إعداد: مهند هارون موسى وعزمي عبد الرازق
وقع طرفا التفاوض في السودان، المجلس العسكري الانتقالي الحاكم منذ سقوط نظام البشير في نيسان/أبريل الماضي، وقوى الحرية والتغيير القائد للحراك السوداني، يوم أمس الأحد الرابع من آب/أغسطس، بحضور الوسيطين الإفريقي والإثيوبي، على وثيقة الإعلان الدستوري التي تحدد مهام وصلاحيات الفترة الانتقالية، توطئة للدخول في المرحلة القادمة.
في غضون ساعات من توقيع الوثيقة الدستورية تحولت العاصمة الخرطوم إلى عرس من الاحتفالات الحذرة، والأصوات التي تنشد القصاص من قتلة الشهداء، والحرية للأحياء، وانطلقت المواكب من كافة شرائح المجتمع
مجريات التوقيع على الوثيقة الدستورية
في وسط حضور إعلامي كثيف في قاعة الصداقة بإم درمان، تم التوقيع على الوثيقة الدستورية بالأحرف الأولى، والتي بدورها سوف تمهد الطريق لتسليم السلطة إلى هيئة انتقالية جديدة غالبيتها من المدنيين، حيث وقع عن تجمع قوى الحرية والتغيير، أحمد ربيع، القيادي بالتجمع، وعن المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، بجانب الوسيط الإفريقي محمد الحسن لبات، والوسيط الإثيوبي محمود درير. وقد أشار القيادي في قوى الحرية والتغيير منذر أبو المعالي أنه من المقرر أن يجري التوقيع الرسمي على الإعلان الدستوري أمام كبار الشخصيات الأجنبية من ضمنهم آبي احمد الرئيس الإثيوبي في 17 أب/أغسطس الجاري.
اقرأ/ي أيضًا: تقرير لجنة التحقيق يفتح الباب أمام مزيد من الاحتمالات الثورية في السودان
كلمة الدقير وحميدتي بعد التوقيع
عقب التوقيع على الوثيقة، تحدث كل من يوسف الدقير القيادي بالحرية والتغيير، ونائب رئيس المجلس الانتقالي "حميدتي" أمام الصحافة والإعلام، فلم يستطع الدقير مغالبة دموعه عندما بدأ بذكر قتلى الثورة وسجناء الرأي والنازحين والأطفال المشردين، حيث أورد في ثنايا حديثه، أن "السودانيين بعد ثلاثة عقود عاشوها من حكم الإنقاذ عانوا من خلالها من ثنائية الفساد والاستبداد، لاح وطنهم بين لجة الدم وساحل الدمع"، أما حميدتي فقد قال إن التوقيع على الوثيقة تم وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، كما ذكر "أننا طوينا صفحة عصيبة من تاريخ البلاد أساسها التناحر".
أجواء احتفالية وأخرى متشائمة
تقبل الشارع السوداني إعلان توقيع الوثيقة الدستورية في ظل فرح عارم لكن مع تخوف ساد المدن السودانية احتفالًا بالحكومة المدنية، فقد جاء هذا التوقيع بعد عدة جولات من المفاوضات التي تكللت بإعلان الحكومة المدنية التي قامت من أجلها ثورة ديسمبر بعد ثمانية أشهر كانت هي الأصعب في تاريخ السودان الحديث، فبعد تهاوي العملة المحلية، وموجة الغلاء التي أنهكت كاهل المواطنين السودانيين خرج المحتجون مرددين شعار "تسقط بس" في وجه نظام البشير البائد، حتى سقوطه في نيسان/أبريل الماضي بعد أربعة شهور من التنكيل والقتل من قبل جهاز أمنه، ثم جاءت فترة المجلس العسكري ومليشيا الدعم السريع والتي كانت هي أشد عنفوانًا من نظام البشير، إلا إن إرادة الشعب كانت هي الأقوى.
عقبات قد تواجه الفترة القادمة
يتفاءل كثير من السودانيين بشأن مستقبل هذا الاتفاق، معتبرين أنه السبيل للعبور بالبلاد من النفق المظلم، ومن الفساد الذي نخر في الدولة طوال فترة العقود الثلاثة التي ترأسها نظام البشير البائد، ويبدي آخرون كثر قلقهم. في هذا السياق، رأى كثير من الناشطين أن حكومة التكنوقراط هي الضامن الجوهري للفترة الانتقالية القادمة، رافضين بذلك حكومة المحاصصة والحزبية، إذ من الفشل وضع الثقة في تجمع أو حزب بعينه أو حركة مسلحة لقيادة المرحلة الانتقالية القادمة في السودان، فمنذ الاستقلال لم تفلح الأحزاب السودانية التي توالت في حكم السودان من إحداث نوع من التغيير والتطور، فقد كان الفشل حاضرًا في مراحل حكمها المختلفة، نتيجًة لضعف نخبها السياسية التي لم تتشرب من القيم الديمقراطية والإرادة السياسية وحب الوطن ووضع مصلحته فوق المصلحة الشخصية. في السياق ذاته، يذهب البعض إلى أن الخطر الأعظم أمام هذا الاتفاق يكمن في فلول النظام البائد، فنظام المؤتمر الوطني السابق له قاعدة كبيرة جدًا، فقد عمل النظام البائد على سياسة التمكين لمدة ثلاثة عقود، فقد يسعى إلى أن يقف أمام هذا الاتفاق حتى لو كلفه الأمر إراقة الدماء، فهذا هو ديدن النظام البائد.
حمدوك الأقرب لرئاسة مجلس الوزراء
صعد اسم حمدوك للساحة السياسية عندما تم ترشيحه لتولي منصب وزير المالية السوداني في التشكيل الوزاري برئاسة معتز موسى، إبان فترة الرئيس المعزول البشير، ولكنه اعتذر عن قبول تكليفه بمنصب وزير المالية، رافضًا العمل في ظل حكومة البشير، ثم بعد ذلك برز اسم الدكتور الاقتصادي أحمد عبد الله "حمدوك" وسط المرشحين لتولي رئاسة مجلس الوزراء في الفترة الانتقالية، بعد الإطاحة بالرئيس عمر حسن أحمد البشير وتولي المجلس العسكري الانتقالي إدارة البلاد.
علاوة على ما سبق، عمل حمدوك بوزارة المالية في السودان في منصب كبير مسؤولين في الفترة من 1981-1987 إلا أنه غادر البلاد نتيجًة لسياسة الحكومة السودانية، ثم عمل في عدة محطات خارجية، كإصلاح القطاع العام، والحوكمة والاندماج الإقليمي وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديمقراطية والمساعدة الانتخابية، حيث كان آخر محطة عمل بها القائم بأعمال الأمين التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، وهو من أبرز المرشحين للفترة الانتقالية القادمة في السودان.
اجمالًا، يشدد الكثير من السودانيين والمثقفين على أهمية الوحدة الوطنية والتوافق السياسي، فهما يعتبران الضامن الأساس للفترة القادمة، في الإشارة إلى أهمية الانفتاح على كافة شرائح المجتمع السوداني في سياسات إدارة الدولة، ودعوة أبناء السودان إلى التوحد والانتماء على مستوى الجماعة الأم (السودان) ونبذ الكيانات الصغيرة مثل القبيلة والإقليم، إلا أن مربط الفرس يكمن في احترام الحكومة لهذه الكيانات، ومخاطبة قضايا التنوع والاختلاف، فهي المشكل الأساسي وراء الصراعات والحروب الأهلية التي أدت إلى انشطار الدولة إلى شمالية وأخرى جنوبية.
فرح وقلق
بات السودان اليوم عقب التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق النهائي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على أعتاب مرحلة جديدة، تنشد الحرية والتحول الديمقراطي، لكن مشهد نائب رئيس المجلس العسكري الفريق "حميدتي" وممثل قوى التغيير أحمد الربيع، وهما يلوحان بالوثيقة الدستورية بصورة مقلوبة، أثار المخاوف من الانقلاب عليها، وسط حالة من الاحتقان والثقة المفقودة بين فرقاء السياسة السودانية.
عقب مراسم الإعلان الذي شهدته قاعة الصداقة وجد السودانيون أنفسهم مضطرين للانتظار حتي نهاية الشهر الجاري لرؤية حكومتهم المدنية، ليتفاجؤا ربما بأنها ليست كذلك، وأن رئيس المجلس السيادي الذي يعتبر بمثابة رأس الدولة، سيكون الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق حميدتي، اللذين سيحتفظان بصلاحيات سيادية كاملة، ما يعني أن العسكرية كسبت الجولة مرة أخرى حسب ما يرى بعض السودانيين غير المتفائلين.
أمطار ودموع الاتفاق
على مقربة من مقر الاحتفال بالتوقيع كانت السحب الخريفية تركض في الفضاء الرحب، بينما ترتسم الدموع العكرة في عيون أطفال الشوارع، ونهر النيل يواصل جريانه غير عابئ بمظاهر الفرح تقريبًا، ربما لأن قاعة الصداقة التي أهدتها الصين للشعب السوداني شهدت مثل هذه الاحتفالات مرارًا، وكان آخرها مشروع الحوار الوطني الذي ابتدره الرئيس المخلوع عمر البشير، واستحال إلى شراكة في السُلطة ضمنت بعض الحقائب الوزارية للمتحاورين لا أكثر، فيما بدا المشهد شبيهًا بذلك، وتحلقت رموز المعارضة حول منصة التوقيع، بحضور الوسيط الإفريقي محمد الحسن ولد لبات، والإثيوبي محمود درير، وكانت الأيادي الأمريكية والإماراتية تعمل في الخفاء، وتعالت الهتافات أيضًا (الدم قصاد الدم لو حتي مدنية) بينما تحدرت دموع رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير الذي ارتجل كلمة مؤثرة أهداها إلى "المشردين والنازحين وأسر الشهداء والمساكين من أهل السودان، وللأطفال الذين يشتبكون مع القطط في حاويات القمامة" على حد وصفه.
عودة قوش
تم الاتفاق على أن تكون مراسم التوقيع النهائي في السابع عشر من آب/أغسطس الجاري، يعقبه في اليوم التالي مباشرة تعيين مجلس السيادة وحل المجلس العسكري الانتقالي، على أن يؤدي مجلس السيادة القسم أمام رئيس القضاء في التاسع عشر، فيما يعقد مجلس السيادة أول اجتماعاته في نفس اليوم، وأشارت المصادر إلى أن تعيين أعضاء مجلس الوزراء سيتم في الثامن والعشرين من الشهر نفسه، وبات الدكتور عبد الله حمدوك أقرب المرشحين إلى منصب رئاسة الوزراء، على أن يعتمد مجلس السيادة تعيين الوزراء الثلاثين، فيما يعقد في الأول من الشهر المقبل أول اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء، وتبدأ في ذات اليوم عملية السلام الشامل، أما الخبر الأكثر إثارة للجدل فقد حملته صحيفة الأخبار السودانية، بتولي مدير مخابرات نظام البشير الفريق صلاح قوش عضوية مجلس السيادة في المرحلة الانتقالية.
الثورية ترفض الاتفاق
عطفًا على ذلك، فقد أعلنت الجبهة الثورية السودانية، التي تضم الحركات المسلحة، رفضها لوثيقة الإعلان الدستوري، وقالت الجبهة في بيان تلقى "ألترا صوت" نسخة منه إنها عازمة على التواصل مع الوساطة والمجلس العسكري لتعديلها وتضمين "رؤية السلام العادل كاملة"، وأشارت إلى أن اجتماعات أديس أبابا أنتجت رؤية شاملة للسلام تؤمن تحقيقه عبر مخاطبة جذور المشكلة السودانية، والعمل على إزالة المظالم التاريخية، توطئة لإنهاء الحرب بمخاطبة الأسباب التي أدت إلى حمل السلاح، وأضاف البيان: "لا تستطيع الجبهة الثورية السودانية قبول الوثيقة الدستورية بشكلها الراهن لأنها تجاوزت مبادئ محورية في أمر السلام، بل وضعت عراقيل أمام تنفيذ أي اتفاق سلام قادم بتحديد سقفه بمنطوق الوثيقة الدستورية نفسها".
اقرأ/ي أيضًا: بعد انقطاع دام شهرًا.. عودة الإنترنت في السودان بـ#توثيق_مجزرة_القيادة_العامة
الخرطوم ترقص بحذر
في غضون ساعات تحولت العاصمة الخرطوم إلى عرس من الاحتفالات الحذرة، والأصوات التي تنشد القصاص من قتلة الشهداء، والحرية للأحياء، وانطلقت المواكب من كافة شرائح المجتمع، وهم يرددون "البلد دي حقتنا والمدنية حكومتنا" بينما هتاف (مدنياو) سرعان ما كان يمارس أثره الجاذب لأصوات أخرى، فتندفع مرددة بذات النغمة المحببة للثوار.
يتفاءل كثير من السودانيين بشأن مستقبل هذا الاتفاق، معتبرين أنه السبيل للعبور بالبلاد من النفق المظلم، ومن الفساد الذي نخر في الدولة طوال فترة العقود الثلاثة التي ترأسها نظام البشير البائد، ويبدي آخرون كثر قلقهم
كانت الأجواء نهار التوقيع تنذر بهطول الأمطار، إلى جانب ارتفاع طفيف في درجة الحرارة، لكن ذلك لم يكن كافيًا لحرمان السودانيين من ممارسة فضيلة الفرح الذي كانوا ساعتها ينتزعونه انتزاعًا من واقع يبدو أنه يمضي من سيئ لأسوأ وفقاً لمخاوف الكثيرين، ومن اقتصاد يطحنهم طحنًا مثلما فعل المجلس العسكري في وقت سابق وهو يوقع الأتفاقيات ثم يمضي لالغائها في برك الدم، كما حدث في نهاية شهر رمضان الماضي، وبعده في عدة مواكب ارتقى فيها الشهداء، وهو أمر لا يستبعد البعض تكراره مرة أخرى، لذلك فإنهم يستميتون في ترديد هتافاتهم الثورية وكأن شيئًا من أمر الاتفاق لم يكن.
اقرأ/ي أيضًا:
ورطة البشير بين المذهب المالكي وعقيدة بوتين.. من يكاتب الجنرال في سجن كوبر؟
مليونية الدولة المدنية.. قطار الثورة السودانية يشق طريقه الوعر