في خطابه الأخير، ذكر قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو أن هناك قوات باسم "الجبهة الإسلامية لتحرير إريتريا" تقاتل في صفوف الجيش السوداني. وقد أشار في خطاب سابق له، بعد هزيمة قواته في جبل مويا في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2024، إلى وجود قوات باسم "الجبهة القومية لتحرير إريتريا" تقاتل ضمن صفوف الجيش. يُلاحظ أن قائد الدعم السريع المعروف أيضًا باسم "حميدتي"، مع كل مناسبة يظهر فيها صوته للعلن، لا سيما عند تعرضه لهزيمة، يسعى بشتى الطرق إلى اتهام الإريتريين في حرب السودان ضمن جهات أخرى إقليمية ودولية، خاصة المعارضة الإريترية القديمة التي تركت خيار التغيير عبر السلاح منذ أكثر من عقدين من الزمن.
المتابع الدقيق يدرك أن هذه المزاعم تعكس محاولة حميدتي لإيجاد غطاء سياسي وأيديولوجي لحربه، خاصة في ظل التراجع الميداني لقواته والضغط الدولي المتزايد عليه. إذ أن حقيقة الأمر أنه لا توجد في إريتريا قوى عسكرية أو سياسية بالأسماء التي ذكرها دقلو، لا داخل الدولة الإريترية ولا خارجها
ولأن الخطاب الرائج الآن في تجريم حرب السودان باتهام الإسلاميين، وهو المقبول لدى عدد من الناس الذين يساوون بين القاتل والمقتول، وبين المواطن الآمن المستقر والجندي المقاتل حامل السلاح، ويغضون النظر عن الضحايا والخسائر في الأرواح والممتلكات. تقول سردية هؤلاء إن الإسلاميين هم من أشعلوا الحرب وهم القائمون على أمرها، مبرئين قوات حميدتي. وجاء وصف دقلو للقوى الإريترية المشاركة في الحرب، حسب زعمه، بـ"الإسلامية"، ضمن هذه السردية، حتى يعطي تغطية جيدة لما يريد أن يقوله، مستفيدًا من ارتباط الخطاب العالمي الذي يسم الحركات الإسلامية على تنوعها بـ"الإرهاب".
لكن المتابع الدقيق يدرك أن هذه المزاعم تعكس محاولة حميدتي لإيجاد غطاء سياسي وأيديولوجي لحربه، خاصة في ظل التراجع الميداني لقواته والضغط الدولي المتزايد عليه. إذ أن حقيقة الأمر أنه لا توجد في إريتريا قوى عسكرية أو سياسية بالأسماء التي ذكرها دقلو، لا داخل الدولة الإريترية ولا خارجها، ولم تعد هناك أي قوى إريترية تمارس نشاطها تحت لافتات الجهاد، بل تحولت جميعها إلى أحزاب سياسية مدنية، مجردة من السلاح.
المعارضة الإريترية
في عموم أفريقيا، وفي منطقة القرن الأفريقي تحديدًا، اعتادت السلطات في حكومات الدول دعم معارضي جيرانها بالسلاح ومساعدتهم في تشكيل قوات مقاومة للأنظمة المختلفة معها، والظروف التاريخية والجيوسياسية تبرر هذا التدخل لدى الجهات الداعمة، لكن هذه الأمور تنتهي بانتهاء أسبابها. تاريخيًا، كان السودان ملاذًا للمعارضة الإريترية خلال فترة الكفاح المسلح في "حرب التحرير"، وهو دور ترك بصمة عميقة في العلاقات الثنائية بين البلدين. لكن بعد استقلال إريتريا، تغير المشهد، حيث بدأ نظام أسياس أفورقي يتبنى سياسات أكثر تشددًا تجاه السودان، خاصة بعد أن أصبحت الخرطوم مقرًا للعديد من القوى المعارضة لحكمه.
العلاقات السودانية الإريترية ظلت متقلبة على مر تاريخي البلدين، بين التقارب والعداء، وفي سياق هذه التقلبات، تم تجريد المقاومة الإريترية في السودان من السلاح مرتين
العلاقات السودانية الإريترية ظلت متقلبة على مر تاريخي البلدين، بين التقارب والعداء، وفي سياق هذه التقلبات، تم تجريد المقاومة الإريترية في السودان من السلاح مرتين: الأولى حينما انهزمت جبهة التحرير الإريترية أمام التحالف الثنائي الذي ضم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا والجبهة الشعبية لتحرير تقراي، وأُدخلت إلى السودان في بداية الثمانينات من القرن الماضي. قامت السلطات السودانية حينها بمصادرة السلاح واعتقال القيادات السياسية والعسكرية وإيداعهم السجون، مما ساهم في صناعة فصل جديد من تأريخ إريتريا المعاصر. المرة الثانية كانت بعد توقيع اتفاقية سلام شرق السودان في سنة 2006، حيث نفضت سلطات البشير يدها عن المعارضة الإريترية وجردتها مما تبقى من سلاح جمعته على مدى أربعين عامًا، وطردت منسوبيها إلى إثيوبيا.
زيارة حميدتي
وفي الثالث عشر من آذار/مارس 2023، أي قبل شهر من اندلاع الحرب السودانية بشهر تقريبًا، زار حميدتي أسمرا والتقى بالرئيس الإريتري أسياس أفورقي. واحدة من أغراض هذه الزيارة كانت تجميع الأصدقاء والحلفاء قبل إعلان حربه، التي اندلعت في نيسان/أبريل 2023. ولكن قائد النظام الإريتري أسياس أفورقي يعتمد على إستراتيجيات عسكرية وسياسية متعددة لتعزيز مكانته داخليًا وفي الإقليم. فهو يسعى إلى تصوير نفسه كقوة مستقلة قادرة على التأثير في محيطها، لكنه في الوقت ذاته يخشى من أي تحالفات قد تهدد استقرار نظامه الداخلي. وقد اتسمت سياساته تجاه السودان بالازدواجية، إذ قدم الدعم لقوى معارضة مثل التجمع الوطني المعارض والحركات المسلحة في دارفور، وفي الوقت الذي سعى فيه إلى إقامة علاقات مع حكومات الخرطوم المتعاقبة.
أما قائد الدعم السريع ومستشاروه، فيظهر عليهم ضعف خبرتهم السياسية وقلة معلوماتهم التاريخية والإستراتيجية عن شرق السودان والدول المجاورة له. لذا عاد حميدتي من تلك الزيارة مليئًا بخيبة الأمل والتخبط في اتخاذ القرارات والتخطيط غير السليم، بما في ذلك إعلان حربه التي أضرت المواطن قبل أن تمس الجيش في السودان. وبعد اندلاع الحرب، تحالف حميدتي مع العدو الجديد لإسياس، آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، الذي استقبله استقبالًا حافلًا ورسميًا في وقت كان فيه العالم أجمع يتحدث عن انتهاكات قواته المروعة بعد اجتياحها لولاية الجزيرة في وسط السودان.
معسكرات ساوا
ليس سرًا أن بعض الحركات المساندة للجيش السوداني تدربت في معسكرات ساوا الإريترية. تتحدث المصادر عن أكثر من ثماني حركات مسلحة تقاتل إلى جانب الجيش السوداني تلقت تدريبها هناك. هذه الحركات بعضها له علاقات قديمة مع النظام الحاكم في إريتريا، لا سيما حركات دارفور التي عارضت نظام البشير، والبعض الآخر تم تدريبه بالتنسيق مع الجيش السوداني الذي أنشأ العديد من الكتائب المساندة في سياق حربه مع قوات الدعم السريع ذات الطبيعة المليشية، ربما من باب "داوها بالتي كانت هي الداء". لكن ليس من المنطقي أن يدرب النظام الإريتري معارضته المسلحة داخل أراضيه من أجل أن تقاتل في حرب السودان ضد قوات حميدتي. ربما في اتهامات حميدتي إشارة إلى هذه المعسكرات.
من كل ذلك، من الواضح أن التهم التي يحاول قائد الدعم السريع إلصاقها في المعارضة الإريترية، زاعمًا أنها ترتزق وتقاتل في صفوف الجيش السوداني، إنما هي طريقة لإبعاد التهم عن نفسه وتشتيت النظر عن قواته التي ما تركت مرتزقة في البلاد وخارجها إلا جمعتهم، وجعلت راتبهم ومصروفهم من مال البيوت السودانية الآمنة. هو لا يتطرق لاتهام حكومة إريتريا علانية بالاسترزاق في حرب السودان لأنه كان يطمح في أن تتحالف معه وأن تدعم حربه، لذا يكتفي بأن يتهم معارضيها. وفي كل خطاب يخلق اسمًا جديدًا لقوات إريترية لم تنشأ بعد وما تزال في طور الخلق حسب رغبته.
وقف النظام الإريتري موقفًا واضحًا ضد قوات حميدتي في السودان، منحازًا إلى الجيش والحكومة القائمة في البلاد، وسمح للعديد من القوات السودانية التي شاركت إلى جانب الجيش في المعارك ضد قوات الدعم السريع، بأن تتدرب داخل أراضيه
من المؤكد أن العلاقات السودانية - الإريترية شهدت تقلبات حادة على مدى العقود الماضية، متأثرة بالتغيرات الإقليمية والدولية. فمنذ استقلال إريتريا عام 1993، ظلت العلاقة مع الخرطوم تتأرجح بين التعاون والصراع. وعلى الرغم من وجود العديد من المصالح المشتركة بين البلدين، بما في ذلك الجوار الجغرافي والروابط الاجتماعية والاقتصادية، فإن التدخلات الخارجية والسياسات الداخلية لكلا الطرفين شكلت عائقًا أمام تحقيق شراكة إستراتيجية مستقرة. وعلى الرغم من ذلك، وقف النظام الإريتري موقفًا واضحًا ضد قوات حميدتي في السودان، منحازًا إلى الجيش والحكومة القائمة في البلاد، وسمح للعديد من القوات السودانية التي شاركت إلى جانب الجيش في المعارك ضد قوات الدعم السريع، بأن تتدرب داخل أراضيه. وربما لذلك يشعر حميدتي بالمرارة تجاه إريتريا، ولكنه يفضل أن يخترع قوى إسلامية إريترية من عنده على أن يشتكي من النظام.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"