لا أعتقد أن هناك شعب تعرض إلى ما تعرض له الشعب الفلسطيني. المأساة الفلسطينية تبدو في أحد أوجهها وكأنها لعنة تراجيدية منتزعة من متن الأساطير الإغريقية، متجددة في تصاعدها المتتالي إلى ذروة المأساة التي لا ترى من بعدها تحققًا سوى الانطفاء والموت والاندثار، لكنها مثل كل تراجيديا كبرى تفاجئك بالانتفاضة غير المتوقعة لـ"الكائن الفلسطيني" الذي له ألف رأس وألف ذراع ولسان وحيوات لا تنفد للمقاومة، والموت في الحياة والحياة في الموت لأجل الأرض والكرامة. كائن أسطوري جميل، شرس وعنيد يرفض أبدًا أن تكتب النهاية بأيدي الآخرين لا أنامل أياديه الألف ومئة!
حرب الانتقام أم الإبادة
في الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة، يبدو أن ما تسعى إليه حكومة "إسرائيل" ليس "القضاء على حماس وهزيمتها" وإخراجها نهائيًا من لعبة المصير. فالقدرات العسكرية الهائلة للجيش الإسرائيلي التي سخرها لضرب غزة ومواطنها الفلسطيني الأعزل تعكس قدرًا عظيمًا من الحقد الدموي الذي يكاد يرتقي في نتائجه المنظورة والمشاهدة إلى حرب إبادة إن لم تقض على الجميع فعلى أقل تقدير ستخرجهم بعيدًا عن المكان في رحلة شتات وتهجير جديدة أقسى وأعنف من التي حدثت قبل أكثر من سبعين عامًا. حجم الدمار الذي أحدثته هذه الحرب في أيامها القلائل الماضية، وعدد القتلى الذين قضوا نتيجة للقصف الناري وتحت الأنقاض سيقودنا إلى أن هذا الفصل من فصول التراجيديا الفلسطينية قد وصل إلى ذروته المأسوية وما على الجمهور المتفرج في "نشوة التطهر" إلا انتظار إسدال الستار قبل أن يمضي مصفقًَا لا مبالٍ.
العالم المتوحش
يحلو لإنسان هذا الوقت من زمن العالم المتآكل أن يصف عصره بالتقدم والتحضر وزمن الحداثة والرقي البشري. في الجانب الآخر من شهادته عن عصره الدامي هذا يتعامى هذا الإنسان عن الحروب والتقتيل والدمار الذي يحدثه عند كل صباح في زاوية من زوايا مملكته الأرض، لا يفعل شيئًا، ولا ينفعل لأثر، يقلب الصفحة ويمضي لتصفح بقية صفحات تاريخه العار. بيد أن صفحة الفلسطيني التراجيدي تظل عصية، من الصعب عليه أن يتجاوزها ويتخطاها صوب مأساة أخرى أقل حدة وعمرًا في الذاكرة. مأساة الفلسطيني ظلت حاضرة لا تموت، فهي كائن أسطوري بألف رأس وألف روح، وألف عين شاخصة تحدق في وجه العالم المتحضر وتحاكمه محاكمة "سيزيفية" لا ولن تنتهي إلا بنهاية روح التوحش لا روح الفلسطيني العنيد.
يموت الفلسطيني (48) مرة ويعود ليحيا من جديد، يموت الفلسطيني (67) مرة ويعود منتفضًا من جديد، يموت الفلسطيني، (70 و80 و90) مرة ويعود (2023) مرة ليصارع من جديد ويحيا في الأبد ولا يموت
يموت الفلسطيني (48) مرة ويعود ليحيا من جديد، يموت الفلسطيني (67) مرة ويعود منتفضًا من جديد، يموت الفلسطيني، (70 و80 و90) مرة ويعود (2023) مرة ليصارع من جديد ويحيا في الأبد ولا يموت.
قصيدة الفلسطيني
هل مصير الفلسطيني أن يتحول إلى كلمات شعرية في تراجيديا العالم الكبرى. هل مصيره أن يظل "وصمة العار" التي تعري كل أكاذيب الأمم المتحضرة، بحقوق إنسانها وروح مساواتها ورفقها بالحيوان قبل الإنسان. أم أن الفلسطيني سيظل أبدًا هو الشاهد الأوحد على زيف إنسانيتنا وتلوث بشيريتنا بروح العنف والدمار وإهلاك الآخر. يموت الفسلطيني بينما العالم الحر يتفرج ويشجع ولا يجد بأسًا في اغتيال القصيدة.
أوقفوا القتل
من مقاعد المتفرجين العاجزين، في الصف الذي يلي الصف الأخير بمليون صف؛ أقف مناديًا: أوقفوا العرض، أوقفوا القتل.. ارحموا الفلسطيني، ودعوا روحه السمحة تحلق قليلًا. قديمًا، قبل ألف كلمة وكلمة من الأعوام؛ قال الشاعر الفلسطيني الفراشة: "أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا". فـ"إسرائيل" من أمريكا وأمريكا هي "إسرائيل". فلتوقف أمريكا حربها ضد الفلسطيني القتيل.. حربها ضد القصيدة.
صمت الحملان
وأنا أكتب الآن أحس صادقًا بألم الفلسطيني ووجعه وصمته الهائل النبيل في مقابل صمت الذئاب المتعولمة. فالحرب تصليني بنيرانها الآن، تمتص دمي مع بزوغ كل صباح مطفأ الأمل وبعيد الإشراق. أجرب، للمرة الأولى هذه المعنى المدسوس في كلمة، قرأتها ونطقتها آلاف المرات: الشتات. السوداني الآن في شتات، ونزوح ولجوء، يقارب ولا يماثل شتات ونزوح الفلسطيني الطريد المبعد عن أرضه في حالة من النفي النازف بلا توقف. وأجرب الآن، مثل الفلسطيني، في منفاي، أو تحت جحيم القاذفات ونيران الطائرات معنى أن ترى العالم بأجمعه متكونًا في شكل عين ضخمة مشرعة إلى ما لا نهاية، تظل تحدق وتحدق بك ولا تطرف، لا تبرق، لا تدمع؛ عين ميتة بلا حياء أو حياة. تراك وأنت تدفن وتموت وتحرق وتموت وتهرب وتموت وتحيا وتموت محترقًا ومنسيًا، ولا أثر لديها سوى الصمت. العالم عين إلكترونية باردة ومبرمجة تحركها الخوارزميات البليدة، التي تحس أو تشعر أو تتفاعل بما يجري لك أيها الفلسطيني المتأبد في الألم؛ لا تحس بي أنا الموبوء الآن بجرح صغير يكاد ينفتق ليطابق جرحك الأكبر.
كيف تنجو؟
كيف بإمكانك قتل طفل لم تبلغ مدركاته بعد معنى الأرض والبيت والوطن. كيف تقضي عليه مطلقًا عشرات الرصاصات لأنه فقط لا يطابق تصورك عن العالم والناس والحياة. يحدث هذا مئات المرات في كل يوم. في الحروب العبثية الدائرة هنا وهناك، في الثأرات القبلية داخل الأرض الواحدة والوطن الواحد، بشكل جماعي مجنون، لا يراعي فيه الإنسان قيمته كإنسان. وقد يحدث لك فقط، لأنك خرجت مطرودًا، ورحلت بعيدًا نائيًا بنفسك وطفلك عن احتمالات الموت اليومي الذي قد تتعرض له لأنك دم بطبعه يكافح اغتصاب الأرض. يقتل طفل في أمريكا بلد الحريات فقط لأنه فلسطيني. أيقتل الموت ماردًا لا يموت؟
الدين السلام
هل عصي على العالم بغربه وعربه وشرقه أن يشيع السلام في هذه البقعة من الأرض المخضبة بالدماء. كم من السنوات يحتاجها هذا العالم حتى تعي (الأديان) أن "السلام، والطمأنينة، والمحبة" لم تزر هذا المكان منذ عهد أقدم أنبياء الأرض. يا أديان الإنسان الجديد، يا أيها الكائن "السبيرنطيقي"، المتعولم، المريخي، خالق "كورونا" وقاتلها، "الرجل الوطواط"، وإنسان "الشات" الذي لا يصمت أبدًا. يا أيها "الإسفيري"، يا سجين "اللايكات" وصور "السلفي" ورقصات "التيك توك". المأدبة أمامك الآن، شهية تسيل منها الدماء، وتسبح في حسائها اللحوم المتفسخة، فالتهم وجبتك اليومية من الأجساد البشرية الميتة يا أيها المستذئب العظيم، وإياك إياك أن تتقيأ!