17-ديسمبر-2023
رجلان سودانيان بالزي التقليدي

(Getty)

يعتبر شعر الدوبيت جزءًا مهمًا من التراث الأدبي والثقافي في السودان، وهو أحد أبرز التجليات الفنية في تاريخ الأدب السوداني وأكثر أنواع الفنون انتشارًا في السودان. يصف باحثون شعر الدوبيت بالفن الناضج مكتمل الأركان، إضافة إلى أنه استوعب جميع الموضوعات التي من شأنها أن تمثل إنسان السودان. ويصنف الدوبيت بأنه أحد أقدم الفنون القولية التي عرفتها البلاد. وبالرغم من أنه برز في بداية الأمر في البوادي إلا أنه استطاع أن يغزو الحضر، واستطاع  أن يرتدي قالب المدينة بسهولة لما يتميز به من مرونة في البناء.

قال الباحث عزالدين إسماعيل في كتابه "الدوبيت" إن شعر الدوبيت السوداني لا يمكن أن يكون "مادة فلكلورية"، مؤكدًا أنه مادة تاريخية مرت بكثير من الأطوار عبر الزمن

وكلمة "دوبيت" هي كلمة فارسية الأصل جاءت من مقطعين؛ الجزء الأول من الكلمة "دو" تعني "اثنان" فيما يظل الجزء الثاني بمعناه العربي في إشارة لبيت الشعر، لتحمل الكلمة معنى "بيتان"، وذلك تيمنًا بشكل الشعر العربي النبطي الذي يوصف فيه بيت الشعر ببناء معين يتكون من شقين هما صدر البيت وعجزه. وفي تأويل آخر لمعنى كلمة "دوبيت"، وُجد أن ترجمة الكلمة إلى بيتين المراد منها أن كل بيتين من الدوبيت يصنعان معنى مكتمل الأركان، واستند أصحاب هذا الرأي على أن الدوبيت لم تُنسب له أي قصائد طويلة في الماضي.

شعر الدوبيت كمادة فلكلورية

يرى الباحث عزالدين إسماعيل في كتابه "الدوبيت"، أن شعر الدوبيت السوداني لا يمكن أن يكون "مادة فلكلورية"، ويؤكد أنه مادة تاريخية مرت بكثير من الأطوار عبر الزمن، بل أنها ما زالت تتزايد وتتجدد مع تقادم الوقت. وأكد إسماعيل أن الساحة تمتلئ الآن بعدد كبير من شعراء الدوبيت الشباب، فيما زال بعض القامات ممن اشتهروا بهذا النوع من الفن على قيد الحياة. وتتوافر جميع مقومات الشعر العربي في شعر الدوبيت السوداني، والذي يرتكز على شكل بنائي محدد يتكامل بوجود الأخيلة والأوزان والقافية. وأشار الكتاب إلى أن الاختلاف الوحيد بين الدوبيت والشعر العربي يتمثل في اللغة التي يكتب بها الدوبيت، والتي تصنف على أنها "لغة غير معربة".

ويصف الكتاب اللغة التي استخدمت في بناء قصائد الدوبيت بأنها "لغة شعرية من الطراز الأول"، مشيرًا إلى أن المفردات المستخدمة في هذا النوع من فنون القول وإن كانت غير معروفة فهي لا تتعدى أنها كلمات من اللهجات العربية القديمة والتي لم تستحدث بعد، فيما أكد الكاتب أن هذا الفن يتمتع بشعبية في السودان لم يحظ بها الشعر الفصيح، إذ ينفعل السودانيون مع هذا الفن بشكل كبير، الأمر الذي أرجعه البعض إلى أن يكون السبب وراء تسمية الدوبيت باسم "الشعر القومي السوداني". ولفن الدوبيت مجموعة من الأغراض، يأتي في مقدمتها النسيب والغزل، وذلك بجانب المدح والفخر والرثاء والهجاء. وتناول أيضًا الدوبيت الحماسة ووصف الطبيعة وعالج عددًا من القضايا التي تخص السياسة والمجتمع.

الظواهر الفنية 

من أبرز الظواهر الفنية التي اتصف بها شعر الدوبيت هي ظاهرة "المناظرة الشعرية"، أو كما يعرف محليًا باسم "المجادعة" والتي يترامى فيها شاعران بالقول المنظوم، وهي أشبه بالمطارحة الشعرية، ولكن لا تحمل نفس النسق الذي يحتم على الشاعر الالتزام بالبدء بالحرف الأخير من عجز البيت الذي ينتهي به الشاعر الأول. وأشار الباحث عزالدين إسماعيل إلى الدور الاجتماعي الكبير الذي تلعبه المجادعة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور أساسية، ويدور المحور الأول حول المجادعة بين أبناء القبيلة أو الفئة الواحدة، وتقوم المجادعة هنا مقام الائتناس. بينما تمثل المجادعة بين مختلف القبائل والفئات قيمة للتفاخر.

بانر الترا سودان

وفي السياق تتشابه المجادعة التي تعقد بين القبائل إلى حد كبير مع المطارحة التي كانت تقام في  أسواق العرب القديمة، فالدوبيت أيضًا ظل يحضر مجالسه عدد كبير من الحكام الذين يتذوقون حلاوة المعني، فتقام المنافسات بين القبائل والتي عادة ما تكون جوائزها عبارة عن ولائم تقدم من قبل الفريق المهزوم، وغالبًا ما تمتد هذه الولائم لعدة أيام. وجدير بالذكر أن من هذه الأسواق كانت تنشأ روابط المصاهرة بين القبائل، بحيث يكون الدوبيت الذي يصف حسن فتيات القبيلة وكرم ذويهم باعثًا أساسيًا لقيام مثل هذه الروابط. 

وتأخذ المجادعة أحيانًا طابع التحدي، وفي هذه الحالة تحمل أغلب المجادعات طابع القول الملغز بين الشاعرين، ويتحتم على الشاعر الآخر أن يكشف المعنى الحقيقي المراد للأبيات، وذلك من منطلق أن الشاعر لا بد أن يمتلك قدرًا من سرعة البديهة يمكنه من حل لغز الكلام المرمز والرد على الشاعر الآخر بنفس الطريقة. وبجانب المجادعة يتميز الدوبيت أيضًا بظاهرة الحوار الذي يكون بين شاعرين، شريطة أن يتناول الشاعران نفس الموضوع في طرحهما، على أن يبرز أي منهما وجهة نظره الشخصية عن الموضوع المطروح. ومن أحد الأمثلة التي رصدها الباحث عز الدين إسماعيل هو حوار شعري أقيم بين رجل من البادية والآخر من الحضر فيقول رجل البادية:

يا عثمان أخوي البادية طارت ليه

كجنت الجمال وكرهت دروب الصية

داير أشوف بيوتًا بالحجر مبنية

داير أشوف عيون الصيدة في الأدمية

فيجيب رجل المدينة: 

يا أخوي اللمين أنا قلبي حن عليكا 

ياريت ما طريت أهل المداين ليكا

فك رسن القعود.. قوماك علي واديكا

في شجر الأراك ظبي الفريق راجيكا

 والسياحة عبر أبواب الدوبيت السوداني تثبت أن هذا الفن الأدبي يشكل لوحة تعبيرية فريدة تتسلل إلى أرواح القراء، بحيث يرتقي شعر الدوبيت إلى قمة الإبداع من خلال تناغم اللغة وغنى المعنى، الأمر الذي يجعل منه فنًا جاذبًا لعشاق الشعر والثقافة. يعكس هذا الفن خصوصية الثقافة والحضارة في السودان بفضل جمالياته وعمقه، وكذلك  يبني جسورًا بين الماضي والحاضر، مستدعيًا طيات التراث ومستشرفًا أفق المستقبل، كما أنه نجح بشكل كبير في أن يحقق تواصلًا حيويًا بين الأجيال.