هم ليسوا "نفرات"، بل أبناء أمم فقدت الآمل وتعرضت لنكسة لا تقل حزنًا ورعبًا عن حكاية الفلسطينيين في رواية غسان كنفاني، الذين قضوا في شاحنة وهم يعبرون الصحراء هربًا إلى الكويت، يوم كانت الدول العربية تشكل ملاذًا للأحلام.
يصور مصطلح "النفرات" اللاجئين على أنهم شبان يتسللون بدهاء وخفة بين حدود الدول الأوروبية
ربما جاء مصطلح "النفرات" الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في إشارة إلى اللاجئين، من باب المضحك المبكي، ولكنه وللأسف بات يفرغ القصة الحقيقية من معناها في كثير من الأحيان، وخاصةً على صفحات الفيسبوك، إضافة إلى من يصور اللاجئين على أنهم شبان يتسللون بدهاء وخفة بين حدود الدول الأوروبية التي كانت موصدة بوجوههم قبل أشهر. دون تقدير لحالة الذعر والذل التي يشعر بها هؤلاء أثناء فرارهم من الشرطة.
هم لم يكونوا يومًا أرقامًا أو "نفرات"، إلا في أضابير حكوماتهم، أو على صفحات الناشطين والمنظمات الدولية المعنية بعدد القتلى والجائعين، هم يملكون أحزانًا لا يمكن وصفها، وأحلامًا لم تعد تتسع إليها بلدانهم، ربما من شدة ما عانى السوريون في بلدهم وخارجه، لم يعودوا يعطفون على بعضهم، وفقدوا القدرة في كثير من الأحيان على التعاطف مع امرأة في الخمسين تركت منزلها ودجاجاتها وأشجار حقلها، ولكن هناك من أحس بذلك.
فحتى تجار البشر والمهربون يعطفون أحيانًا على فرائسهم، ففي رحلتي مع مجموعة من اللاجئين، رأيت دليلًا صربيًا يعرّض نفسه لخطر الاعتقال كي يحضر المياه للأطفال من أحد المزارع القريبة من سيارة الشرطة الهنغارية. وفي موقف آخر، راح المهرب السوداني المشهور في بلغراد، ينسج قصصًا إنسانية مع اللاجئين، يجلس معهم ويسألهم بفضول عن مكان قدومهم، هو بات يعرف أصغر المناطق وأكبرها في سوريا والعراق، ويملك أصدقاء هنا وهناك، يحتفظ الرجل صاحب العينين القويتين، بصور بعضهم على هاتفه المحمول، تقول له أنا من منطقة ما في سوريا، فيظهر الصور ويسألك إن كنت تعرف فلان الذي أصبح اليوم في النمسا، وغيره ممن انتشروا في أنحاء أوروبا الغربية.
حتى بعد الوصول سيتصل بك السوداني، ليسألك عن الرحلة، وعن المشاكل التي واجهتك، ليس لأنه قديس، فربما كانت هذه واحدة من مستلزمات عمله المبني على الثقة، ولكنه ما كان ليفعل ذلك بهذا الود لو رأى فيك رقمًا أو نفرًا، هو رآني صحفيًا كما يصر على مناداة غيري بالدكتور أو المهندس.. إلخ.
على الطريق وعند كل استراحة بين مسير وآخر، تدور النقاشات بين المهاجرين، عراقيين وسوريين وسودانيين.. وغيرهم، هم ورثة حضارات قديمة، ولذلك يتحدثون عن البناء، وكل واحد منهم يتكلم عن مشروعه الذي كان يحلم به في وطنه، ستلاحظ ذلك رغم صعوبة الرحلة، ورغم شذوذ البعض وحديثهم عن حاجة المجتمع الأوروبي المتطور إلى "الخلافة" الإسلامية. هناك من يلزم نفسه بمساعدة امرأة تحمل أطفالها، بالرغم من أن هذا قد يؤخره عن البقية وقد يعرضه للوقوع في يد الشرطة، هذا ما حدث أمام عيني على الحدود المجرية مع شاب سوري يدعى جوزيف.
ينحسر هنا الحديث الذي كنت تسمعه عن المعارضة والنظام في سوريا، ويبدو أن للكل خيباته من سلوكيات الطرفين، فلا النظام أعاد سوريا القديمة للموالين، ولا المعارضة نقلتهم إلى مستقبل أفضل. الأمل كله بأرض وشعب جديد يحترم الإنسان بغض النظر عن انتمائه، بات هذا هو الربيع في نظر الكثيرين ممن صبروا لأكثر من خمس سنوات ذاقوا خلالها ما لا طاقة لأحد باحتماله، وهم يسمعون الخطاب السياسي ذاته والأخبار ذاتها.
لم يعد يعني العديد منهم مصير العمليات العسكرية في بلداهم، فهم يعلمون أنها لعبة دول وأن الاحتفال الحقيقي بأي نصر يحدث في سوريا لصالح أحد الأطراف، لن يخرج عن حدود الفيسبوك بوك وبعض الفضائيات المؤيدة لهذا أو ذاك. هم مشغولون اليوم بما يصدر عن الاتحاد الأوروبي من قرارات تخص مستقبلهم الذي أصبح في مكان آخر منذ اليوم الذي أصبح العالم يتعامل معهم كـ"نفرات".