكتور مبارك بشير (عويناتك)، وصلاح حاج سعيد (يا جميل يا رائع)، وخليل فرح (ود مدني)، وشعراء آخرين تغنى لهم بأجمل الأغنيات وأروعها.

سودانيون ينعون فنانهم العبقري

كتب الشاعر والكاتب بابكر الوسيلة ناعيًا الفنان "ود اللمين": "في طفولتي المبكِّرة، كنت أسترق السَّمع إلى صوت شقيقتي الكبيرة نفيسة، وهي تدندن بأغانٍ كانت تتسلَّل إلى قلبي كموجة هادئة وتُشكِّل الأعصابَ الأولى المفتولة بأوتار الموسيقى. عرفت سريعًا أنَّها أغانٍ تخصُّ واحدًا يسمَّى "الفنان ود اللَّمين"، إذ إنَّ كلمة "فنَّان" كانت في ذهني منشبكة تمامًا باسم الفنَّان نفسه (وهل يُولد الفنَّان إلَّا فنَّانا؟!). وحين عرفت لاحقًا من أولاد حيِّنا بالحارة (11) بأم درمان الثَّورة، بأنَّ الفنَّان ود اللَّمين، يأتي كل يوم عابرًا شارع بيتنا تمامًا من الجهة الغربية بعربته المارسيدس بيضاء اللَّون، زادت فرحتي وأحسستُ بأنَّ شيئًا مهمًا وعظيمًا يمرُّ أمام بيتنا كلَّ يوم، كأن يكون النَّهر يعبر أمامك وأنت تعيش على ضفافه بزادٍ وفيرٍ من الخير جسدًا وروحًا؛ وهكذا صرت أنتظر مرور ود اللَّمين (وبالظَّهيرة مروره) كموجة أغتسل بها من عرق اللَّعب مع أطفال الحي وغباره، مخلِّفًا هذا الاغتسال اليوميُّ ما يمكن تسميته، اليوم، بالذَّاكرة الشِّعريَّة الأولى للطُّفولة (بخيوط مع آخرين طبعًا)، وهي الَّتي مكَّنت الموسيقى (الجماليَّة) من التَّغلغل إلى داخلي بهدوء دون عناء تكلفة الذِّهاب إلى بيت شعر".

ويضيف الوسيلة: "حين أقرأ، في هذه اللَّحظة، نبأ رحيل ود اللَّمين، فإنَّني من المؤكَّد سأكذِّب النَّبأ وأصدِّق طفولتي بدندناتها تلك، ذلك أنَّ نهرًا نغتسل منه ويُزوِّدنا بهفهفة العناصر الكونيَّة بداخلنا، لن يجفَّ أبدًا، كما أنَّ الموسيقى لا تقول غناءً فحسب (على حدِّ قصيدة شاعرنا سيد أحمد بلال)، بل إنَّها تمنح الرُّوح عافيتها كما هي موسيقى ود اللَّمين وتفتح النَّهرَ نحو أبديَّة طليقة".

وكتب الروائي والكاتب شكري عبدالقيوم عن ذكرياته مع محمد الأمين حين كان يقابله في صلاة الصبح في مسجد الشيخ زين العابدين في بحري المزاد. وقال إن "ود الأمين" كان "آية من الآيات العجيبة، عبقرية مخيفة، وشخصية ممتلئة تمامًا بالفن"، مشيرًا إلى ما كان عنده من "توازن عجيب بين اللطف الفنان والوقار المُلْهِم الفنان". يزيد عبدالقيوم بأن "ود الأمين" كان يشع منه بريق الفن الخالص ولو جلس ساكتًا، وإذا تكلَّم كان "آية في الفكاهة وفي الأصالة ورقة الحاشية".

أما الكاتبة والشاعرة شذى بلة فنعت الفنان الكبير بقولها: "كافتريا في ناصية أبو جنزير أيام كان موقفًا للمواصلات في قلب الخرطوم، كانت لا تدير غير شرائط ود اللمين، خاصة أغاني العود والمعزوفات اللحنية الخالدة، كانوا يرشون تراب الشارع بالماء كل صباح، تفوح من المحل الصغير رائحة بخور التيمان، يبيعون العصائر والسندوتشات وفوقها صوت ود اللمين نقيًا وقويًا ومخترقًا لضوضاء الموقف. كانت أعظم طريقة تسويق عرفناها نحن الطلاب وقتها، قبل السوشيال ميديا وأدبيات الماركتنق المبتكرة، كنا نتحايل بكوب العصير لإكمال زاد الشجون، نتحايل بالانتظار، ونعيد ضبط مشاعرنا اليومية بأغنيات تنثر للعابرين بلا مقابل. غاصت الخرطوم في بئر حزنها العميق، وغصنا في الذكريات، فكلانا غريق".

وكتب الكاتب والناشط صديق الأنصاري: "هي الهوية دي كيفنها؟ يغني عبدالقادر سالم لمعشوقته كردفان، ويطرب الجمهور، لكن هناك ذروة لا يبلغها إلا عندما يستلم محمد اللمين منه الأغنية ويمد ما شاء في مكتووول هواك أنا، ويؤكد أنا مرة أخرى لكردفان؛ فلا يبقى لك من ذاكرة الأغنية إلا تلك القفزة الرشيقة على المسرح والصوت القوي الذي يسجن ذاكراتنا في مكتول هواك".

ويضيف: "يغني ود اللمين فنتذكر أن لنا هوية مشتركة تضيع وسط البنادق، لكن الباشكاتب بالعود أو الأوركسترا يذكرنا في كل مرة أننا ننتمي إلى نفس الذاكرة وذات المكان.. وداعًا الباشكاتب".

وجاء نعي الكاتب والناقد عامر محمد حسين: "انطوت صفحة مضيئة ماتعة برحيل الموسيقار محمد الأمين. رحل الكنار الغريد بعيدًا عن وطنه الذي أحبه وظل على مسارحه منذ منتصف ستينات القرن العشرين.. (محمد الأمين ومحمد وردي) هما قمة هرم الغناء السوداني الحديث، وقد جلسا على القمة معًا، وظلا صديقين ومتنافسين، على رضا النفس بتقديم الغناء الجميل الرصين المموسق ورضا الشعب في تناغم مع حركة الجمهور على مسرح الحياة، ونضالاته وحبه، وهجره.. هذه "الثنائية البديعة" هي نتاج حركة النهضة، والتحديث، والحداثة، وانتشار التعليم، وقد كان لتجربتهما دور عظيم، في الوعي وتشكيل الوجدان، وصيانة الروح، من محدثات الدهور، التي أحاطت بشعوب في العالم العربي وجعلت لسنوات عديدة يطرد الفن الرديء الفن الجميل، وكان فنهما المكتمل في اللحن والكلمة الترياق المضاد للتطرف في الحياة والفكر، لذلك فإن تجربة الراحل محمد الأمين والراحل وردي تستحق القراءة معًا".

وكان للكاتب عبدالرحمن حامد، صوت نعيه الخاص، وجاء فيه: "لم أستطع أن أشرح لزملاء العمل أنني اليوم، غير صالح لأساهم في تخفيف أوجاع آخرين.. لم أستطع أن أشرح لهم في وسط أحزان موطني ومآسي غزة، كيف كبلني حزن ثقيل نزل على قلبي بخبر وفاة الأستاذ محمد الأمين.. لم أستطع أن أشرح كيف لرحيل شخص لا يعرفك وليس بينك وبينه صلات رحم أو صداقة أو عمل، أن يدخلك في هذا الأسى؟

لكن ما هي الصلات إن لم تحفر في وجداننا عميقًا وجميلًا وطويلًا، وقد كان محمد الأمين كذلك.. أنا ووجداني وذوقي ومزاجي (في أوقات عديدة) شاكرون للأستاذ محمد الأمين، ونبتهل لخالقنا أن يرحمه بواسع الرحمة والمغفرة فقد كان للملايين مننا، من ضمن من يمكن وصفهم بأن خير الناس أنفعهم للناس".

أما الصحافية والكاتبة رشا عوض فكتبت: "وداعًا محمد الأمين... وداعا حزينًا.. ترى من سيغني ملحمتنا القادمة لا محالة؟!"

وزادت: "برحيلك تقلصت مساحات البهاء والجمال في بلاد يذبحنا الشوق إليها بكل ما فيها ومن فيها! اللهم صبرًا وعزيمة فنحن نبحر في بحر أحزان وحسرات! نعلم علم اليقين أن لهذا البحر ضفافًا وأن بلوغها حتمي ولكن متى؟ كم منا سيغادر هذه الدنيا قبل أن ترسو سفينتنا على شواطئ السلام والمحبة؟".

تظهر المقدمات الموسيقية التي ألفها الفنان محمد الأمين قدراته الموسيقية الفائقة، وتؤكد أنه موسيقار سوداني متفرد، فأغنيات مثل "زاد الشجون" و"زورق الألحان"، بثرائها اللحني وتوزيعها الموسيقى المتفرد، تضع محمد الأمين في "زورق لحني" خاص يعبر بها عباب الموسيقى السودانية منفردًا إلى الأبد.