مضى نحو ثلاثين عامًا على انتفاضة نيسان/ أبريل 1985 في السودان، غير أن الجدل حولها لم ينقطع طيلة العقود المنصرمة. واستمرت التساؤلات حول صاحب الكعب الأعلى فيها، اليمين أم اليسار؟ وهل كانت انتفاضًة بالفعل انبثقت من رحم الشارع، أم أنها مجرد مؤامرة أمريكية أطاحت بالنظام العسكري للرئيس الراحل جعفر نميري؟
احتشدت شوارع المُدن السودانية بالهياج، والتحمت تظاهرة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بجموع النقابيين والحرفيين والتجار والأطفال المشردين وهم يهتفون جميعهم لسقوط نظام الدكتاتور النميري
جاء اسم ماريل من توليفة للشاعر السوداني محمد الحسن سالم حميد مزجت بين شهرين مارس وأبريل، الذين اندلعت فيهما الأحداث، عندما قال:
"ماريل ينهشها العساكر والشريعيون،
والذمم المأمركة البغيضة والبنوك وعاهرات القصر
والشيوخ الزيف والأسف العميق
ولا تموت".
وقد كانت الثورة أشبه بالإعصار المفاجئ، وأنهت حقبة عسكرية استمرت 16 عامًا. وفي صبيحة يوم السادس والعشرين من آذار/ مارس 1985، احتشدت شوارع المُدن السودانية بالهياج، والتحمت تظاهرة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بجموع النقابيين والحرفيين والتجار والأطفال المشردين وهم يهتفون جميعهم لسقوط نظام الدكتاتور.
كان المشير جعفر نميري قد بدأ حكمه يساريًا ومن ثم انتقل إلى اليمين وأعلن قوانين الشريعة الإسلامية، المعروفة مجازًا بقوانين أيلول/ سبتمبر (1983)، قبل أن يسقط في حضن الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن ذلك التقلب الأيدولوجي لم يعصمه من غضب الشارع، حيث اندلعت الثورة ضده بينما كان يستشفى في واشنطن، ورغم القبضة الأمنية لنظام أيار/ مايو إلا أن الثورة انتصرت وانحاز لها الجيش بقيادة المشير سوار الذهب، الذي سلم الحكم للمدنيين بعد أشهر، في سابقة فريدة.
اقرأ/ي أيضًا: الأغنيات السودانية.. المرأة في خانة المفعول
قدم المشير سوار الذهب شهادته للتاريخ، وقال لصحيفة "التيار" السودانية التي حاولت إضاءة ماهو مُعتم من تلك الحقبة، إن "ما دعاني للانحياز للشعب رغم أنني وزير دفاع وقتها وعضو اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي بحكم منصبي، هو ذلك الموكب الهزيل الذي سمي موكب الردع قبيل يوم من سقوط النظام"، وهو يشير إلى موكب أخرجه أنصار الرئيس جعفر نميري لتأكيد شعبيته وإسكات خصومه. وفي ظل الأجواء التي تغنت بثورة نيسان/ أبريل المجيدة كما يصفها أنصارها، كان كثير من الناشطين يعيبون على القوى السياسية التفريط في تلك الثورة ومكتساباتها وعدم التعلم من الأخطاء، بدليل إجهاض الجيش مرة أخرى للتجربة الديمقراطية الأخيرة في العام 1989.
كان من المؤمّل أن تكون انتفاضة ماريل المجيدة مفتاحًا لنهوض وطني ديموقراطي، لكن السؤال: ما الذي يمكن للديمقراطيين أن يفعلوه بأعداء الديمقراطية؟
وكشف الوزير المايوي عبد المنعم عثمان منصور في تصريحات صحفية الأسبوع الماضي، أن "الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش وضع سيناريو الانتفاضة من داخل السفارة الأمريكية"، وبهذا يتفق إلى حد ما مع شهادة الزعيم الإسلامي حسن الترابي، والتي رواها رئيس تحرير صحيفة التيار عثمان ميرغني، بعد أن سجل زيارًة إلى الترابي قبل وفاته بحوالي ثلاثة أسابيع، فقال الترابي لعثمان ميرغني: "انتفاضة أبريل 1985 كانت محض اتفاق مسبق بين السيد الصادق المهدي وجهات أخرى منها بعض العسكريين.. وإنَّها انقلاب عسكري في زي ثورة شعبية"، ومضى ميرغني إلى المقاربة بين شهادة الترابي ومنعم منصور قائلاً إن "مجمل شهادة إبراهيم منعم منصور تقوم على أنَّ دولة أجنبية وعدت بإقناع الرئيس نميري بالسفر للخارج للعلاج.. على أن يتولى الرجل الثاني في الدولة إعلان حالة الطوارئ وعزل نميري بحجة الحالة الصحية، سيناريو الرئيس بورقيبة في تونس، الذي أطاح به وزيره زين العابدين بن علي بحجة الحالة الصحية، فيتولى السيد الصادق المهدي منصب رئيس الوزراء، بينما يتولى اللواء جوزيف لاقو رئاسة حكومة جنوب السودان".
أما بخصوص الأيادي التي صنعت تلك الثورة، فقد تبناها اليسار عمومًا، لكونها تعبر عن توجهاته الثورية ورفضه للتعسف والشمولية، وبالقدر نفسه وضعتها الحركة الإسلامية في كتابها، كواحدة من بصماتهم التاريخية، وكل ما استطاع أن يستخلصه الكاتب حسن محمد صالح من بعض أحاديث المجالس بأن الإسلاميين لم يكن لهم دور في الانتفاضة وأنهم كانوا سدنة لنظام نميري الذي "انقلب عليهم وأدخلهم السجون، بيما الانتفاضة هي التي أنقذتهم من حبل المشنقة الذي كان ينتظرهم بعودة الرئيس نميري من رحلته العلاجية للولايات المتحدة الأمريكية، ليصادق علي إعدام ما يربو على الخمسين من قيادات الحركة الإسلامية".
اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى سبتمبر السوداني
واستعاد حسن محمد صالح في روايته لـ"ألترا صوت" بعضًا من فصول ذلك الجدل حول الانتفاضة ومن فجرها، هل هم الشيوعيون أعداء نميري التقليديون أم البعثيون الذين كانوا يكتبون على الحائط في جنح الظلام "يسقط نظام نميري"، أم هم الشماسة، ويقصد بهم الأطفال المشردين الذين تقدموا لإحراق مؤسسة ود نميري التعاونية "تعبيرًا عن رفضهم لحكم النميري وانتقامًا من تلك المؤسسة التي كان ينظر إليها من قبل البعض بأنها رمز للفساد".
تبنى اليسار السوداني ثورة 1985 عمومًا، لكونها تعبر عن توجهاته الثورية ورفضه للتعسف والشمولية، وبالقدر نفسه وضعتها الحركة الإسلامية في كتابها، كواحدة من بصماتها التاريخية
ولعل الجدل الكثيف والأشبه بمغالطة التاريخ والوقائع، التي ما زال من شاركوا فيها أحياء ومتقدي الذاكرة ولهم شهود ووثائق وشواهد تؤكد صدقهم وتدل على أفعالهم في ذلك الزمان، وفقًا لحسن صالح، الذي يقول إن "الحركة الإسلامية ونظام نميري كل منهما كان يتربص بالآخر، ولم تكن الحركة الإسلامية تريد أن تبادر النظام بالعداء لأنها لم تكن مستعدة لمواجهة النظام وإسقاطه، ولم تكن مهيئًة لأن تتولى مسؤولية الحكم عقب سقوط نميري"، وذلك لما كان يعتري الساحة السياسية من تناقضات ولما كان عليه نميري من قوة وسيطرة أمنية، من خلال جهاز الأمن القومي الذي كان يحصي أنفاس السودانيين ويحرس أمزجتهم قبل تحركاتهم السياسية والفكرية. وأشار صالح إلى أن الحركة الإسلامية كانت تعلم "أن القرار الأمريكي هو إسقاط نظام نميري الذي أصبح نظاماً داعما للإرهاب والتطرف الإسلامي، ولكن السياسة الأمريكية قررت أنه لا يجب أن يتم إسقاط النميري قبل أن يقوم نميري بضرب الإسلاميين والقضاء عليهم، وكان البديل المناسب هو زعيم معارضة نظام نميري السيد الصادق المهدي، علاوة على أن نميري قام بالدور المرسوم له وهو التخلص من حلفائه الإسلاميين وإدخالهم السجون"، وبرر ذلك في خطاب مطول "بتمددهم ومؤامراتهم وسيطرتهم على البنوك وعلى الاقتصاد وأنهم قد صاروا دولة داخل دولة، ولذلك ثاروا عليه"، وفقاً لتعبير حسن محمد صالح.
ودخل رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير في المواجهة حول انتفاضة نيسان/ أبريل، بمقال على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تساءل فيه "ماذا يفعل الديمقراطيون بأعداء الديمقراطية؟" وقد أثارت تلك المقالة رود أفعال واسعة في الشارع السياسي. الدقير أشار إلى استفادة تنظيم الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي من نظام جعفر نميري، من خلال بناء قاعدة اقتصادية قوية واختراق أجهزة الجيش والأمن.. والمكسب الأخير هو ما استُعمِل لاحقاً للغدر بديموقراطية ما بعد الانتفاضة والانقضاض عليها ليلة الثلاثين من حزيران/ يونيو 1989. وطوال فترة المصالحة، شكّل الإخوان مصدّات لنظام مايو أمام مختلف أنواع المقاومة الشعبية، وتحديدًا بمحاولاتهم تخريب الاحتجاجات النقابية والطلابية، وبلغ تأييدهم لنظام مايو أقصى مدى له بعد إعلانه قوانين الشريعة، حيث بايعوه إمامًا ووصفوه بـ "مجدد المائة" وفقاً للدقير، غير أن الوقت كان قد فات على نظام مايو لإجهاض الانتفاضة التي انفجرت في مارس/أبريل من ذات العام، كما فات الوقت على الإخوان للمشاركة في تفجيرها أو في قيادتها.. لكنّ المفارقة العبثية المؤلمة حدّ الفجيعة هي "أن الإخوان ومَن انضم إليهم مِن بقايا مايو وسدنتها كانوا هم أصحاب الحصاد الأوفر في فترة ما بعد الانتفاضة".
كان من المؤمّل أن تكون انتفاضة ماريل المجيدة مفتاحًا لنهوض وطني ديموقراطي، لكن يبدو أنها اصطدمت بالسؤال الإشكالي الذي طرحه سارتر ذات يوم: "ما الذي يمكن للديمقراطيين أن يفعلوه بأعداء الديمقراطية؟" ولمّا لم يجد سارتر إجابة من أحد، أجاب هو نفسه كعادته، قائلاً: "إذا قتل الديمقراطيون أعداءهم فهم غير ديمقراطيين على الإطلاق، وإذا سمحوا لهم بالبقاء فإنهم يعرضون ديمقراطيتهم للخطر وربما للإبادة!".
اقرأ/ي أيضًا: