ما الذي يأتي على بال السودانيين والسودانيات ممن هاجروا قسرا حين سماعهم بــ"عيد الضحية" في نشرات الأخبار؟ ما الذي يجول بخاطر الأطفال عند مشاهدة صور عيد الأضحى في الدول المسلمة على شاشات التلفاز؟ يشرح أحد المواطنين لمراسل قناة ما طبخة من الصومال، تشاد أو أي دولة تصارع للخروج من الحرب. يشرح ذلك المواطن من خلال تقرير المراسل تقاليد وطريقة الطبخ عند الأضحية: "بعد الصلاة مباشرة، نتبادل تحايا العيد، ثم نعود لمنازلنا كي ذبح الأضاحي، نقسم اللحم إلى قطع، نضع الفحم على الموقد، نذيب قليلًا من دهن الخروف على صاج، نضع اللحم، نضيف الملح ثم نخفض النار قليلًا ثم نضيف الثوم". قد يتبادل الفارون من جحيم الحرب التعليقات، إنها تشبه ما نعده في منزلنا المدمر، ويقول آخر طريقتنا في عمل الشّية لا تشبه أي بلد وكذلك "أم فتفت" أو "المرارة" إنها اختراع سوداني خالص. لكن "أم فتفت" هذا العام قد لا تكون حاضرة كما في السابق، وربما تكون مستحيلة لغالبية الأسر السودانية في المناطق شبه الآمنة أو الذين عبروا إلى دول أخرى على حد سواء.
اختفت معظم الأطباق السودانية الشهيرة
المواجهات المسلحة أجبرت تجار الماشية على الهروب بقطعانهم من المويلح، والشوارع العامة بالعاصمة، الشوارع كانت أسواق موسمية للباعة. النزاع المسلح ترك المنازل خاوية، لن يكون للبهارات ذات النكهة، لن تفوح رائحة الشربوت المخمر من أسطح المنازل، البعض منا مهدد بداء "الجحم" أو "السعر" كما يعرف في الحضر وهو داء يصيب الكلاب، ويطلق على من لم يتناول اللحم لمدة من الزمن، لأن اللحم يعتبر من المكونات الأساسية للمائدة السودانية. لقد فارق اللحم الموائد منذ زمن بعيد، لكن الأضحية كانت توفر للمتعففين متعة "الشواء".
المائدة السودانية تراجعت كثيرًا عبر السنوات العجاف لحكم البشير البائد، فقد ألمت بها متغيرات عدة بسرعة فائقة تحت تضخم مسكوت عنه. هناك وجبة كاملة اختفت عن الوجود -الغداء- كاختفاء البرنامج الإذاعي الأشهر "عالم الرياضة" مع اختفاء الغداء. كذلك اختفت معظم الأطباق السودانية الشهيرة، ولم ينقذها التشدق بأن السودان سلة غذاء العالم. الحروب العبثية فرضت ذاتها على الأمن الغذائي في السودان الكبير! وخلال سنوات جائحة كورونا اللعينة، اختفت وجبات وتشكلت أخرى بأمر الحظر الصحي المؤقت. السودانيون في هوة سحيقة من انعدام الأمن الغذائي هذا العام.
و هذا العام في السودان يئن أكثر من نصف السكان -حسب الإحصائيات الأممية "المثيرة للقلق"- بسبب الحرب العبثية كما أطلق عليها "مشعلاها".
يقول الباحث في الأنثروبولوجيا والفولكلور عادل إبراهيم لـ"الترا سودان": "مائدة الأضحية جزء من الطقوس الدينية". ويضيف أن التأثير الكبير للنزاعات يتمثل في قطع طريق الصادر ومناطق الإمداد التي تحولت الي أرض معركة. علاوة على تدمير الأسواق التقليدية والشوارع التي تتحول إلى أسواق موسمية.
ويمتد التأثير وينسحب على سلالات الخراف المعروفة "الحمري والكباشي". ستكون هنالك ندرة كبيرة هذا العام ، نتيجة توقف القطاع المصرفي والظروف الاقتصادية.
يأتي عيد الضحية هذا العام في ظل استمرار النزاع الدامي بولاية الخرطوم ومناطق إنتاج الثروة الحيوانية، حيث تدور المواجهات المسلحة بمنطقتي الأبيض في شمال كردفان والفاشر في شمال دارفور، نتجت عنها أسوأ الأزمات الانسانية، الاقتصادية والتجارية، علاوة على الولايات التي تعاني وضعًا لا تحسد عليه بفعل تأثير النزوح وفشل الموسم الزراعي الشتوي، مما يؤثر على المراعي بولايات الجزيرة، القضارف، النيل الأبيض ومنطقة البطانة.
خلال سنوات الفترة الانتقالية اعتاد السودانيون الاحتفال بعيد الأضحى باستلهام تضحيات الثوار خلال ثورة ديسمبر. يرتشفون المشروبات الروحية "الشربوت" المصنوع من البلح، الكركدي وغيره. ولكن في هذا العام تغيب النشوة والزيارات المتبادلة وأرتال المراهقين. وعلى هذا المنوال، سيغيب "الضرا" والفطور الجماعي في "الديوان"، كذلك ستغيب "المرارة" الشهيرة التي تصنعها الأمهات بمهارة وحب. وكل ذلك بفعل الحرب العبثية. وكذلك سيغيب طبق "الشية" الذي يمنح للأطفال بعد الاحتفاء بملابس العيد والألعاب النارية.
وفي الجنينة، إحدى مناطق الأكل الطاعم، تغيب المائدة، الرفاق والحياة معًا. لم تبق الأسر متماسكة بالخرطوم لتجهز مائدة تنتظر الأحبة القادمين من أم درمان إلى الخرطوم ومن بحري إلى الكلاكلة، كذلك بفعل المواجهات المسلحة العبثية.