هناك بالقرب من السوق الإفرنجي بالخرطوم، قُبالة شارع الجمهورية وعلى بعد أمتار من القصر الرئاسي تقع "ساحة أتني" التي تعتبر ملتقى للمثقفين، وملاذًا للنشطاء السياسيين، ومساحة حرة تسع كل أفراد المجتمع، يجتمع فيها الأصدقاء والأحباب عند الأمسيات لاحتساء القهوة والشاي على أنغام موسيقى الجاز التي تعلو بها أصوات الشباب الموهوبين، الذين يدندنون في جلساتهم وبين أصدقائهم؛ فتعلو الأصوات وتعم المكان حالة من البهجة، وفي الجانب الآخر تسمع نقاشات الفكر والسياسة بهدوء غير معتاد في مثل هكذا أحاديث، نعم؛ إنهم مختلفون حقًا، دكاكين بازارات الفلكلور السوداني والإفريقي تتمدد على طول وعرض الساحة بكل جوانبها، يتوسط ذلك المكان الآسر مقاعد أسمنتية منقوشة بعناية، يجلس عليها العشاق غالبًا يُحيطهم الحمام من كل جانب في منظر بديع ولوحة جميلة.
معاهد اللغة الإنجليزية التي تُحيط بالمكان جلبت بعض الشباب الذين ليست لهم علاقة بالمواضيع الأدبية والمعارض والفنون، فتغيرت هوية المكان بتغير مرتاديه
كانت "أتني" مكاناً لكنز المعارف لأكثر من عشر سنوات، حيث كانت تشهد من وقت لآخر مهرجانات ثقافية دورية ومعارض للكتب المستعملة، كبادرة جديدة وجدت استحسانًا ورواجًا واسعًا، أعطى ذلك المكان بُعدًا آخر، حتى اختيار الكتب يتم بعناية فائقة، فكل زائر يجد ضالته هناك، ما لا يوجد في أرفف المكتبات تجده "مفروشاً" في ساحة أتني، كان يُقام ذلك المعرض أول ثلاثاء من كل شهر، إلا أنه توقف بسبب مضايقة النظام السابق، الذي كان يعتبر ذلك المكان وكافة أنشطته -حتى وإن كانت ثقافية بحتة- واحدة من مهددات أمنه القومي، فأخذ يُضيق الخناق على مرتادي المكان، ولم يقف الأمر عند وقف الأنشطة الثقافية والفكرية، بل وصل إلى أن بعض الجهات طالبت باسترداد ملكية الأرض بغرض تحويلها لملك خاص، وبذلك تُطمس أهم معالم العاصمة الثقافية ومنابرها الحرة، ويبدو أن الأمر بالفعل يمضي نحو نهايات مؤسفة، حيث نُشرت على جدران الساحة إعلانات جاء فيها ( إن هذه المساحة ملكية خاصة ممنوع منعاً باتاً عمل أي نشاط من أي نوع أو تواجد أي مجموعات داخل المساحة)، كل تلك القرارات الصادمة والمفاجئة من قِبل السلطات الحكومية، يرى مراقبون أنها جاءت بسبب مجموعات يُطلق عليها "ملوك الاشتباك" و "غاضبون" التي تتجمع بساحة" أتني" للتخطيط لمقاومة النظام، والاستعداد ورسم الخطط للمواكب، وتعتبر هذه المجموعات خط الدفاع الأول للثوار ضد سلطات القمع، التي تعتدي على المواكب السلمية.
يقول منذر يعقوب أحد الشباب الذين يرتادون ساحة "اتني" في استطلاع قامت به "الترا سودان" كان سؤاله الرئيس: " هل فقدت ساحة اتني مرتاديها بسبب مضايقات النظام؟" يقول يعقوب: "إن السلطات للأسف نجحت في سلب المكان قُدسيته، وتحولت ساحة أتني إلى مكان عادي مثله مثل غيره من أماكن التجمعات في العاصمة كالمقاهي وغيرها".
بينما يرى تاج الدين نوري أن مضايقات السلطات الأخيرة ليست السبب الرئيس في خلو الساحة وقلة مرتاديها، ويرى نوري أن السبب يعود إلى غياب معرض "مفروش"، وأما السبب الثاني والمهم بحسب نوري أن كثرة معاهد اللغة الإنجليزية التي تُحيط بالمكان أو على مقربة منه قد جلبت بعض الشباب الذين ليست لهم علاقة بالمواضيع الأدبية والمعارض والفنون، فتغيرت هوية المكان بتغير مرتاديه.
أما خضر سراج يرى أن المجموعات الأصلية التي كانت تتردد على ساحة "اتني" قامت بتغيير مكان تجمعها في محاولة للتمويه، لأسباب تتعلق بالأمن والسلامة خاصة أن أكثرهم باتوا وكأنهم مشتبه بهم، فقط لأن أفكارهم مختلفة وطريقة تعاطيهم مع الحياة ومشاكل السياسة من منظور مختلف، ترى فيه الحكومة معارضة للنظام.
من جانبها تقول هيفاء ميرغني إن ساحة "أتني" كانت ملتقى المثقفين الذين ساهموا في رفع وعي كل من جاء إلى الساحة بقصد أو بدون، فكانوا كمن قام بفتح نافذة في عتمة غرفة مظلمة حتى باتت مهدد للنظام السابق في مستوى إدراك الشباب، كيفية إدارة البلد، والعدالة وحقوق الإنسان.
وتضيف هيفاء إن ساحة "أتني" أصبحت مكان غير آمن لمن يحلمون بدولة مدنية حيث بات كل من يرتاد المكان مُعرض للاعتقال والمساءلة من قِبل قوات الأمن، لذلك فقدت أتني" مكانتها بسبب خوف البعض من المصائر المجهولة، في ظل سيولة أمنية ووضع سياسي معقد وغير مستقر.
اقرأ/ي أيضًا
كرنفال نجاح للطفل أحمد فاوسينو.. ما القصة؟
سودانيون يغادرون مدن أوكرانيا ولجان في بولندا تشرع في مساعدتهم