مرة أخرى، يعود مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة، بخطاب مطول ومثير في آن واحد، ونقع المعارك في أوج استثارته، ليرسم الأفق ويحرر نقاط الخلاف، مشتبكًا على نحو جدلي مع التناقضات التي أثارتها المعركة، وتفجرت بسببها حرب أبريل، على وقع سردياتها المحكية، ومواقف النخب السياسية حيالها، وأجنداتها وأحلافها؛ المحلية والإقليمية والدولية، وتعارضات رهاناتها وعلائقها المدنية والعسكرية.
تجاوز عقار وهو يتلو خطابه أريكة الحكم إلى منصة الحكمة ليسدي النصح ويهدي الرشد ويصوب النظر إلى مكامن القصور، عبر رسائل محكمة وحكيمة في آن
وتجاوز عقار وهو يتلو خطابه أريكة الحكم إلى منصة الحكمة ليسدي النصح ويهدي الرشد ويصوب النظر إلى مكامن القصور، عبر رسائل محكمة وحكيمة في آن. أجمل تفصيلاتها وجمّل تراكيبها ونفذ منها إلى محاولة التقاط أفق مشترك من قلب تناقضات الحرب وسياق تعقيداتها.
عقار الذي صعد إلى منصب نائب رئيس مجلس السيادة، خلفًا لقائد الدعم السريع بعد شهر من اشتعال حرب أبريل، أعاد تموقعه في بيئة شديدة التجاذب والنفور بسبب التناقض الهائل الذي أفرز الحرب من جهة، واستمرار الصراع على السلطة في ميادين السياسة من جهة أخرى. ولم تجدِ محاولاته الحثيثة في مد جسور التواصل مع أقطاب الممارسة السياسية على سبيل الحوار المباشر، إذ صرّح أن رسائله إلى الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" عبر تطبيق واتساب لم تلق سوى التجاهل، وفي المقابل لم تكن مبادرته التي أطلق عليها "خريطة طريق لما بعد الحرب" بأفضل حال من رسائله الافتراضية، إذ أثارت ردود أفعال عنيفة إزاءها، وأنكر يوسف عزت، مستشار قائد الدعم السريع للشؤون السياسية حينها، "معرفته به" واعترافه بمنصبه الجديد كنائب للرئيس، وامتد رفضه إلى مجلس السيادة نفسه معلنًا حينها "أن البرهان رئيس منزوع السيادة ولا يستطيع ممارسة سلطاته والتحرك خارج دائرة قطرها خمسين مترًا"، ولفظها الإسلاميون بشدة وحدة.
لاحقًا استطاع عقار أن يحدث اختراقات في علاقات السودان الخارجية، على المستوى الإقليمي في الإيقاد والاتحاد الإفريقي وبعض دول الجوار، لا سيما جنوب السودان، وتعزى إليه أدوار كبيرة في الحوار السوداني – السوداني على شروط استقرار الدولة واستمرارها.
خطاب التحرير وتحرير الخطاب:
بدا الخطاب المعلن في سياق أعياد الميلاد والاستقلال، متأخراً بنحو 10 أيام، ومتناقضًا مع ما جرت عليه العادة من الاكتفاء بإطلالة رأس الدولة في المناسبات الرسمية. غير أن اللافت في الخطاب أنه استند بقوة على شرعية ثورة ديسمبر 2018، بوصفها لحظة مفصلية في سياق تأسيس الانتقال إلى الحكم الديمقراطي، وتأكيده على إطاحتها حكومة المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، وتضحيات الثوار حين انخراطهم بصدور عارية وأشهارهم لهتافات السلام والحرية والعدالة، ثم انحيازهم إلى مشروع الدولة عندما واجه الوطن مخاطر التفكك والانهيار. وبمثلما ندد عقار بتجربة الإسلاميين، أفرغ كنانته في نقد القوى المدنية الصاعدة على نضالات الثوار وتضحياتهم.
وبعث عقار كما يفعل حال كل خطاب برسائل دالة لعدد من القوى والفاعلين في المشهد: إذ بدأ بتذكير رفاقه في حركات الكفاح المسلح إلى أن الذي حملهم لحمل السلاح هو تحقيق العدالة وإنهاء عهود التهميش، داعيًا رفاقه لاجتناب إعادة إنتاج الخطأ الاستراتيجي والتاريخي بخلق جيش موازٍ للقوات المسلحة. والذهاب في مشروع تمزيق حقبة تعدد الجيوش من صفحات الدولة السودانية وبناء جيش مهني واحد بعقيدة وطنية جامعة.
قبل أن ينتقل إلى دعوة أصحاب مشروع الإسلام السياسي، سيما الشباب منهم، إلى مراجعة تجربتهم في الحكم داعيًا إلى تجاوز المشروعات الأحادية واستشراف المزايا التاريخية التي أهداها واقع التعدد العرقي والثقافي والديني عبر إجراء حوار عميق يؤسس سودانًا على أسس جديدة.
ودعا عقار القوى المدنية إلى تجاوز مرحلة التناقض والمطلبية الضدية والبحث عن شرعية توافقية من خلال عملية سياسية تأسيسية تنقل البلاد إلى الشرعية الدستورية، وقيام حكومة مدنية منتخبة تحقق تطلعات السودانيين، مشددًا على أن الدولة السودانية لا يمكن أن تُبنى على شعارات خالية أو تجارب فاشلة، وإنما على أسس العدالة والمواطنة وقبول الآخر، وهي السبيل لضمان استقرار الديمقراطية.
وجدد عقار العهد ضمن حكومته من أجل العمل على سودان جديد، حر ومستقل وموحد. وأن لا تهاون في الدفاع عن الكرامة والسيادة، مستعرضًا ما تم في مجال التعليم ومعركة قيام امتحانات الشهادة السودانية التي جلس لها (303,874)، في مراكز داخلية، وعدد (39,104) في مراكز خارجية. في ظروف قاسية أظهرت شجاعة الطلاب وأولياء أمورهم وهم يقطعون عشرات الأميال في ظل مخاطر جمة. مستنكرًا موقف دولة تشاد وموقف الحركة الشعبية من قيام الامتحانات في مراكزهم رغم توافر الشروط، فيما أكد أن الذين لم يحالفهم الظرف في الجلوس للامتحان سيجلسون في العام القادم في ظروف أفضل.
وبخصوص عملية تحويل العملة، أعرب عقار عن أن المسارات نفذت كما هو مطلوب، مشيرًا ومشيدًا بالمؤتمر الاقتصادي المنعقد في 18-19 كانون الأول/ديسمبر الماضي، واعتماد توصياته في موازنة العام 2025 من اعتماد على الذات والإنفاق على الأولويات واتباع سياسة مالية مرنة.
وبخصوص ما تم إنجازه في المجال الزراعي، أشار عقار إلى زراعة (39) مليون فدان مطري منها (17) مليون فدان ذرة ودخن، وهما غالب قوت أهل السودان، متوقعًا أن يرتفع الإنتاج إلى 5-6 مليون طن من الذرة والدخن وتجاوز حاجة السودان السنوية التي تقدر بـ 4.5 مليون طن. وفيما يختص بالمجال الصحي، أفاض عقار في التقاط المؤشرات الإيجابية برغم وطأة الظروف وتوفير كل الأدوية الأساسية للكلى والأورام والطوارئ، واستعادة خدمات معظم شركات الأدوية واستعادة معظم المستشفيات التي تم تحريرها وافتتاح خمسة مستشفيات جديدة، وتوفير أكثر من 50 إسعافًا إلى جانب احتواء الأوبئة، خاصة الكوليرا وحمى الضنك.
وناشد عقار في خواتيم خطابه النازحين بالعودة إلى قراهم ومدنهم المحررة والعمل على استئناف الإنتاج وإعمار ما دمرته الحرب، واعدًا بانسياب الخدمات في أقرب فرصة. ومؤكدًا اقتراب ساعة النصر وأن السودان سيظل حرًا وجميلًا ونبيلًا وشعبه مرفوع الرأس وأن وطن الحرية والسلام والعدالة قادم لا محالة. سنبنيه كما قال بسواعدنا ونحرسه بقلوبنا وسنتركه لأبنائنا وأحفادنا للكرامة ونموذجًا للوحدة والعزة.
لماذا يغضب الإسلاميون من عقار؟
سبق لعقار أن أثار غضبة الإسلاميين، حينما قدّم مبادرته للحل واستشراف معالم الطريق، لا سيما عند حديثه عن القبض على قادة النظام السابق، وإيداعهم السجون مرة أخرى، في ثنايا دعوته للمؤتمر الوطني لمراجعة تجربته، التي أنتجت واقع تعدد الجيوش. ومع أن نصحه اتشح لغة ودودة لا تنكر هوية انتسابهم للسودان ولا تتنكر لهم، إلا أن ردود الأفعال أتت حينها صادمة وصاعقة من أمانة الحركة الإسلامية، واصفة عقار بـ"قصر النظر"، ومذكّرة له بـ"تولي زمان يتسور فيه فرد على قرار وإرادة أهل السودان"، وفي ذات السياق، وعلى نحو أشد حدة وأكثر احتدامًا، أطلق أمين حسن عمر تغريدة تشي بعمق الصراع في معسكر سيادة الدولة، حين قال: "إن كان للفاعل قول يريد قوله فليحدث به مباشرة، فإن نائب الفاعل قوله مبني للمجهول"، متجاوزًا عقار إلى البرهان الذي سبق أن عرض بسابقة انتمائه للمؤتمر الوطني، حين كان معتمدًا لمحلية نيرتتي بدرافور، بغرض إحراجه، وهو قول يتناقض مع حقيقة أن البرهان وضباط مجلس السيادة هم ثمرة مباشرة لكفكفة نفوذ التدابير التنظيمية داخل الجيش، التي رعاها عبد الرحيم محمد حسين بإسناد مباشر من الرئيس البشير. والتي كانت تجري بالتوازي مع صناعة الدعم السريع والاستثمار فيه لدرء خطر مكونات الإسلاميين داخل المؤسسة العسكرية، لا سيما بعد توالي المحاولات الانقلابية منذ اللواء صديق فضل وحتى العميد محمد إبراهيم عبد الجليل ود إبراهيم، ولضرب الحركات المسلحة في دارفور في معارك فنقوقا وقوز دنقو.
ويرى الشفيع محمد أحمد، القيادي التاريخي بالحركة الإسلامية الذي شغل منصب نائب حاكم دارفور في الديمقراطية الثالثة، أن رسائل مالك عقار طبيعية وموضوعية كونها تعكس الآمال والمخاوف لدى كثير من المنافسين من القوى السياسية والجوار الإقليمي، داعيًا إلى التجاوب معها والبناء عليها، ومستدركًا على بيان الحركة الإسلامية بضرورة التشديد على أن الحركة مع جيشها وأجندته في تخليص البلاد من "تشوهاتها"، وأنها لا ترغب في الانصراف عن هذه المهام قيد أنملة. وبخصوص ما ورد على لسان عقار بأن بضاعة الإسلاميين فقدت صلاحيتها، نوه الشفيع أن هذا النقد صدر بالحرف من القيادي الإنقاذي قطبي المهدي في زمان حكم الإسلاميين، وهو الذي شغل منصب المستشار السياسي للرئيس المخلوع البشير، بل أن أصواتًا وازنة داخل حوزة التفكير الإسلامي ذهبت إلى استنفاد غرض الإسلام السياسي كمشروع أيديولوجي كما صرح المحبوب عبد السلام المثقف الإسلامي المرموق، وهو قول مغتفر في سياق السجال السياسي الذي ينبغي أن يسمو بحسب منظوره على عقلية "أركان النقاش" والحالة الهتافية الجوفاء التي وسمت النشاط السياسي وأقعدت به عن آفاق الحوار والإثمار.
وأثار خطاب عقار ردود فعل عاصفة في مجتمعات الإسلاميين الافتراضية، بين من رأى فيه استعلائية ووصائية مرفوضة، ومن رأى فيه نقدًا بناءً يصدر عن شخص وازن في مجلس السيادة، وله موقف وطني مشرف ودور يحمد له كونه دمج قواته في الجيش وامتثل لنداء الدولة ومستلزمات استمرار وجودها وشهودها.
ومن جهته، أوصى عبد الماجد عبد الحميد، رئيس تحرير صحيفة مصادر والإعلامي الإسلامي المعروف، مالك عقار والقادة العسكريين في سدة الحكم بضرورة مراجعة متون وحواشي خطاباتهم والحرص على اختيار كلماتهم بدقة محسوبة. وأبدى عبد الماجد أسفه من حالة تجمّد عقار في "محطة الثورة المصنوعة"، التي مزقت بطولات وتضحيات الشعب السوداني، "شعاراتها وأكاذيبها وتخرصاتها"، وهو يشتم الإسلاميين بلا داعٍ ويزايد على دورهم الوطني في معركة الكرامة. مؤكدًا أنه دور لن يقتلعه أحد، لأن مهره الدم والشهداء وكتائب المقاتلين الذين يرابطون مع الجيش في جبهات القتال المختلفة.
وعزى عبد الحميد خطاب عقار إلى إحاطته من الشيوعيين وقراءته لأهل اليسار، مبيّنًا أن الإسلاميين لن يكونوا لقمة سائغة لأحد، ومن أراد منازلتهم في ساحات الديمقراطية وخدمة الشعب، فصناديق الانتخابات مفتوحة عندما تضع الحرب أوزارها. ومن أراد غير ذلك، فليتحسس وزنه وتاريخه السياسي.
على ذات السياق، نسج قاسم الظافر، الأمين العام للحركة الوطنية للبناء والتنمية، ردًا مختصرًا لم يخل من قسوة على مالك عقار، معربًا أنهم كشباب ظلوا منذ 2003، يلتزمون الفعل المدني ويتدارسون التجارب السياسية الفاشلة، بما فيها تجربة مالك الشخصية التي توسلت السلاح سبيلًا للتغيير السياسي.
أكاديمي: خطاب مالك عقار تأسيسي بامتياز، وهو يتسق مع ما ظل يتبناه من موقف سياسي منذ 2019
هل من أفق تأسيسي في خطاب مالك؟
من جهته، وصف عمرو صالح ياسين، الأكاديمي والفاعل الثوري، خطاب مالك عقار بأنه خطاب تأسيسي بامتياز، وهو يتسق مع ما ظل يتبناه من موقف سياسي منذ 2019، وأضاف أن عقار ومناوي ظلا يرفدان الساحة بخطاب نوعي ونادر في السياسة السودانية ذو متجهات تأسيسية، ودون تحشيد شعاري، متمنيًا أن يتأسس سلوكهم المستقبلي على ذات متجهات خطابهم.
ومن جهته، يرى شادي علي، الفاعل الثوري، أن خطاب عقار يتناقض مع مواقفه التاريخية بعد انتقاله رفقة الحركات المسلحة إلى التمرد الاختراقي على نسق ما قام به حميدتي من ضرب مركز السلطة من داخلها، بخلاف تمرد الأطراف الذي فشل في الوصول إلى عمق السلطة. وأوضح شادي أن رؤية الهامش والمركز والانحياز للدولة لا يمكن أن يجتمعان في قلب رجل واحد، مشيرًا إلى "أن الانحيازات ذات الطابع التأسيسي في الخطابات تخفي رهانات سلطوية على صعيد المواقف غير المعلنة"، إذا أدركنا أن السياسة في جوهرها هي عالم المفاوضات السرية كما يقول ميلان كونديرا.
وعلى كثافة ما أثار عقار بخطاب التحرير، وهو يقوم بتحرير الخطاب من ردود أفعال متباينة على صُعد مختلفة، تبقى محاولاته الحثيثة لالتقاط ما يجمع من عمق مآزق السودان وعقم أزماته المزمنة، منذ مبادرته لخارطة الطريق التي لم تجد حظها من القبول، وحتى خطابه الأخير الذي قوبل بالاستنكار، ليشير إلى اجتراحه مقاربة للحل من قلب تناقضات الحرب.