11-فبراير-2023
تشهد البلاد موجة هجرة جديدة للشباب والطبقة الوسطى المتعلمة بحسب مراقبين (Getty)

تشهد البلاد موجة هجرة جديدة للشباب والطبقة الوسطى المتعلمة بحسب مراقبين (Getty)

لا يمكن الجزم بأن الطبقة الوسطى غير مؤثرة في ثورة ديسمبر فالشبان والفتيات الذين ولدوا في النصف الأخير من عمر نظام البشير الذين هم عماد الاحتجاجات، جاء أغلبهم من الطبقة الوسطى التي توزعت بين المدن وحتى تلك القرى التي لديها "امتدادات مدينية".

منذ ثورة كانون الثاني/ديسمبر 2018، شكلت الطبقة  الوسطى في السودان "كتلة عصية  ضد تحطيم الثورة"

ومنذ ثورة كانون الثاني/ديسمبر 2018، شكلت الطبقة  الوسطى في السودان "كتلة عصية  ضد تحطيم الثورة"، كونها مجتمعات متعلمة ولم تحظ بامتيازات التجارة والاقتصاد والتعدين والنفط والبنوك والبعثات الدبلوماسية، والتي جرى تقاسمها حسب الأولويات بين أنصار المخلوع والعائلات التي لديها تأثيرات سياسية شعر النظام بالحاجة إلى "استرضائهم وترويضهم".

كانت الآمال مرتفعة حينما سقط نظام عمر البشير -الرئيس الأكثر جلوسًا بين الرؤوساء السودانيين على سدة الحكم- كانت الآمال مرتفعة بالانتقال إلى دولة "التنمية المعقولة" بالنسبة للأجيال التي أطاحت بالمعزول، حتى الأجيال التي عايشت "ثورات أكتوبر وأبريل" زاحمت الأجيال الجديدة في طموحاتها التي تحطمت أمام "أداء بائس" للحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، والتي لم تستطيع مجرد الاقتراض من المؤسسات الدولية مستبقًة ذلك بتنفيذ شروط قاسية أضعفت الطبقة الوسطى التي قادت ثورة ديسمبر.

"سنفعل كل شيء من اللاشيء"، ربما هذا هو كان شعار الطاقم الوزاري لحكومة عبد الله حمدوك من أيلول/سبتمبر 2019 وحتى تشرين الأول/أكتوبر 2021، لحظة استيلاء قائد الجيش على سلطة المدنيين لتكون جميع السلطات تحت يد  العسكريين بدلًا من مناصفتها "عسكريين ومدنيين" وفقًا للوثيقة الدستورية 2019.

ويُطلق المتابعون للوضع السياسي في البلاد، تحليلات قد تبدو منطقية أو تشفي غليل المشفقين على ثورة ديسمبر قليلًا إذا ما نظرت إلى الأمور التي تحدث أمام السودانيين من ضيق العيش وانعدام الأمن وتلاشي الأمل وسواد المستقبل، وتردد مجالس الحانقين أن "من تركوا النظام البائد (30) عامًا وهم في المعارضة لا يمكنهم أن يفعلوا شيئًا إذا تقلدوا السلطة".

https://t.me/ultrasudan

فعلى الرغم من التصريحات الراديكالية التي يطلقها قادة الاتفاق السياسي المرتقب بين الجيش والمدنيين، إلا أن "تنازلات الغرف المغلقة" هي التي تتحكم في المشهد. فمن كان يدري في آب/أغسطس 2019 أن قائد الجيش هو الذي سينفرد بملف التطبيع وأن نائبه سيذهب إلى عاصمة جنوب السودان ليجلب الاتفاق مع الحركات المسلحة وهو يقود قوة مسلحة هي نفسها معنية ومطالبة بالترتيبات الأمنية للوصول إلى جيش واحد، بينما يجلس رئيس الوزراء المدني في مكتبه ينتظر "اقتراضًا دوليًا" ينتشل الاقتصاد من دورانه في فلك سوق العملات الموازي عاجز في السيطرة على إنتاج هائل من الذهب يذهب إلى تقوية الجيوش والمليشيات.

وثورة ديسمبر تعبر بمراحل المد وتمكث طويلًا في مراحل الجزر والانتكاسة، وتبقى المسؤولية التاريخية تلاحق من "صاغوا ورتبوا تفاوضوا" على اتفاق آب/أغسطس 2019 الذي أنتج حكومة مدنية لم تستطع استخدام ربع صلاحياتها من الوثيقة الدستورية، متخليًة عن مهامها لصالح تحركات العسكريين وطموحاتهم السياسية للقفز إلى ما بعد ثورة ديسمبر.

بعد ثلاثة أعوام من عمر الحكومة المدنية الموؤودة بانقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021، من المهم عدم الهروب من الوقائع التي لم تعد خافية أمام السودانيين من ملايين السكان الذين لجأوا إلى دول الجوار طلبًا لتعليم ابنائهم وبناتهم، وطلبًا للعمل في دول الخليج بأجور زهيدة جدًا والركض عبر الصحاري إلى ليبيا والمغرب ومصر  إلى البحر المتوسط في دجى الليل للوصول إلى أوروبا، التي تسحر قلوب وأفئدة الشباب السودانيين.

فاعلون ومحركون كانوا في الصفوف الأمامية للاحتجاجات الشعبية اليوم بفعل الإحباط غادروا المشهد والوطن كليًا إلى بلدان تنسيهم أحلامهم السابقة في أوطانهم. هذه التأثيرات نشأت داخل الطبقة الوسطى في السودان بين العاصمة والمدن وتلك الأرياف التي تقع ضمن حيز الزراعة المروية والمتصلة بمناطق الاستهلاك.

ورغم انتقال "راية ثورة ديسمبر" نسبيًا من الشبان والفتيات الذين يحاولون دفن الانقلابات العسكرية في هذا البلد إلى الأبد، إلا أن الضربات التي تلاحق ثورة ديسمبر قد لا تمنحهم الوقت لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق لصالح الحراك، كما أن الأنظمة العسكرية كلما توغلت في دهاليز السلطة تكتسب خبرة في هز "شجرة الاستقرار النسبي" فوق الجميع، تارة المساومة بكرت الأمن وتارة بتوسيع نطاق الجرائم والنهب، وتارة بالاضطرابات الإثنية والمواجهات المسلحة.

تآكل الطبقة الوسطى المعنية بثورة ديسمبر بحاجة إلى عمل كبير لاستعادة مسار الحراك السلمي المدني

إن تآكل الطبقة الوسطى المعنية بثورة ديسمبر قولًا وفعلًا  بالهجرات المستمرة نحو دول الجوار أو حتى أوروبا والخليج بحاجة إلى عمل كبير لاستعادة مسار الحراك السلمي المدني بإنتاج طواقم سياسية أكثر كفاءة وتأهيل وشفافية من "رحم المقاومة" نفسها، وتخطيط وتقسيم للأدوار لا الغرق في "أطنان من المواثيق التي لا تسمن ولا تغني من جوع".