14-أغسطس-2022
الخليفة الشيخ الطيب الجد ود بدر

الخليفة الطيب الجد ودبدر صاحب مبادرة نداء أهل السودان

لا يمكن أن نركن لكون سلطة الدولة أو السياسة، ووفق مفاهيم الاثنين؛ بديلة عن سلطة المجتمع أو الأسرة أو الدين حتى، كونها متحررة أو مستقلة عن أي من هذه الأنماط للسلطة وتحتكم لسيادة قوانين تضع المساواة في الحقوق والواجبات مطلقة لا تخضع لتراتبية أصيلة بالميراث، أو جمود تقاليد سلطة المجتمع وحدية التمرد عليها. فالسياسة نفسها قد وصلت إلى هنا وفق مخاض عسير، كما سلطة الدولة، وقد كانت أكثر قسوة بنا مما يمكن أن نعتبره رحمة وأمانًا في كنف الأسرة والقبيلة والجماعة الدينية، والتي قد يلجأ إليها الإنسان في مجتمع ما، متى ما قست عليه دولته وفشلت السياسة، إقرارًا بهذا الفشل في كليهما، وليس نجاحًا للقبيلة أو الدين في صياغة شروط المواطنة المتساوية.

الردة أو الرجعية ليست في فعل هذا الجمهور عندما ينغلق على قبيلته أو يتعلق بدينه، ولكنها فعل النخب عندما تغلق الوطن على القبيلة أو الدين، وهذا ما كانته السياسة عندنا طوال تاريخ الدولة الوطنية في السودان، في دولة ورثت عن المستعمر نفس عقيدته السياسية؛ (Divide to Rule - فرق تسد) فظلت السياسة في دولتنا تقوم على قدرة الدولة على تفريقهم عند إجماعهم حولها، وظل اجتماعهم فيها مربوط على تعزيز مصالح من في السلطة وليس المصلحة العامة عند الجمهور.

دخلت الجبهة الإسلامية للسياسة وفق فقه ديني جديد لم يكن متصالحًا مع الفقه السائد عندنا، والذي ربما يمثله الخليفة الطيب الجد نفسه

لن يكون لتدخل مشايخ الصوفية في الشأن السياسي العام بأكثر من تدخل الملكة إليزابيث في اختيار رئيس الوزراء في بريطانيا، وتحديد ممثلي الشعب في مجلس العموم، إلا بشكل مقدار، أو كمِّي كإعطاء هذه السلطة للكنيسة مثلًا وتركها بيد قساوستها، وإن كانت الملكة نفسها من يرأس الكنيسة هناك ويرعاها وفق تقليد قديم لم يعد يعطي الملكة أو الكنيسة سلطة على الدولة. ولن يكون في السودان مثل هذا الموقف غير خروج حتى عن التقليد في ممالك السودان القديمة والسلطنات فيه، والتي فصلت دائمًا بين سلطة "رجل" الدولة وسلطة "رجال" الدين، وإن تجاوزت هذه السلطات تاريخيًا احتكارها من قبل الرجال، ولكن دعنا نسميها هكذا ونحن معنيين بشخوص السلطة في الدولة والدين.

دخلت الجبهة الإسلامية للسياسة وفق فقه ديني جديد لم يكن متصالحًا مع الفقه السائد عندنا، والذي ربما يمثله الخليفة الطيب الجد نفسه، شأنها في هذا شأن المهدية ودولتها، والتي ناصبت الصوفية العداء وفق تجديد للفقه الديني تجاوز حتى المذاهب الأربعة عند أهل السنة "المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة"، وقد وصف الإمام المهدي هذه المذاهب بـ"الجمام"، وهو بئر سطحي للحصول على الماء في مجاري الوديان والأنهر عند انحسار الماء، والتي تنتهي الحاجة إليها عندما تمتلئ مجاري المياه هذه مجددًا، وهو ما تمثله الدعوة المهدية، كون الإمام محمد أحمد المهدي قد مثل ماء النهر. وإن كان صراع المهدية مع الصوفية، ورفض تعدد سجادات السادة المشايخ وضمهم تحت مشيخة الأنصار -أنصار الإمام المهدي أسوة بأنصار الرسول- صراع سياسي في جوهره ومظهره، وذلك وفق سلطة الدولة التي حكمت السودان بعد الاستعمار التركي وقبل استعمار الإنجليز.

ما يمكن أن نراه في صراع مدارس الإسلام السياسي في التعاطي مع أنماط التدين الموجودة في المجتمع، والتي حكمها التصوف في السودان، هو صراع بين ما يمكن أن نسميه بـ"الإسلام المدرسي" و"الإسلام الشعبي"؛ إسلام لديه طموح في حكم العالم وخلاصه، وإسلام ظل مشغولًا بخلاص الأفراد وتحكمهم في النفس وغرائزها. وقد شكل الإسلام المدرسي دائمًا مدرسة للنظام العام وتهذيب المجتمع، بينما انشغل الإسلام الشعبي بالسلوك الفردي وتهذيب الأشخاص وفق نمط صوفي اعتقد في سلامة الروح وسموها من خلال إجهاد البدن وترويضه على حياة سمتها الزهد والتقشف، فظلت نظرته لسلطة الدولة من المفاتن التي على الصوفي اعتزالها دون حتى أن يخوض صراعًا معها ما تركته في حاله.

ظلت نظرة الإسلام المدرسي للإسلام الشعبي "الصوفي"، واعتزاله للسياسة كسلبية يجب محاربتها، وقد كانت جبهة الصراع ولطبيعة الدين، ذات بعد ديني فقهي، في تهديد سلطة المشايخ ورفض التبجيل الذي يجدونه من المريدين، الأمر الذي وصل لاتهام المتصوفة من قبل الجماعات الوهابية "جماعة السلفيين وأنصار السنة"، بـ"الشرك"، وذلك في كيفية زيارة الضريح وتشييد مقامات الأولياء. ولم يختلف مذهب الوهابيين عن مذهب تلاميذ حسن البنا في تهديد الصوفية والحرب معها، وقد سئل الدكتور الترابي مرة عن الفرق بين جماعته وجماعة "أنصار السنة" فأجاب هازئًا: "هؤلاء يصارعون الموتى ونحن نصارع الأحياء".

https://t.me/ultrasudan

هذه المفردة في فقه الميراث "الجد محجوب عن الميراث"، والتي أتت لغياب النص، وربما السوابق أيضًا زمن الرسول (ص)، ليست ما أعنيه هنا مباشرة في النظر لمبادرة الشيخ الطيب الجد الأخيرة هذه، والتي يراد لها أن ترث بذل "الأحفاد" وتضحياتهم في صياغة نظامنا السياسي، وربما اختطاف الانتقال السياسي في السودان وعودة مراكز النظام القديم للفعل السياسي من خلف واجهاتها الاجتماعية. ولكني عنيت بها هذا الوصل الذي أقامه خليفة ود بدر مع الإسلام السياسي ونظام الجبهة الاسلامية في قطيعة مع إرث المتصوفة! وإن كان لوجوده في هذا النظام الذي حكم السودان أن يغير من طبيعته القاسية ويحول دون انتهاكات الدولة الموروثة، وذلك قبل السؤال عن موقف الشيخ الجد من انتهاكات الانقلاب بعد الخامس والعشرين من أكتوبر! فالشيخ الطيب الجد لم يكن يكن محايدًا في الصراع السياسي السوداني من قبل، حتى يكون وسيطًا محل ثقة الآن، وإن كانت الحيدة نفسها لأي من المكونات الوطنية ليست بميزة مطلوبة في ظل احتداد الصراع الوطني وكلفته الدامية. ولنا في مواقف بعض المشايخ أسوة حسنة، كما فعل الشيخ الياقوت في قريته جنوب الخرطوم.

قاطع الشيخ الطيب الجد ميراث أهل التصوف في تعاطيه المباشر مع أهل السياسة في أكثر من موقف. وأظنه الآن أولى بمراجعة نفسه قبل مراجعة الآخرين، والمصالحة معها قبل دعوة غيره للتصالح، وإن كان لتحالفه مع الإسلاميين إبان حكمهم جدوى الآن؛ فأظن أن قيمة هذا في تحقيق العدالة بدفعهم للإقرار بما فعلوه والاعتذار عنه كما في أدب المتصوفة وتدربهم على قهر هوى النفس، ولا أقدر منه بما سبق منه في الكشف عن الحقيقة والندم عليها، بدلًا من هذا التمادي في الإنكار والمساعدة عليه! فليس من مطالبة مشايخ الصوفية باتخاذ موقف سياسي ضد نظام ما؛ باختلاف عن استنكار دعمهم للنظام، وفي النأي بهم عن الصراع السياسي سلامة للمجتمع، وإن كان لتدخلهم في لحظات ما أثرٌ مطلوب، فهو لتأكيد السلم الاجتماعي وتوريث الحكمة عندما تغيب عن الساسة. وقد كان أولى بالشيخ الجد أن يأتي بسدنة النظام السابق معتذرين غير معتدين بالإثم!! ففي هذا حفاظ على حياة الناس عندما تبذلها الدولة. والنأي بنفسه وبإرث المشايخ من أهل التصوف عن التأكيد على سفاهة السياسة أو التبرير لانتهاكات الدولة.

لن يكون الهزل في النظر لهذه المبادرة والسخرية من أهلها، غير غفلة كما سبق في النظر للاعتصام الذي سبق وسمي باعتصام "الموز"، وإن كان في هذا التعاطي الساخر بالسياسة تأكيدًا على القطيعة مع انحلالها، إلا أنه لن يكون بديلًا لها ولا مغنيًا عن إصلاحها، وسيكون امتدادًا للانحلال السياسي في هذه البلاد وتهديدًا لكسب ثورتها. ولا بد من الجَد في هذه اللحظات التي تجدُّ فيها الأجهزة الرسمية، باعتبار مبادرة الشيخ الطيب الجد بديلًا لملء فراغها السياسي. كون السياسة لا تعرف الفراغ، فهذا لا يعني أن كل ما يملأها يمكن القبول به، ففي أي نظام سياسي تجد السياسة حظها من القبول وفق هذا الصراع بين سلطة معارضة وسلطة حاكمة، بقدر ما تجد المصلحة العامة للناس حظها في خطابي المعارضة والحكومة في أي نظام ديمقراطي، فالسياسة وبمفهومها الحديث يجب أن تتقدم المجتمع، دون قطيعة معه، كصيغة للصراع حول السلطة أكثر عدالة من الصيغ التي تحكم الاجتماع التقليدي، كالأسرة والقبيلة وحتى الدين، والذي يتم حشره في السلطة الزمانية حشرًا وفق قدرة فائقة على التصديق تصل الإيمان بالسلطة وصلًا للإيمان بالقدير!

لا بد من الجَد في هذه اللحظات التي تجدُّ فيها الأجهزة الرسمية باعتبار مبادرة الشيخ الطيب الجد بديلًا لملء فراغها السياسي

ووفق شروط العمل الديمقراطي التي تحكم الممارسة السياسية الحديثة ومؤسساتها التشاركية تصبح السلطة السياسة أقل سطوة وأكثر مساواة، بينما تحافظ المؤسساتية التقليدية على أنماط قابضة ومقدسة، لا يمكن أن تحكم فضاءنا العام وفق شروط عالم اليوم؛ إلا كسلطة قاهرة.

هذا لا يعني براءة للخطاب السياسي الحديث من كل ما يمكن أن تمثله سلطة المجتمع وسطوته، ولكن على الأقل لا يجعل للخطاب السياسي قداسة تستدعي الخروج عليه الخروج عن الملة، أو صلة نسب تعني معارضته العقوق. وهذا ما يجعل ائتلاف سلطة الدولة مع أي من أنماط سلطة المجتمع انحراف قد يؤسس للقهر السياسي وانعدام المحاسبة وعدم جدارة السلطة؛ كونها سلطة مطلقة أو يحكمها الفضول.