04-أغسطس-2019

من السودانيين من حنّ سريعًا إلى عمر البشير (أ.ف.ب)

آخر مشهد يمكن أن تتخيله هو منظر شعب يحنُ إلى جلاده، بصورة أقل ما يمكن أن توصف بأنها مازوشية سياسية، حين يرى فيه المخلص من تراكم عذابات الحاضر؛ كان هذا هو حال الشعب السوداني طوال أمد بعيد مع كل رؤساء الحكومات العسكرية تحديدًا، أكثر من الديمقراطيات المجهضة بفضل إتقان الجيش لهذه اللعبة، لعبة إنهاء مظاهر الدولة المدنية، والسيطرة على العقول والمشاعر.  

الحنين للجلاد، هذا هو حال الشعب السوداني طوال أمد بعيد مع كل رؤساء الحكومات العسكرية تحديدًا

في آخر أيام الاستعمار البريطاني للسودان، وقفت سيدة تتأمل طابور وداع الجنود البيض وهم يتأهبون للعودة إلى بلدهم، بمعية الحاكم العام السير ألكسندر نوكس، فقالت قولتها الشهيرة: "إن شاء الله يا إنجليز لا تفوتوا لا تموتوا"، وهي بذلك لم تجاهر برفضها المستقبل فقط، وإنما بالحنين إلى لحظات جميلة عاشتها في العهد الاستعماري، دون أن يخالطها شعور بقلة الوطنية!

اقرأ/ي أيضًا: محاكمة البشير.. ملهاة فض الاعتصام وإخفاء وجه السلطة العسكرية

منتصف الأسبوع الماضي، سُمح للرئيس المخلوع عمر البشير بحضور جنازة والدته الحاجة هدية، وفي يوم رفع سرادق العزاء جاء موكبه من سجن كوبر، كما لو أنه الرئيس الحالي، يطفح وجهه بالأمل، وقد وسمته نعمة السجن الفاره، وكانت تحرسه أكثر من 100 سيارة عكسرية، حاولت جاهدة شق الصفوف وأفواج المعزين الكبار، بينما الهتافات تتعالى: "عائد عائد يا البشير"، وهو يهز بعصاه، ربما لأن هذا الهتاف تحديدًا أضرم فيه نار شهوة السلطة، التي فقط تموت عند حافة القبر.

"عائد عائد يا البشير"، تشبه إلى حد بعيد "آسفين يا ريس"، لكنها عندنا يمكن تفسيرها في سياق التعلق بالتاريخ السياسي، والذي ظل يعتقل الجميع في سجونه الهائلة، حتى بات يعرف بـ"الزمن الجميل". كلنا يرغب في العودة إليه، وإفساح النظر إلى وسادة خالية، إلى جانب أن البشير نفسه بعد سقوط نظامه ظل يمثل عبئًا ثقيلًا على المجلس العسكري، في تصور شكل المحاكمة والإدانة، محاكمته التي هي أصعب من قرار خلعه، كما يبدو، وفي تنامي شعبية الضابط السجين، المزين بالنياشين كآخر مشير يتحاشى الجيش مس أقدميته، وسوف يظل كذلك شبيهًا بالكابوس الذي سببه الرئيس الشرعي محمد مرسي للسيسي، حتى وهو سجين.

صحيح ثمة فرق بين مرسي والبشير، ولكن الأخطر على المجلس العسكري وتطلعاته السلطوية، ليس فقط تحديات الحكم، وإنما نوستالجيا راكزة في الوجدان السوداني، سوف تنبذ كل مستحدث في الشأن العام، متشبثة كما يبدو بالماضي وأبطاله، والخونة الرائعين!

 ولربما دخل عهد البشير نفسه في زُمرة الحنين إلى الماضي، خصوصًا مع تطاول أمد المعاناة الاقتصادية والغلاء والرصاص، والمدارس المغلقة، والموت السهل المجاني، والشوق الدائم لأيام الرخاء والانتصارات وكرامة الانسان، المهدرة حاليًا، وقد تسمعه في تلك الأهازيج الشعبية: "زمن الزمن زين.. وﺍﻟﻠﺤﻢ ﺑﺎلأوقة ﻭﺍﻟﺴكر ﺑﺎﻟﺮاﺱ.. ﻭﺟﻮﺯ ﺍﻟﺤﻤﺎﻡ ﺗﻼﺗﺔ.. والوقود في الطلمبات.. والنقود في الصرافات"، أو حتى زمن خطابات البشير: "ديل أهلي، والوثبة، والرقص الشعبي وسط الحشود" .

لا يبدو مستبعدًا في بلادنا أن يفلح انقلاب عسكري في إعادة البشير إلى الرئاسة بعد تدهور العلاقة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير، وضياع الثورة، ودفع الشعب للتفكير في أي خيار غير جحيم الراهن هذا. عودة ربما بالموجة العاتية التي خفت بالرئيس الهايتي جان برتران، وذلك بعد أن أطاحه انقلاب عسكري في بداية التسعينيات، وعاد بعد أربعة سنوات ليشغل ذات المنصب، ومن ثم خُلع بانقلاب آخر، ومضى يندب تدخل الغرب في شأن بلاده.

عندما سُئل سلافوي جيجك: "من هو أكثر شخص أثار إعجابك؟"، رد قائلًا: "جان برتران، الرئيس الهايتي المخلوع مرتين، إنه نموذج لما يجب العمل به للناس في أوضاع يائسة"، وكون عودة البشير مستحيلة، فهو رهان متآكل في واقع السياسة المتغلبة، خصوصًا وأن مدير مخابرات البشير، صلاح قوش، مرشح لعضوية المجلس السيادي في المرحلة الانتقالية.

بالمناسبة، الفريق عبود الذي اقتلعته ثورة شعبية في تشرين الأول/أكتوبر 1964، بعدها بأشهر قليلة كان يمشي في الأسواق تحفه الدعوات، وتداعبه الجماهير بعبارة شهيرة: "ضيعناك وضعنا وراك يا عبود"، ربما لأنهم استذكروا ما فعله الرجل في الأمن والنماء، وتجاهلوا عن قصد الحرية والعدالة التي جلبتها الثورة، دون الوقوع في أحابيل المقارنة بين القيم السياسية واحتياجات الإنسان الضرورية، أي الصراع بين الخبز والديمقراطية.

والأمر نفسه تكرر مع النميري، الذي أطاحه انقلاب الضابط الشيوعي هاشم العطاء في عام 1971، وبقى سجينًا لثلاثة ليالٍ، فعاد بعدها رئيسًا حين أفشل أنصاره في الجيش الانقلاب عليه، ومضى النميري بعيد ذلك بثورة شعبية، إلا أن نغمةً لم تغادر الشفاه، حتى غادر هو الدنيا، هي: "عائد عائد يا نميري"، لكنه لم يعد!

لا يبدو مستبعدًا أن يفلح انقلاب عسكري في إعادة البشير إلى الرئاسة بعد تدهور العلاقة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير وضياع الثورة

فما الذي يمنع البشير أو أنصاره من دعم خيار عودته؟ وتنامي الحنين إلى عهد الرئيس المخلوع، خاصة وأن تصريحات حفل توقيع الاتفاق بين العسكر وقوى الحرية والتغيير، مجملها تدور في الحديث عن طيّ صفحة الماضي، رغم أن السودانيين عمومًا مفتونين بالماضي وشخوصه، فتنة تستنسخ التجارب في حال فشل استعادتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النكتة السياسية في السودان.. وجه الضحك المحظور

اتفاق الوثيقة الدستورية في السودان.. فرح حذر