أعلن قصر باكنغهام، مساء أمس الخميس، وفاة الملكة إليزابيث الثانية، أطول ملوك بريطانيا جلوسًا على العرش. وشهدت بريطانيا أمس تحركات أثارت القلق على صحة الملكة، ودفعت العديد من البريطانيين إلى التوافد إلى قصر "بالمورال" للاطمئنان عليها.
عندما تولت إليزابيث العرش البريطاني كان العلم البريطاني لا يزال يرفرف على الكثير من المستعمرات في مختلف أنحاء العالم، ومن بينها السودان
توقف العالم يترقب "سقوط جسر لندن" (London Bridge is Down)، وهي العبارة التي يستخدمها الوزراء والموظفون الرئيسيون في القصر الملكي للإعلان عن وفاة الملكة إليزابيث الثانية، وهي عبارة ضمن خطة متكاملة لإدارة تبعات موت الملك أو الملكة البريطانية.
ظهر مذيع شبكة "بي بي سي" البريطانية وهو يرتدي ربطة عنق سوداء، وكذلك ارتدت المراسلة التي تقف أمام قصر "بالمورال" -حيث تتواجد الملكة إليزابيث الثانية- الزي الأسود. وهي خطوة أخرى تؤكد على رحيل إليزابيث عن عمر يناهز (96) عامًا. تعد الملكة إليزابيث الثانية أطول الملوك خدمة في تاريخ بريطانيا، إذ ولدت في العام 1926، وأصبحت الملكة عند وفاة والدها الملك جورج السادس عام 1952.
في عام 1952 كانت الأميرة إليزابيث في كينيا تمثل الملك الذي كان مريضًا، عندما أخبرها فيليب بالنبأ العاجل بوفاة الملك، فعادت فورًا إلى لندن بوصفها الملكة الجديدة.
وشهد عصرها نهاية الإمبراطورية البريطانية على أرض الواقع، إلا أن العديد يرون في حكمها الذي غطى الفترتين، استمرارًا للنسق الكولونيالي البريطاني، بوضعها كرمز شعبي يلطف الصورة الدموية للاستعمار.
عندما تولت الملكة العرش البريطاني كان العلم البريطاني لا يزال يرفرف على الكثير من المستعمرات في مختلف أنحاء العالم، ومن بينها السودان الذي لم يكن قد حقق استقلاله بعد، وحصل عليه بعد أربع سنوات من جلوسها على العرش، ولكن وضمن النسق الكولونيالي الذي حافظت عليه الملكة، زارت السودان عقب استقلاله ضمن دول "الكومونولث"، حيث هبطت طائرة الملكة إليزابيث الثانية في الخرطوم في الثامن من شباط/فبراير 1965.
سامهت إليزابيث كما تقول البروفيسورة مايا جاسانوف من هارفارد، في التغبيش على حقيقة الاستعمار البريطاني الذي أزهق أرواح الملايين حول العالم، منهم عدد مقدر في السودان الذي قاوم الاستعمار البريطاني في حقبتيه، "التغبيش" الذي يظهر بصورة "واضحة" في مقاطع زيارتها للسودان؛ وكأن آلة عرشها الحربية لم تحصد أجساد هذا الشعب قبل عقود قليلة ماضية.
وقضت الملكة يومها الأول في الخرطوم قبل التوجه إلى مدينة "الدمازين" لمشاهدة بناء سد "الروصيرص" وزيارة أجزاء من مشروع الجزيرة في "مدني"، وهو المشروع الزراعي الذي أنشأته الحكومة البريطانية أثناء حقبة الاستعمار، كانت إليزابيث تتجول في السودان كأنها ما تزال تتفقد مستعمرة تحت التاج.
وخلال زيارتها عام 1965، دُعيت الملكة إليزابيث إلى حضور حفل شاي نظمته المجالس المحلية بالخرطوم في حديقة بمدينة أم درمان، حيث ألقت كلمة شكر للشعب السوداني. وقالت: "هذه الزيارة أظهرت لي مدى واقعية التعاطف والتفاهم بين البلدين".
وتجولت الملكة إليزابيث في الخرطوم برفقة الدكتور التجاني الماحي رئيس مجلس السيادة في حكومة ثورة أكتوبر 1964 التي لم يكن قد مضى عليها سوى بضعة أشهر عند زيارة الملكة، ففي 21 أكتوبر 1964 كان السودانيون قد أطاحوا بثورة شعبية بحكم الفريق إبراهيم عبود.
يذكر أن العديد من الرؤساء السودانيين طالبوها في فترات مختلفة بالاعتذار على مذبحة كرري التي حدثت في السودان أيلول/سبتمبر 1898، في المعركة التي دارت بين قوات المهدية السودانية والقوات البريطانية التي ساندتها قوات مصرية في منطقة كرري شمالي أم درمان عاصمة الدولة المهدية. وكان قوام القوات المهدية (60) ألف جندي، حيث استخدمت قوات القائد البريطاني "كتشنر" سلاح المكسيم لحصد أرواح مقاتلي المهدية وهو السلاح المحرم استخدامه في الحروب الأوروبية، ويُقال إنه تم تجريبه في معركة كرري. إليزابيث لم تولي هذه المطالبات أي اهتمام.
وسبق أن طالب الراحل محمد داوود الخليفة (حفيد الخليفة عبدالله التعايشي حاكم السودان وقائد جيوش المهدية) السودانيين بضرورة العمل على رد اعتبار السودانيين والقصاص لما حدث في كرري وذلك عبر تجريم بريطانيا ودفعها إلى الاعتذار عن ذلك.
وفي عام 1899، أعادت بريطانيا مدعومة بقوات مصرية استعمار السودان مرةً أخرى بعد تحقيق الانتصار على مقاومة قوات جيش المهدية وإنهاء تلك الحقبة في السودان.
واستحقت إليزابيث إلى جانب كونها ملكة العرش البريطاني لقب "ملكة الأرقام القياسية"؛ فهي أطول ملوك بريطانيا جلوسًا على العرش؛ فقد عاصرت الراحلة (15) رئيسًا للوزراء، من ونستون تشرشل (1952-1955) إلى ليزا ترس.
والتقت الملكة إليزابيث (13) رئيسًا من الرؤساء الـ(14) الأمريكيين، منذ هاري ترومان (1945-1953) إلى جو بايدن حاليًا. أما الرئيس الغائب عن هذه القائمة فهو ليندون جونسون (1963-1969).
زارت إليزابيث الثانية بصفتها ملكة بريطانيا أكثر من مئة دولة، وهو رقم قياسي آخر لعاهل بريطاني
وزارت إليزابيث الثانية بصفتها ملكة بريطانيا أكثر من مئة دولة، وهو رقم قياسي آخر لعاهل بريطاني. وقامت بأكثر من (150) زيارة إلى دول الكومنولث؛ إذ زارت كندا (22) مرة، وهو أكثر بلد عضو في الكومنولث تزوره، محافظة عبر هذه التسمية المخففة للمستعمرات، على إرث اسرتها التي نهبت ثروات هذه الشعوب.
وخلال فترة توليها العرش، قامت الملكة إليزابيث الثانية بنحو (21) ألف التزام رسمي، وأعطت "الموافقة الملكية" لنحو أربعة آلاف مشروع قانون، واستقبلت عددًا كبيرًا من الشخصيات البارزة في إطار (112) زيارة رسمية، من بينهم إمبراطور إثيوبيا هيلاسلاسي (عام 1954)، والإمبراطور الياباني هيروهيتو (عام 1971)، والرئيس البولندي ليخ فاليسا (عام 1991)، والرئيس الأمريكي باراك أوباما (عام 2011).
وأرسلت الملكة نحو (300) ألف بطاقة تهنئة إلى معمرين، وأكثر من (900) ألف أخرى إلى أزواج يحتفلون بذكرى زواجهم الستين. واستمر زواجها من الأمير فيليب (73) عامًا قبل أن يتوفى في نيسان/أبريل 2021، ما يمثل أيضًا رقمًا قياسيًا لملك بريطاني.
"سقوط جسر لندن"؛ التعبير الأكثر بلاغة عن سقوط جسر كان يربط ماضي بريطانيا العظمى بحاضرها
والتُقطَت للملكة أكثر من (200) صورة بورتريه، وكانت أول صورة لها في سن السابعة، وستكون آخر صورة هي تلك التي سيتم التقاطها لتشييعها؛ الصورة التي ستكون تعبيرًا عن نهاية حقبة مستمرة للاستعمار البريطاني في العالم اسمها الملكة إليزابيث الثانية عقب "سقوط جسر لندن"؛ التعبير الأكثر بلاغة عن سقوط جسر كان يربط ماضي بريطانيا الدموي بحاضرها.