06-فبراير-2019

من مسرحية ملف سري

يعاني المشهد الثقافي السوداني عمومًا حالة ضمور هائلة انعكست سلبًا على الإنتاج الابداعي، تحديدًا المسرح الذي هجره الجمهور، وتآكلت خشبته بفعل الإهمال الحكومي، فاتسم خلال العقود الثلاث الماضية بالموات، ونادرًا ما يزاح الستار عن مسرحية جديدة تُشد إليها الرحال.

استعادت مسرحية "ملف سري" الأضواء والجمهور معًا، وأثارت اهتمام النقاد، ربما بسبب الجراءة في نقد الحكومة

فجأة انتهى كل شيء مثل عرضٍ أخير تقريبًا، وانتبه الناس في بلاد النيلين إلى موت ذلك السؤال الشهير، أين تسهر هذا المساء؟ تأكيدًا على أن المسرح السوداني بات يلعب دوره الهزلي كشبح من الماضي.

استعادة الملف السري

خلال الفترة السابقة، استعادت مسرحية "ملف سري" الأضواء والجمهور معًا، وأثارت اهتمام النقاد، ربما بسبب الجراءة في نقد الحكومة بالتركيز على إحدى دور المسنين، كواحدة من الواجهات المنسية، حيث تدور فيها قصص ومآسٍ موغلة في الكوميديا السوداء، بجانب التقصير في رعاية الكبار وجحود الأبناء أيضًا، عطفًا على استكشاف الجانب الخفي من فساد الخدمة المدنية.

اقرأ/ي أيضًا: الكاتب السوداني عبد الغني كرم الله في الزنزانة

لعل الفشل في تقديم أعمال مسرحية عظية تروق لذائقة الجمهور، وفي الوقت نفسه تنجو من مقصات الرقابة الحكومية، بدا وكأنه السبب نفسه الذي جعل المسرح معتمًا طوال الوقت، بجانب معضلة التمويل بالطبع.

 إلا أن مسرحية "ملف سري" التي قام بتأليفها الممثل عوض شكسبير، وأنتجها الممثل جمال عبد الرحمن، بينما كان الإخراج لمحمد نعيم سعد، وجميعهم ممثلون، ما يعني أن العرض النهائي نتاج جهد زملاء فوق خشبة المسرح وليس وراء الكواليس.

استطاعت المسرحية وفقًا لكثير من الأراء أن تستعيد جمهور المسرح مرة آخرى، وتصمد لأكثر من عام، رغم الضرائب الباهظة ودور العرض التي تستثمر فيها الحكومة، فبعد أن طافت على معظم ولايات السودان، قرّر منتج المسرحية جمال عبد الرحمن الخروج للعالم وتقديم عروض في أمريكا وبعض الدول الأوروبية، ليبتدر من هنالك بداية جديدة.

اعتزال فنان  

لم ينته الأمر هنا، إنما فاجأ جمال عبد الرحمن، الممثل والمنتج، جمهوره بقرار صادم، وهو اعتزال الفن بكل ضروبه، عازيًا السبب إلى ظروف العمل السيئة والوسط الفني الموبئ بالحسد والغيرة الفنية والمؤامرات، إلى درجة اتهامه بالانتماء للحزب الحاكم السوداني، على حد قوله.

فنّد جمال تلك الاتهامات، معتبرًا أن التعامل مع الحكومة أمر لا مفر منها بسبب شموليتها وسيطراتها على كل مجالات الحياة في السودان، قائلًا "ما في جهة آخرى نتعامل معها غير الدولة والفضائيات الحكومة، عشان نقدر نعيش، وكل الممثلين فعلوا ذلك". وأضاف في مقطع فيديو نشره على صفحته بالفيسبوك وأثار حالة من الحزن وسط جمهوره، قائلًا: "أنا جمال عبد الرحمن المنتج والممثل أعلن اعتزالي، ولا علاقة لي بالعمل الفني إطلاقًا، داخل وخارج السودان، وسوف أبحث عن مهنة أخرى اعتاش منها وأقضي فيها بقية حياتي دون مشاكل واتهامات".

 

لم يكتف جمال عبد الرحمن بهذا القرار الذي أكد أنه لا رجعة فيها، وإنما ظهر في وقفة أخرى بدولة غربية منددًا بنظام الرئيس عمر البشير، وأشهر لافتة تضامن مع مطالب الشارع السوداني، كذلك فشلت محاولات عديدة ثنيه عن اعتزال الفن، من قبل الجمهور وزملائه الذين ناشدوه التراجع عن قراره، معتبرين غيابه خسارة فادحة للمسرح السوداني، لكنه تمسك بموقفه المفاجئ.

انتفاضة المسرحيين

بالرغم من أن جمال يكافح بطريقته الخاصة لتحفيز ثورة داخل الحقل الفني، تحاول أن تنتصر لواقع جديد أكثر احتفاء بالفن، إلا أنه لم يكن وحده ضمن فريق "ملف سري" الذين انخرطوا في مقاومة عسف السلطة، فقد سبقه الممثل محمد جلوك، الذي ظهر في مقطع فيديو أيضًا مستبشعًا ممارسات النظام الحاكم ضد المحتجين المسالمين، واصفًا الحكومة بأنها سقطت في قلوب السودانيين قبل سقوطها المادي الوشيك.

حراك المسرحيين السودانيين سبق انتفاضة كانون الأول/ديسمبر الحالية، إذ تغص المنافي بالمبدعين بسبب هيمنة السُلطة على المسرح، والفن عمومًا، وتدجينه ليدور في فلكها، لا في فضاء الإبداع الحر، كما يردد خصومها. وقد ظهر أمس الأول الممثل السوداني القدير عبد الرحمن الشبلي متظاهرًا لوحده أمام المسرح القومي بأم درمان، غرب الخرطوم، وهو يشهر يرفع لافتة تنشد الحرية والعدالة.

 ظهر الممثل السوداني القدير عبد الرحمن الشبلي متظاهرًا لوحده أمام المسرح القومي بأم درمان

وصفه الناشط والمدون سيد الطيب بأنه شعلة للتغير، فكتب سيد على جدار صفحته بالفيسبوك قائلًا: "الأستاذ عبد الرحمن الشبلي يقف وحيدًا أمام المسرح القومي، ويحمل حلم شعبنا بالحرية والسلام والعدالة، كما كان يحمل أمنياتنا في مسلسل حلم في حلم، وقد سارع إليه بعض الممثلين لمناصرته"، بالإشارة إلى أشهر أعماله الإذاعية الموسومة بـ"حلم في حلم".

عبد الرحمن الشبلي محتجًا (فيسبوك)

الرهان على الوعي

الفنان والمخرج المسرحي ربيع يوسف الحسن، لا يعول على دور فردي لمقاومة ما أسماها بالسُلطة الثقافية، وقال لـ"ألترا صوت" إﻥ ﺍﻟﻤﻮﺍﻗﻒ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ، ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻤﻴﺘﻬﺎ، لا ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺤﺪﺙ ﺛﻮﺭﺓ ﺗﺴﺘﻌﻴﺪ ﻣﻜﺘﺴﺒﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﺮﺡ، لافتًا إلى أهمية ﺍﻟﺮﻫﺎﻥ ﻋﻠﻰ اﻧﺘﺸﺎﺭ ﻭﻋﻲ ﺣﻘﻮﻗﻲ ﻭﻣﺪﻧﻲ ﻭﺳﻂ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﻭﻣﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺪﺭﺍﻣﻴﻴﻦ، مضيفًا "ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺴﺘﻌﺎﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﻤﻐﺘﺼﺒﺔ ﻣﻦ ﺷﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺮﺣﻴﻴﻦ ﻳﻔﻌﻠﻮﻥ ﻛﻞ شيء ﻋﺪﺍ ﺍﻟﻤﺴﺮﺡ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﺴﺘﻌﺎﺩ ﺍﻟﻤﺴﺮﺡ".

اقرأ/ي أيضًا: في وحشة غياب بولا.. مصرع الرجل الممتاز

إزاء المهام المطلوبة لاستعادة وهج المسرح السوداني، أشار ربيع إلى أهمية الانتظام ﻓﻲ ﻓﺮﻕ ﻭﺟﻤﺎﻋﺎﺕ ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ، ﺛﻢ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻓﻀﺎﺀﺍﺕ ﺑﺪﻳﻠﺔ ﺗﻐﻄﻲ ﺣﺎﺟﺎﺗﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺭﺩ، قائلًا: "ﺍﻷﻫﻢ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﺍﻟﺒﺎﺋﻦ ﻭﺍﻟﻤﻌﻠﻦ ﺑﻜﻞ ﻗﻴﺎﺩﺍﺕ ﻣﺆﺳﺴﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﺴﺮﺣﻴﺔ، أي ذات الطابع الحكومي، ﻭاﻗﺘﻼﻋﻬﺎ ﻣﻨﻬﻢ ﺳﻠﻤﻴًا ﻭﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴًﺎ ﻟﻴﺘﻮﻟﻰ ﺃﻣﺮﻫﺎ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ".

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أدب المقاومة في قلب الشارع السوداني.. انتفاضة ثقافية ضد القهر والرصاص

جائزة نيرفانا للقصّة القصيرة في السّودان.. ثلاثة تجارب في الواجهة