بخلاف أفلاطون الذي طرد الشعراء والفنانين من مدينته الفاضلة، نجح السودانيون في بناء مدينة قائمة على الجمال والفنون تمثلت بساحة اعتصام القيادة. وتاريخيًا تغنى الشعراء للثورة، حيث كان أجمل توثيق لثورتي 1985 و1964 بالغناء والكلمة المكتوبة. فكيف هزم الفن الاستبداد؟
خطوط حمراء
يتذمر كثيرون من أن القنوات السودانية لا تعكس الفنون كما ينبغي، وفي عهد نظام الإنقاذ السابق، تعرضت كثير من الأعمال الدرامية والفنية للمنع من العرض، لأنها تناولت جوانبًا لا تتماشى مع سياسات الإنقاذ، فكان مصيرها المنع من العرض.
صنفت دولة الإنقاذ نفسها بالإسلامية، فكان ممنوعًا استضافة فتاة لا تغطي شعر الرأس، إضافة لموانع وضروريات أخرى لا يلاحظها المشاهد
ويشرح المخرج الفني لقسم الجرافيك في تلفزيون السودان القومي، مرتضى الطيب بالقول إن أية قناة تلفزيونية لها ميثاق عمل يتضمن الخطوط الحمراء والخضراء للعامل بالقناة. ويضيف قائلًا إن المنع التلفزيوني يحدث إذا تخطى العامل حدود الميثاق.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "مغامرة ذاتية".. العودة لحياة أكثر إنسانية
ويضرب مرتضى الطيب مثلًا بالعهد المُباد حيث صنفت دولة الإنقاذ نفسها بالإسلامية، فكان ممنوعًا استضافة فتاة لا تغطي شعر الرأس، إضافة لموانع وضروريات أخرى لا يلاحظها المشاهد مثل "التيامن"، والمقصود الإمساك بالميكروفون باليد اليمنى وجلوس الضيف على يمين المذيع.
ويقول المخرج الفني لقسم الجرافيك، إن حظر الأعمال الفنية يتوقف على السياسة العامة للدولة، ففي عهد سودان الثورة لا يمكن استضافة شخص يمجد النظام السابق، بالرغم من شعارات الحرية والسلام والعدالة، لتنافيها مع ميثاق العمل.
أين ذهبت المدينة الفاضلة؟
كان اعتصام القيادة العامة هو ذروة الثورة السودانية، وخرج الفنانون من أعماق الأرض بعد عقودٍ من القهر والمطاردة السياسية، لتمتلئ شوارع الخرطوم بجداريات الغرافيتي العاكسة لنبض الثورة. ونجح أهل السودان ببناء مدينة أفلاطون الفاضلة وعكسوا تنوعًا واختلافًا ثقافيًا وفنيًا وثوريًا يحتذى به للعالم.
الفنان عاصم زرقان يعمل ما يراه صحيحًا بعيدًا عن المؤامرات السياسية، لأن ما جمع الفنانين بمختلف مذاهبهم في سودان الثورة كان المد الثوري، هكذا عرّف زورقان نفسه، وقال متابعًا إن الاختلاف بالفن يكون مهذبًا وبعيدًا عن الشحن العاطفي، ويرى أن الثغرة الوحيدة بالفن تدرج تحت مقولة "لا كراهية"، فالاختلاف بوجهات النظر -بحسب عاصم زرقان- عندما يتعلق بالفن يصبح مهذبًا، وقال إن الفنان ينتج رسالته الخاصة بالجمال.
اقرأ/ي أيضًا: ساحة "أتني".. هل تُخمد مشاعل "المقاومة الثقافية" بأمر المُلاك؟
عاد زرقان بالذاكرة إلى يوميات اعتصام القيادة العامة حيث نجح السودانيين بتكوين المدينة الفاضلة، يقول إن الناس كانوا راغبين بالاستماع إلى بعضهم أكثر من التكلم عن الذات، قائلًا "في الفن يمكن أن تعجب بالمنتج الفني أولًا، دون وجود لكراهية أو غضب غير مبرر"، مشيرًا إلى الاختلاف والتنوع الثقافي والفني إبان اعتصام القيادة، وواصفًا إياه بالثروة الحقيقة.
دعا الفنان عاصم زرقان الفنانين للبعد عن خطابات الكراهية والإحباط والعمل لتقليل القبح
ودعا عاصم زرقان الفنانين للبعد عن خطابات الكراهية والإحباط والعمل لتقليل القبح والذي كان نتاج أكثر من ثلاثين عامًا، وقال إن دخول الفنان بمتاهات السياسة وتوالي الصدمات عليه، سينتج عنه شخصًا منعزلًا، لأن الفنان لا يريد إلا إنتاج الفن.
الثورة الجمالية
تغنى السودانيون لثورات 1985 و1964، ثم جاءت ثورة 2019، وما بين الثورات الثلاث نشطت وتطورت الحركة الثقافية والفنية بموازاة الحركة السياسية. وهو ما يؤكده الكاتب والشاعر مأمون التلب بالإفادة التالية.
ويرى التلب أن الفن لطالما قاوم الاستبداد عالميًا وتاريخيًا لأن الفنون جميعًا ضرورة بشرية طبيعية. ويشير إلى اعتصام القيادة العامة والفنون التي كانت تعرض إبان أيام الاعتصام.
يقول التلب إن تجربة الحركة الإسلامية والإخوان المسلمين أحدثت انفجارًا أدبيًا غير مسبوق، وحالة فنية لم تدرس بعد. ويشرح قائلًا إن الحركة الثقافية كانت تمضي بالموازاة مع جهل الحكومة السابقة، وبصورة خاصة بعد الانقلاب وتحول الإخوان المسلمين من حركة دينية إلى حركة أمنية قاهرة للمثقف والفنان.
اقرأ/ي أيضًا: "كهنة آمون".. رواية جديدة لأحمد المك
وبحسب ما يرى مأمون التلب فإن جهل القيادات الأمنية بالثقافة، آنذاك، أتاح مساحة واسعة للحركة الثقافية والفنية للنمو والازدهار، بخلاف الحركة السياسية. مشيرًا للمنتوج الأدبي المنشور بالصحف السيارة للكاتب جابر حسين بعنوان "رؤية وجه الشعر في الثورة السودانية"، والذي درس نصوصًا شعرية قديمة تعود لتسعينات القرن الماضي وتنبؤها بالثورة الحالية.
تتزين شوارع الخرطوم بعبارات المقاومة ولوحات الغرافيتي والجداريات، الداعية لاستمرار المقاومة
ويعلل مأمون التلب استمرار الفعاليات الثقافية لسنوات مثل "فعالية مفروش" خلال العهد المُباد، لأن نظام الاستبداد وقتها وقف عاجزًا عن محاربة الجمال. يقول "من منا لا يخجل من الجمال الشديد"، وأشاد التلب بتلك الفعاليات التي خلقت جيلًا من القراء حارب القبح والموت بالفن.
تتزين شوارع الخرطوم بعبارات المقاومة ولوحات الغرافيتي والجداريات، الداعية لاستمرار المقاومة، فالفن بخلاف العلوم الأخرى يزهر أينما وجد القهر والاستبداد، لأن المقاومة بالفنون تخلق عالمًا خاليًا من الكراهية ونبذ الآخر المختلف.
اقرأ/ي أيضًا