11-يناير-2024
وائل الدحدوح

الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح، الذي فقد جزءًا من عائلته وزميله وأصيب بجروح (Getty)

كنت –مثل كُثر- أتابع في صمت وغضب ما يحدث في أرض فلسطين. حالات الموت والقتل اليومي، للكبار والأطفال. التدمير الممنهج للبنية التحتية لقطاع غزة وما يتضمنه ذلك من تدمير مضمر لإنسان المكان، بعزله وحصاره ومحاولة إخراجه من اللحظة الحضارية الراهنة. 

انفعلت بلا شك –مثل كُثر– بما يجري، تألمت وانحزت إلى ضميري الإنساني، ضد كل الذي يمارس على الفلسطينيين، الذي لا يمكن توصيفه خارج أطر البربرية والتوحش، بيد أن ما حدث للإعلامي والصحفي وائل الدحدوح، حقنني بالأمل، رغم حجم الألم الكبير الناتج عن الفواجع التي ألمت بهذا الرجل النادر، الأيقونة. 

نعم، الجميع في أرض فلسطين، الآن يعانون من تأثير هذه الفواجع اليومية التي يواجهها الناس هناك. الجميع بلا شك فقدوا أحباء لهم جراء الحرب الظالمة الموجهة ضد الإنسان الفلسطيني الأعزل، وهذا في بعدها العام -الحرب-، وإذا نظرنا إليها بمنظار التجرد وإحقاق الحق، نجد وائل الدحدوح ضمن هذا المجموع، فرد مثل الآخرين، فقد أعزاء وأحباء، لا يختلف عنهم كثيرًا ولم يدعِ يومًا أن ألمه أو مأساته أكثر خصوصية وأعلى قيمة، إلّا أنّ هذا الموقف بالذات، موقف الانتماء العام، والذوبان الشخصي في الألم الأكبر، والانتصار للآخرين قبل النفس، يجعل من الدحدوح شأنًا خاصًا مجللًا بعظمة انتمائه العام، فالرجل الذي لم يتوقف عن دوره الإعلامي ولو ليوم أثناء مروره بكل فواجعه الشخصية المريرة، يمثل دون شك قيمة كبرى، تعكس وتمثل المعنى الحقيقي للصمود والنضال لشعب كامل، ظل يناضل ويكافح متمسكًا بأرضه ومؤمنًا بقضيته طيلة سنوات الاحتلال الطويلة.

انفعلت بلا شك –مثل كُثر– بما يجري، تألمت وانحزت إلى ضميري الإنساني، ضد كل الذي يمارس على الفلسطينيين، الذي لا يمكن توصيفه خارج أطر البربرية والتوحش

تماسك وائل الدحدوح، وتخطيه ألمه الخاص، المتمثل في فقدانه لزوجته، وابنته ونجله وحفيده، وأخيرًا نجله الكبير، واستمراره رغم كل هذا في "الحياة"، حاملًا مايكرفونه وكاميراته -كما فقد مصوره سامر أبو دقة-، ومرتديًا زيه الموسوم بمسماه الوظيفي، ليخرج في وجه العالم الصامت، كل ساعة جاهرًا بالحقيقة وكاشفًا لما يجري من تقتيل للأطفال وهدم وتكسير للمستشفيات والمنازل، دون وجل أو خوف على حياته أو حياة من يحبهم؛ ممن تبقوا على قيد الحياة. يحدث هذا لأنه في الأكيد على الحق، يؤمن بأن دمه من هذه الأرض وإليها، وإن أريق الآن سيروي ترابها ويعمق صلته بها أكثر، ويربط من يأتون بعده بها في اتصال أبدي لا يفصم الأرض عن الدم، والإنسان عن الوطن؛ وطن الفلسطيني الشهيد– الحي.

في قصيدته الشهيرة "مديح الظل العالي"، يقول الشاعر محمود درويش، متمثلَا نضال واستبسال الفلسطيني:

"سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك، لا مفر

وسقطت بقربك، فالتقطني واضرب عدوك بي.. 

فأنت الآن حر وحر وحر". 

لطالما تطابقت لي هذه الأبيات من القصيدة مع الصورة السردية المروية عن الصحابي مصعب بن عمير، حامل اللواء في غزوة أحد، حين قطعت يده اليمنى فأسقط الراية، لكنه التقطها بيده اليسرى، فقطعت هي الأخرى، لكنه لم يستسلم وضم الراية بعضديه إلى صدره. صورة مبهرة في الشجاعة والاستبسال. صورة كنت أراها موغلة في بطولتها درجة الاقتراب من الأسطرة، لكني بت أراها الآن ماثلة أمامي متشكلة ومتكونة في بعدها البطولي والاستبسالي، الواقعي المتداخل في معناه الأبعد مع الأسطوري– الملحمي، فكأنما الدحدوح كلما سقط جزء منه، من دمه، من بدنه، من قلبه، من حياته بأكملها؛ لا يفعل شيئًا سوى أنه ينحني ويلتقط بعضه هذا، يضمه إليه ويمضي، مقدامًا لا مباليًا، يواجه عدوه ويفضحه ويشتبك معه وإن طال الوقت إلى الأبد.

كل فلسطيني في هذه اللحظة هو وائل، كل فلسطيني في هذه اللحظة هو ذراع بيد الأخرى لضرب العدو، هو انتصار متحقق في التاريخ لن يمحي أبدًا، ماضيًا مستبسلًا في سبيل تحرير أرضه ونصب رايته، راية النصر.

 

دلالات: