ازدحام كبير في صلاة العيد بالجامع الكبير بولاية كسلا هذا العام، فالمدينة تستضيف مئات الآلاف من النازحين من جحيم الحرب في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة، وغيرها من المناطق التي تشهد اشتباكات نشطة بين الجيش والدعم السريع منذ عام.
زكاة الفطر في كسلا
خطبة العيد في مسجد الختمية العتيق بالمدينة تركزت على زكاة الفطر والصدقات، فهذه المدينة بها نازحون لا يملكون قوت يومهم جراء فقدان ممتلكاتهم وأعمالهم في مدنهم التي فروا منها خلال عجالة الحرب التي لم تسمح في فجاءتها إلا بلملمة القليل، فيما غادر البعض لا يحمل سوى ملابسه التي على ظهره، كما انتشرت أعمال النهب والسلب على طول طريق النزوح الوعر الذي خاضه الكثيرون، لتتفاقم المعاناة المهولة التي يختبرها السودانيون على جمعهم بسبب الحرب.
على مواقع التواصل انتشرت الأمنيات بأن ينعاد العيد والجميع "تامين ولامين" كما تقول المعايدة الدارجة عند السودانيين
يذكر أن مجمع الفقه الإسلامي السوداني كان قد حدد قيمة زكاة الفطر لهذا العام بثلاثة آلاف جنيه للفرد الواحد، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد. وقال المجمع إن علماء المسلمين يجيزون إخراج زكاة الفطر نقدًا لمصلحة الفقير وتسهيلًا على المخرج، وأوضح أن من كان خارج السودان فإن الزكاة تجب عليه بمقدار ما وجبت في بلده الذي يقيم فيه، ويجوز له أن يحول قيمتها للفقراء والمساكين بالسودان.
بولاية كسلا (256) مركز إيواء للنازحين، تضم (263) ألف أسرة بحسب ما أعلنت اللجنة العليا للطوارئ بالولاية. وتمر مراكز النزوح في كسلا وغيرها من الولايات بأوضاع إنسانية في غاية الصعوبة جراء غلاء المعيشة وغياب الخدمات وشح الإغاثات.
أحزان ومخاوف
غرفة طوارئ كسلا كانت قد أعلنت قبل أيام عن مبادرة دعت فيها كل من يجيد حلاقة الشعر للمشاركة في "يوم الحلاقة" بمراكز النزوح، لإسعاد الأطفال الذين قد لا يجد أهاليهم حتى ما يكفي من جنيهات قليلة لتزيين رؤوسهم استقبالًا للعيد الحزين هذا العام.
الشاب محمد صلاح النازح في ولاية كسلا، قال لـ"الترا سودان" إن معظم الأطفال بمركز النزوح الذي يقيمون فيه لم يجدوا أي فرحة في ليلة العيد لأن أسرهم المكلومة لم تتمكن من شراء "هدوم العيد" هذا العام. الحرب سلبت الأطفال فرحة العيد للعام الثاني على التوالي يقول صلاح، في ظل مخاوف من هجمات تصل المدن الآمنة على غرار ما حدث بالأمس في مدينة القضارف التي هاجمتها مسيرات أصابت مقر جهاز الأمن وما حوله، ولكن أصابع الاتهام تشير إلى قوات الدعم السريع التي تسيطر على ولاية الجزيرة المتاخمة.
وضربت ثلاث مسيرات مدينة القضارف في اليوم المتمم لشهر رمضان المعظم، وأصابت اثنين كما بثت الذعر والرعب وسط المواطنين الذين أغلقوا محلاتهم في أهم يوم بالنسبة للمواسم المتعلقة بالتسوق. وتستضيف ولاية القضارف كذلك مئات الآلاف من النازحين، لا سيما من جارتها الجزيرة.
ولكن سرعان ما عادت الحياة إلى طبيعتها في القضارف بعد أن توقفت أصوت الانفجارات والمضادات الأرضية التي أطلقتها القوات المسلحة على المسيرات المهاجمة، فالناس لا يمكن أن تتخلى عن التمسك بالحياة على الرغم من الحرب التي تطرق الأبواب وتخيم على الآفاق. وكانت السلطات المحلية قد أكدت على خطة أمنية كبرى لتأمين العيد، تتلخص محاورها في الارتكازات والتفاتيش ورفع الحس الأمني والاستعداد.
واليوم عقب صلاة العيد بمسجد القضارف العتيق، تمنى والي القضارف المكلف، محمد عبدالرحمن محجوب أن يجيء العيد القادم والبلاد تشهد استقرارًا أمنيًا واقتصاديًا مأمولًا. كما لم يفته أن يتمنى تحقق النصر للجيش على قوات الدعم السريع. وهنأ المصلين بالعيد الذي قال إنه أتى والبلاد "تشهد العديد من التحديات والصعاب بسبب ظروف الحرب".
في القضارف أيضًا آلاف النازحين لن يتمكنوا من استعادة فرحة العيد في ظل الأوضاع الصعبة التي تمر بها الأسر السودانية التي لا تجد ما يسد رمقها ولا من يوقف الحرب.
تامين ولامين
وغادر خلال هذا العام أكثر من ثمانية ملايين منازلهم في السودان، واستقر الحال بما يزيد عن ستة ملايين منهم في الولايات الآمنة التي لم تصلها المعارك بعد، بينما عبر أكثر من مليون ونصف الحدود نحو دول الجوار بحثًا عن واقع أفضل عقب أن حطمت الحرب وغلاء المعيشة وسوء الأوضاع أي آمال في البقاء داخل البلاد.
وعلى مواقع التواصل انتشرت الأمنيات بأن ينعاد العيد والجميع "تامين ولامين" كما تقول المعايدة الدارجة عند السودانيين، والتي لم يكن للبعض تأمل معناها إلا الآن في ظل الشتات الكبير الذي تمر به الأسر السودانية لأول مرة، حيث مزقت الحرب أوصالها فتفرقت بين النزوح في الداخل والهروب إلى الخارج.
عبدالله آدم الذي أدى صلاة العيد للتو في السفارة السودانية بالعاصمة الرواندية كيغالي، قال لـ"الترا سودان" إن هذه الجملة كانت تمر عليهم مرور الكرام في السابق، ولكنه الآن يشعر بالأسى لتفرق إخوته وأهله في عواصم المنطقة. ويتمنى عبدالله عودة العيد العام المقبل والجميع "تامين ولامين"، فـ"لا فرحة ولا طعم للعيد دون الأهل والأحباب" - يضيف.
صارت هذه الأمنية "تامين ولامين" وهذا الانتباه لمعناها، ثيمة العيد السوداني هذا العام. ويتشارك مدونون على مواقع التواصل نفس الانتباه لمعنى التمام واللمة في البيت السوداني الكبير الذي يفتقدها جل الناس هذا العام.
التمنيات على مواقع التواصل أيضًا تطرقت للحرب، ودعا السودانيون بالسلام والاستقرار لبلدهم الذي يمر بفترة اضطرابات مستمرة منذ أعوام طويلة، ولم تنجح ثورة شعبية عظيمة في منحه التقدم والازدهار الذي حلم به الشباب الذي ضمخ أرضه بالدم والدموع، وما يزال.
طرفا الحرب
رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، في خطبته للشعب السوداني بمناسبة العيد، أكد استمرار الحرب حتى "تطهير أرض السودان". وحيا البرهان المنتظمين في صفوف المقاومة الشعبية لدحر ما وصفه بـ"العدوان"، وتطهير البلاد ممن وصفهم بـ"المرتزقة والمأجورين"، في إشارة لقوات الدعم السريع التي تُتهم باستيعاب مقاتلين من خارج الحدود في حربها ضد الجيش السوداني.
وشدد البرهان على المضي في المجهود الحربي ضد قوات الدعم السريع التي يقول الجيش إنها تمردت عليه، "حتى طرد آخر متمرد وخائن"، و"تطهير كل بقعة دنسها التمرد". وأضاف: "لا عودة لما قبل 15 أبريل 2023، ولا عودة لما قبل 25 أكتوبر 2021 ولا عودة لما قبل أبريل 2019". وكانت الحرب السودانية قد اندلعت في 15 نيسان/ابريل 2023، وسبقها انقلاب البرهان وحميدتي على القوى المدنية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، كما كانت اللجنة الأمنية قد أطاحت بالبشير في نيسان/أبريل من العام 2019.
حديث البرهان يؤكد أن الحرب قد تجاوزت مرحلة الاتفاق والشراكة بين المدنيين والعسكريين في حكم انتقالي، وبهذا يكون قد ختم على جميع التكهنات فيما يتعلق باتفاق سلام يعيد الأوضاع لما يشبه الفترة الانتقالية المنقلب عليها والمحترب فوقها، أو حتى ما قبل ذلك؛ فسودان ما بعد الحرب لن يشبه أي شيء قبله وفقًا للبرهان، ولكن المخاوف جدية في الجبهة المدنية فيما يتعلق بالحكم العسكري الذي أورد البلاد المهالك، أو عودة نظام الإنقاذ الذي يساند بعض منسوبيه الجيش في حربه مع الدعم السريع، والتي تضم أيضًا بعضًا من رموز عصر البشير، وعلى رأسهم حميدتي قائد الدعم السريع وثلة من مستشاريه والمقربين منه.
قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو أيضًا هنأ الشعب السوداني والأمة الإسلامية بعيد الفطر المبارك، وتمنى عودته وقد وضعت البلاد حدًا للحروب والمعاناة، وأن يكتب المولى عز وجل عهدًا جديدًا من الأمن والاستقرار والرخاء للسودان. ودعا دقلو أن تعود الأيام وتطلعات أبناء وبنات الشعب السوداني في الحرية والعدل والسلام والديموقراطية متحققة.
نهنئ الشعب السوداني العظيم والأمة الإسلامية، بعيد الفطر المبارك، سائلين الله عز وجل أن يجعله عيد خير ويمن وبركة، وأن يعيده علينا وبلادنا قد وضعت حداً للحروب والمعاناة، وأن يكتب الله لشعبنا الصابر عهداً جديداً من الأمن، والاستقرار، والرخاء.
نسأل المولى الكريم أن تعود هذه الأيام… pic.twitter.com/oOcVbZcW6s
— Mohamed Hamdan Daglo (@GeneralDagllo) April 9, 2024
وتقول الرواية الرسمية لقوات الدعم السريع، إنها تقاتل من أجل تحقيق التحول الديمقراطي في البلاد ودك معاقل النظام البائد ومطاردة "الفلول"، كما تقول إنها تدافع عن الثورة السودانية وشعاراتها في الحرية والسلام والعدالة.
وعلى الرغم من دخول الأعياد إلا أن طرفي النزاع لم يعلنا عن أي هدنة بهذه المناسبة، وتستمر العمليات العسكرية والمرابطة في الخنادق داخل العاصمة الخرطوم وغرب وجنوب البلاد في اليوم الأول لعيد الفطر المبارك، فالحرب لا تنتظر.
الأزمة الإنسانية
وسواء شهد السوداني هذا العيد داخل البلاد أم خارجها، وسط أهله أم بعيدًا منهم، فإنه بلا شك يمر هو أو أحبابه بظروف في غاية الصعوبة جراء الحرب التي "دمرت البلاد وفرقت العباد". ونتج عن الحرب أزمة إنسانية مركبة في شتى مناحي الحياة، حيث أوقفت الاقتصاد والتجارة والأعمال الزراعية والحياة الاعتيادية.
يأتي العيد هذا العام في ظل ظروف جوع وخيم مخيم على السودانيين في معسكرات النزوح واللجوء. وتحذر منظمات إنسانية من تزايد أعداد الجوعى مع استمرار الحرب وانعدام الممرات الآمنة.
ستتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان كما تؤكد التقارير الأممية التي تشير إلى انخفاض إنتاج البلاد من المحاصيل بسبب تأثير الصراع على العمليات الزراعية
وستتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان كما تؤكد التقارير الأممية التي تشير إلى انخفاض إنتاج البلاد من المحاصيل بسبب تأثير الصراع على العمليات الزراعية، ويؤثر انعدام الأمن وشح المدخلات الزراعية وارتفاع الأسعار على الإنتاج. كما ساهم في ارتفاع تكاليف الإنتاج وقلة الواردات وتعطل التجارة الداخلية، الأمر الذي أدى إلى انخفاض إنتاج السودان من الحبوب خلال العام الماضي إلى ما يقارب نصف معدل الإنتاج في السنوات الماضية.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه لا يلوح في الأفق سلام قريب بالسودان، فالمعادلة للحرب صارت صفرية عند بعض الأطراف، ويتزايد التسليح والاستنفار على أساس جهوي وعرقي في شتى أنحاء البلاد، ما يشي بتحولات نوعية في طبيعة الحرب قد تقود في آخر الأمر إلى تفكيك البلاد ولحمتها الاجتماعية، في ظل عجز للجهات المدنية، ودور خارجي يزكي نار الحرب في السودان.