يبدو أن العسكريين يرتبون في الكواليس إلى "سلطة طويلة الأمد" في السودان، هذا البلد الذي يواجه أزمات متعددة؛ بدءًا من تعدد الجيوش وانتهاءً إلى اقتصاد شبه منهار.
كان العسكريون تحت الاختبار العام الماضي حسب ما نصت الوثيقة الدستورية، والتي أبرمت بين قادة الجيش وقوى الحرية والتغيير "الإئتلاف المدني" في 2019، والتي نصت على تسليم السلطة إلى المدنيين نهاية العام الماضي، وتحديدًا في تشرين الأول/نوفمبر 2021، ولكن قبل الموعد بشهر واحد وجد المسؤولون المدنيون أنفسهم إما في السجون أو قيد الإقامة الجبرية إثر استيلاء قائد الجيش على السلطة.
لم يختبر السودانيون وضع الجيش تحت سلطة مدنية لفترات طويلة منذ الاستقلال في العام 1956 بل اعتادوا على أن الجيش يرى في نفسه "وصيًا على البلاد"
يمكن بسهولة معرفة لماذا اختار المكون العسكري توقيت الانقلاب على الحكومة المدنية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فالفترات الزمنية التي منحت المدنيين حق الاستحواذ على رئاسة مجلس السيادة الانتقالي كانت وشيكة، ولم يكن أمام العسكريين سوى الاستجابة إذا لم ينفذوا الانقلاب.
بعد (11) شهرًا من الاستيلاء على السلطة، يبحث قائد الجيش عن فرصة جديدة لتشكيل حكومة من المدنيين، ولم يقدم طوال هذه الفترة على هذه الخطوة تحت ضغوط غربية وأمريكية طلبت منه الكف عن القرارات الأحادية، ورهنت الاعتراف بالحكومة المدنية بحصولها على مصداقية عالية لدى السودانيين.
في ذات الوقت يجد البرهان صعوبة في التوصل إلى اتفاق سياسي مع المدنيين يتيح تشكيل حكومة مدنية، لأن قوى الحرية والتغيير التي تحظى بالقبول لدى المجتمع الدولي وإلى حد ما وسط الرأي العام المحلي، تطلب صلاحيات أكبر من تلك التي حصلت عليها في السلطة الانتقالية قبل الانقلاب.
بينما يرفض العسكريون منح "الصلاحيات السيادية" للمدنيين حسب ما نقل محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة السابق لـ"الترا سودان"، قائلًا إن نقطة "الصلاحيات السيادية" أثارت الخلافات بين العسكريين والمدنيين.
ما هي "الصلاحيات السيادية" التي يصمم عليها المكون العسكري؟ ترتبط هذه الصلاحيات بإدارة القطاع الأمني والعسكري والتي تشمل الشرطة وجهاز المخابرات، كما تشمل البنك المركزي والعلاقات الخارجية والاتفاقيات الدولية التي أبرمها السودان مع الدول والمستثمرين والشركات.
أيضًا يُظهر العسكريون "رفضًا واسعًا" حيال مطلب المدنيين بوضع الشركات الاقتصادية تحت ولاية وزارة المالية، وهي من العقبات التي واجهت حكومة عبد الله حمدوك.
من ضمن "الصلاحيات السيادية" أيضًا العمليات المتعلقة بالترتيبات الأمنية، ويتمسك العسكريون بالإشراف الكامل عليها، إلى جانب عدم تدخل المدنيين في تحديد تواقيت هيكلة الجيش، وهذه من الأمور التي يرى العسكريون أنها لا تخص المدنيين، وهناك مقالات نشرتها صحيفة القوات المسلحة طوال هذا الشهر بعدم السماح بتفكيك القوات المسلحة، في إشارة إلى مطالب المدنيين بإصلاح المؤسسة العسكرية.
ولا تنفصل زيارة قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة في طريق عودته من نيويورك السبت الماضي، من "رغبة العسكريين"، خاصة الجيش، في دعم القاهرة للتوجهات التي قد يعلنها العسكريون قريبًا.
متحدث قوى الحرية والتغيير: الحرية والتغيير تأمل في حكومة ذات صلاحيات واسعة، تشرف على عملية بناء الجيش وتفكيك التمكين ومعالجة الاقتصاد والتحضير للانتخابات
توجهات جديدة قد تفرض واقعًا جديدًا مثل تشكيل حكومة مدنية والاتفاق مع "بعض المدنيين" على مجلس سيادة، إلى جانب مجلس أعلى للقوات المسلحة يستحوذ على "جميع الصلاحيات السيادية".
والملاحظ لشكل العلاقة بين قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" والمكون العسكري، يرى بوضوح تباعد المسافة بين الطرفين فرضته رغبة العسكريين بالاستحواذ على مقاليد الأمور.
هنا قد تلعب الآلية الرباعية الدولية دورًا في إقناع العسكريين بتقديم "تنازلات" لإحداث اختراق في الملف السوداني المعقد.
وربما يلعب الفاعلون الدوليون على "عدم وضوح التفاصيل"، مثل ممارسة الضغوط على المدنيين والعسكريين على "إعلان دستوري"، مع الوضع في الاعتبار السماح للعسكريين بالسيطرة على "مقاليد الأمور بعض الشيء" .
ويستبعد متحدث قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" شهاب الطيب في حديث لـ"الترا سودان"، تقديم المدنيين تنازلات عن الصلاحيات السيادية للعسكريين، وقال إن الصراع يدور حول هذه الصلاحيات، وإذا لم يحصل عليها المدنيون فإنهم قد يجدوا أنفسهم أمام "حكومة متقزمة".
واستدرك: "الحرية والتغيير تأمل في حكومة ذات صلاحيات واسعة، تشرف على عملية بناء الجيش وتفكيك التمكين ومعالجة الاقتصاد والتحضير للانتخابات".
لم يختبر السودانيون وضع الجيش تحت سلطة مدنية لفترات طويلة منذ الاستقلال في العام 1956، بل اعتادوا على أن الجيش يرى في نفسه "وصيًا على البلاد". ردد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان هذه العبارة قبل الانقلاب العسكري بأيام قليلة، وقال إن "القوات المسلحة وصية على البلاد".
وفي هذا الصدد يقول المحلل السياسي مصعب عبد الله لـ"الترا سودان": "منذ الاستقلال لم يقد حاكم مدني الجيش بشكل كامل، بل حتى الفترات التي جرى فيها انتخاب رئيس وزراء مدني وآخرهم الراحل الصادق المهدي في العام 1986 انقلب عليه الجيش بعد ثلاث سنوات فقط. الجيش لم يعتد على أن يضع نفسه في الإطار المرسوم له؛ أي الدفاع والأمن والحدود".
محلل سياسي: هناك فرق بين التفاوض مع المؤسسة العسكرية والمكون العسكري
ويرهن هذا المحلل الحل في "تفاوض واسع الإطار" بين المدنيين والجيش، على أن تكون المؤسسة العسكرية طرفًا في هذا التفاوض بالاتفاق على إطار يحدد انتقال السلطة إلى المدنيين.
ويضيف: "هناك فرق بين التفاوض مع المؤسسة العسكرية والمكون العسكري، وإذا استمر الوضع بهذا الشكل قد يفقد الجميع أوراق اللعبة بما فيهم الجيش".