في شارع الأربعين، أحد أكبر وأعرق شوارع مدينة أم درمان في ولاية الخرطوم، تجمّع رهط من الثوار لنصب تمثال من الحديد والجبص، للشهيد عبدالعظيم أبوبكر وهو يشهر علامة النصر، عندما وثقت الكاميرات حينها مقتله بالرصاص.
رفض بعض الأهالي نصب تمثال لأحد شهداء الثورة السودانية بزعم أنه من مظاهر "الشِّرك" ما أثار جدلًا كبيرًا وردود فعل غاضبة
لكن أزمة اجتماعية ودينية نشبت على إثر ذلك، إذ رفض بعض أهالي الحي نصب التمثال، وتم تحطيم قاعدته بزعم أن التمثال من مظاهر الشِّرك، ما أثار ردود أفعال كبيرة.
اقرأ/ي أيضًا: جداريات الثورة السودانية.. الخرطوم تحتفي بشهدائها
وانقسم أهالي حي العباسية الذي سقط فيه عبدالعظيم مضرجًا بدمائه أيام الاحتجاجات الأولى؛ ما بين مؤيد ورافض لنصب التمثال. وقال بيان صدر عن لجنة المقاومة بالحي، تلقى "الترا صوت" نسخة منه، إن "أحد تجار الدين استقطب قلة من ضعاف النفوس لمنع تنصيب التمثال، وأدخل الناس في فتنة"، على حد تعبير البيان، بينما ذرفت وزيرة الشباب والرياضة، ولاء البوشي، الدموع أمام التمثال الذي فشلت محاولات تنصيبه.
جدل التماثيل و"الأصنام"
وعلى الرغم من أن المجموعات السلفية لم تعلق على الحدث، إلا أن تتبع مشهد تحطيم القاعدة التي كان من المؤمل أن يرتفع عليها النصب، يعيد إلى الأذهان حقبة نظم الإنقاذ، وهي تنطلق من خلال مشروعها المعادي للفن -كما يردد معارضوها وخصومها السياسيون- بإزالة العديد من التماثيل والنصب من شوارع الخرطوم، إلى درجة منح وزارة الآثار والسياحة والحياة البرية، لجماعة أنصار السنة السلفية، لعشرات السنين.
وكان وزير السياحة والأثارالسابق، محمد عبدالكريم الهد، قد أدلى بشهادته أم محكمة سرقة آثار بالخرطوم، قائلًا إنه لم يزر المتحف القومي لأنه يحتوي على "أصنام": "لم تطأ قدمي أرض المتحف الوطني طوال فترة وجودي في الوزارة لأن المتحف يحوي أصنامًا"!
أزمة تمثال الأمير دقنة
حادثة رفض نصب تمثال الشهيد عبدالعظيم أبوبكر لم تكن الأولى، فقد سبقها، في مطلع الثمانينات، إزالة كل تماثيل شهداء ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964، خاصة تمثالي الشهيدين أحمد القرشي طه، وبابكر عبد الحفيظ، اللذين كانا يزينان مدخل مكتبة جامعة الخرطوم.
وفي وقت لاحق، فوجئ سكان مدينة بورتسودان، على البحر الأحمر، باختفاء نصب الأمير عثمان دقنة، أحد أشهر قادة الدولة المهدية. واتُهمت مجموعات متشددة بتحطيمه. كما واجه تمثال بابكر البدري، رائد تعليم النساء في السودان، نفس المصير.
تحطيم رمزية الاستعمار
توالت الأحداث المشابهة، من تحطيم التماثيل لأسباب مختلفة، مثل الاعتداء على تمثال المهاتما غاندي، الذي كان منتصبًا على ميدان شارع المهاتما غاندي بوسط أم درمان، بعد أن شيد على نفقة الجالية الهندية في البلاد.
وفي أول العهد الوطني بعد الاستقلال، رفضت الحكومة السودانية وجود تمثال للقائد العسكري البريطاني تشارلز جورج غوردن، ورُحّل التمثال إلى بريطانيا عام 1959.
لكن الدعوى في رفض تمثال غوردن، تختلف عن تلك التي تقف وراء الاعتداء وهدم التماثيل الآن، حيث عومل تمثال غوردن باعتباره رمزًا للحقبة الاستعمارية، فاحتج قادة المقاومة الوطنية آنذاك، على وجوده في شوارع العاصمة المحررة حديثًا.
وبنفس الطريقة، أقدمت السلطات السودانية إلى إزالة "سبيل السلاطين" الذي كان موجودًا منذ سنوات طويلة بالركن الجنوبي الغربي لمجلس بلدية أم درمان.
وكان سلاطين باشا، الضابط النمساوي، برفقة تشارلز جورج غوردن. وقد عُيّن حاكمًا لدارفور سنة 1884، لكن لم يمضِ في منصبه هذا سوى القليل حتى اعتقلته جيوش الثورة المهدية، فبقي أسيرًا، رغم ادعائه الإسلام والإيمان بالمهدية، حتى عام 1895، وحينئذ فر إلى الجيش المصري، وكتب مخطوطته النادرة "السيف والنار" الذي يوثق فيها لحقبة مهمة من تاريخ السودان.
الخرطوم بلا تماثيل
لم تسلم كلية الفنون الجميلة، حيث قسم للنحت والتماثيل، من هجمات المجموعات المتشددة، حتى تحولت لكلية نظرية، ما اضطر كثيرًا من أساتذتها لاختيار طريق الهجرة.
باتت ولاية الخرطوم، بلا تماثيل، مع غياب أي دور رسمي يشجع على إبراز الفن في الشارع. وحتى التماثيل والنصب التي صمدت، تتعرض للإهمال، إلى درجة تحول فيها النصب التذكاري للجندي المجهول، والذي يقف قبالة جامعة الخرطوم، إلى مجرد لوحة إعلانات تجارية للحفلات الغنائية!
على مدار العقود الماضية، تحولت الخرطوم ومعظم مدن السودان إلى غابات إسمنتية، تتخللها السيارات، بلا علامة على جمال أو فن
بالجملة، واستنادًا إلى نفس هذه السياسات، تحولت الخرطوم، ومعظم المدن السودانية، على مدار عشرات السنوات الماضية، إلى غابات إسمنتية، تتخللها السيارات، بلا علامة على جمال أو فن.
اقرأ/ي أيضًا: