من أم درمان إلى كيرياندنغو.. لاجئ يروي لـ"الترا سودان" أشكال المعاناة في أوغندا
18 فبراير 2025
في صباح يوم عادي، لم يكن صالح عبد الرحمن السعودي يتوقع أن تنقلب حياته رأسًا على عقب في غضون ساعات. كان يعمل في المدينة الاجتماعية ويسكن في أم درمان، في منتصف ليلة 15 نيسان/أبريل 2023 كان في السوق العربي. عاد إلى منزله في أم درمان لينام، لكنه استيقظ على واقع جديد. الحرب بدأت، وقوات الدعم السريع سيطرت على الحي الذي يسكن فيه.
سرعان ما وجد صالح نفسه محاصرًا وسط الفوضى والمضايقات من قبل عناصر الدعم السريع، مما أجبره على اتخاذ قرار مصيري، مغادرة أم درمان إلى ولاية الجزيرة، وتحديدًا مدينة ود مدني. هناك، استقر في مدرسة علي الميرغني، التي تحولت إلى مأوى للنازحين. حاول المشاركة في تنظيم المكان مع الشباب، لكن لم يمر وقت طويل حتى لاحقته قوى أخرى، هذه المرة استخبارات الجيش، ليجد نفسه مجددًا في وضع صعب، حيث أصبحت حركته مقيدة ومراقبة.
مع تزايد الضغوط، لم يجد صالح خيارًا سوى مغادرة السودان بالكامل
مع تزايد الضغوط، لم يجد صالح خيارًا سوى مغادرة السودان بالكامل. سلك الطريق إلى دولة جنوب السودان، ووصل إلى مدينة الرنك حيث مكث ثلاثة أيام. كانت الرنك محطة جيدة نسبيًا، لكنها لم تكن النهاية. استقل قاربًا نحو ملكال، حيث اضطر للبقاء أسبوعًا في احدى المساجد، معتمدًا على مساعدات بعض التجار السودانيين الذين وفروا له ولرفاقه الطعام.
بميزانية محدودة، واصل صالح طريقه إلى جوبا، التي بدت له كمدينة مستقرة مقارنة بما مر به. لكن رحلته لم تنتهِ بعد. قرر السفر من جوبا باتجاه أوغندا ووصل إلى مدينة نمولي الحدودية، و لأنه لم يكن يملك جواز سفر، عبر الحدود الأوغندية سيرًا على الأقدام ووصل إلى منطقة أليغو بالتهريب، هناك، تم تسليمه إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، التي قامت بتسجيله وإرساله إلى مركز استقبال اللاجئين في نيو مانزي.
الجدير بالذكر أن المسافة بين جوبا، عاصمة جنوب السودان، ومدينة أليغو في أوغندا، تُقدّر بحوالي 200 كيلومتر عبر الطريق البري. يُعتبر هذا المسار الطريق الرئيسي الذي يربط بين البلدين، ويمر عبر معبر نيمولي الحدودي. تستغرق الرحلة بالسيارة عادةً حوالي 4 إلى 5 ساعات، وذلك اعتمادًا على حالة الطريق والظروف المرورية.
وفي سياق متصل، أفادت الأمم المتحدة في تقرير حديث صدر في 15 شباط/ فبراير 2025، بأن عدد النازحين داخل السودان جراء الحرب المستمرة منذ نحو عامين تجاوز تسعة ملايين شخص، وهو ما يفوق إجمالي سكان سويسرا، بينما لجأ أكثر من ثلاثة ملايين آخرين إلى الدول المجاورة، وسط أوضاع إنسانية صعبة.
حلم اللجوء وكوابيسه
لم يكن صالح عبد الرحمن يتخيل أن حياته ستتغير بهذا الشكل. بعد رحلة طويلة من السودان إلى أوغندا، استقر في مركز الاستقبال بنيو مانزي لمدة أربعة أشهر، حيث حاول التأقلم مع الواقع الجديد. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه قرر استغلال وقته في تعلم اللغة الإنجليزية والعمل، فبدأ بمساعدة شخص آخر قبل أن يؤسس مشروعًا صغيرًا لبيع البطيخ.
في اواخر كانون الأول/ ديسمبر 2023، انتقل صالح إلى مخيم كيرياندونغو بمدينة بيالي، بعد أن دخل أوغندا رسميًا في 15 أيلول/سبتمبر من نفس العام. لكنه، مثل كثيرين غيره، وجد نفسه في صدمة: "كان لدينا طموح، لكن اصطدمنا بواقع المعسكر كلاجئين"، يقول صالح.
وفي السياق، كانت قد أعلنت مفوضية شؤون اللاجئين في أوغندا أنه لم يعد ممكنًا تسجيل اللاجئين السودانيين في كمبالا، مشيرة إلى أن مقدمي طلبات اللجوء سابقًا يجب عليهم السفر إلى مستوطنة كيرياندونغو التي تبعد حوالي 400 كيلومتر عن العاصمة الأوغندية كمبالا، لاستكمال التسجيل وتلقي الدعم، بما في ذلك تخصيص قطعة أرض بالمعسكر عند الحاجة.
وأوضحت أن هذا القرار، الذي دخل حيز التنفيذ في 9 كانون الثاني/يناير 2024، ويتماشى مع سياسة تسجيل اللاجئين في أوغندا، حيث يُطلب منهم التسجيل والاستقرار رسميًا في المستوطنات.
في المخيم، تباينت خيارات الشباب: بعضهم غادر إلى كمبالا بحثًا عن فرص أفضل، وآخرون قرروا العودة إلى السودان رغم المخاطر، بينما اختار صالح ومجموعة من زملائه البقاء
في المخيم، تباينت خيارات الشباب: بعضهم غادر إلى كمبالا بحثًا عن فرص أفضل، وآخرون قرروا العودة إلى السودان رغم المخاطر، بينما اختار صالح ومجموعة من زملائه البقاء. كان عليهم أن يقبلوا واقعهم الجديد، فالحياة في المخيم ليست سوى جزء من تجربة اللجوء.
وفي الصدد، حسب تقارير حديثة تستضيف أوغندا 66,725 لاجئًا سودانيًا، من بينهم 66,552 حصلوا رسميًا على حق اللجوء. ومنذ اندلاع الحرب في السودان، شهدت البلاد تزايدًا في أعداد الفارين من الصراع، مما أدى إلى ارتفاع عدد الوافدين الجدد بشكل ملحوظ.
وأكدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في وقت سابق أنها تعمل مع شركائها لتوفير الحماية والمساعدات الإنسانية لهم، حيث أصبحوا جزءًا من 1.8 مليون لاجئ يقيمون في أوغندا. وتُعرف البلاد بسياساتها المرنة تجاه اللاجئين، حيث تتيح لهم حقوق الإقامة والعمل والتنقل بحرية داخل أراضيها.
البطالة وانتظار المساعدات
لم يكن صالح وحده في هذه المعاناة. معظم الشباب في المخيم بلا عمل، يقضون أيامهم في القهاوي، وأحيانًا يستدينون حتى وصول المساعدات، التي يضطرون إلى بيع جزء منها لسداد الديون والإبقاء على الباقي للطعام والشراب. "لا يوجد عمل، فنعيش على المساعدات ونبيع جزءًا منها لنتمكن من العيش"، يصف صالح الوضع.
لا يوجد رفاهية اختيار عندما يتعلق الأمر بالطعام. "نحن نأكل من أجل البقاء فقط"، يوضح صالح، مشيرًا إلى أن نوعية الغذاء محدودة، وأحيانًا لا تكون كافية لسد الجوع. لا مجال للحديث عن التغذية السليمة أو التنوع الغذائي، فالأولوية هنا للبقاء على قيد الحياة بأبسط الإمكانيات.
أحد الآمال القليلة التي تمسك بها اللاجئون كانت المعاهد المجانية لتعليم اللغة الإنجليزية، لكن هذه الفرصة تلاشت عندما توقفت المعاهد عن العمل هذا العام دون تفسير. حتى عندما كانت تعمل، لم يكن الوصول إليها سهلًا، إذ يضطر اللاجئون للمشي مسافة تصل إلى 15 كيلومترًا لحضور الدروس.
من جانب آخر، بدأت الدراسة في أوغندا مطلع شباط/ فبراير الحالي، وسط تحديات تواجه الأسر السودانية اللاجئة، أبرزها الرسوم الدراسية المرتفعة في معظم المدارس وحاجز اللغة، حيث تعتمد أوغندا الإنجليزية في نظامها التعليمي.
حاول بعض الشباب، ومن بينهم صالح، إيجاد حلول، فبدأوا مشاريع صغيرة مثل المتاجر داخل المخيم، لكنها بالكاد توفر مصدر دخل مستدام. "حتى الذين لديهم دكاكين صغيرة في المخيم، أرباحهم بسيطة جدًا، بالكاد تساعدهم على الاستمرار"، يوضح قائلًا. رغم ذلك، لم يتوقف صالح عن البحث عن بدائل، فشارك في مبادرات مجتمعية مثل "اتحاد الشباب" و"لجنة الخدمات"، التي تهدف إلى دعم اللاجئين في توزيع المساعدات وتحسين أوضاعهم داخل المخيم.
إلى جانب الأوضاع الاقتصادية، يشكل غياب الخدمات الصحية تحديًا آخر يواجه اللاجئين في كيرياندونغو. المستشفيات بعيدة ويصعب الوصول إليها، مما يجعل العلاج أمرًا صعبًا للغاية
إلى جانب الأوضاع الاقتصادية، يشكل غياب الخدمات الصحية تحديًا آخر يواجه اللاجئين في كيرياندونغو. المستشفيات بعيدة ويصعب الوصول إليها، مما يجعل العلاج أمرًا صعبًا للغاية. ورغم محاولات بعض السودانيين إنشاء عيادات صغيرة داخل المخيم، إلا أن الإمكانيات تبقى محدودة.
و يعاني اللاجئون يوميًا من تفشي الأمراض المزمنة مثل الكوليرا والسكري والملاريا والأمراض الجلدية، بسبب سوء الصرف الصحي والمياه الملوثة. كما يعاني الأطفال من سوء التغذية نتيجة نقص الغذاء وظروف السكن الصعبة، وفقًا لما أفاده الناشطون في المعسكر.
وفي سياق متصل، أعلنت وزارة الصحة الأوغندية عن تفشي وباء إيبولا في العاصمة كمبالا، مؤكدة تسجيل أولى حالات الوفاة يوم الأربعاء 29 كانون الثاني/ يناير 2025. وأوضحت منظمة الصحة العالمية أن الفيروس ينتقل بين البشر عبر الاحتكاك المباشر، مما يزيد من مخاطر انتشاره.
وفي خطوة غير مسبوقة، أطلقت وزارة الصحة الأوغندية، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وشركاء دوليين، أول تجربة لقاح ضد فيروس إيبولا من النوع السوداني، حيث تم تجهيزها خلال أربعة أيام فقط من تأكيد تفشي المرض.
أما الدعم النفسي، فهو شبه معدوم. "يقولون إن هناك دعمًا نفسيًا، لكن عندما تذهب، تجد نفسك في مساحة كبيرة مع عشرات الأشخاص يسمعون كلامًا عامًا لا يساعد أحدًا"، يوضح صالح. بالنسبة لمن فقدوا أحباءهم أو شهدوا فظائع الحرب، لا يوجد مكان آمن لمشاركة الألم أو البحث عن تعافٍ نفسي حقيقي.
ورغم كل شيء، يظل اللاجئون متشبثين بوطنهم، ويتابعون أخباره عبر الإنترنت، رغم صعوبة الوصول إليه بسبب ضعف الإمكانيات. "نحاول الدخول إلى الإنترنت بأي طريقة فقط لنطمئن على الناس الذين تركناهم خلفنا"، يردف قائلًا.
صراع لا ينتهي
بالنسبة لصالح عبد الرحمن، لم يكن قرار مغادرة السودان مجرد هروب من الحرب، بل كان تحررًا من واقع مرير لم يكن ينتهي حتى قبل اندلاع القتال. لكنه اليوم، في مخيم كيرياندونغو بأوغندا، يدرك أن فكرة العودة إلى السودان بمجرد توقف الحرب ليست سوى "كذبة كبيرة"، كما يصفها.
"لقد عانينا كثيرًا في السودان"، يقول صالح بحسرة، وهو يرى أن المعاناة لم تتوقف عند حدود الوطن، بل امتدت إلى حياة اللجوء، حيث يواجه السودانيون تحديات يومية، ليس فقط في البحث عن الطعام والمأوى، ولكن أيضًا في علاقتهم ببعضهم البعض.
رغم كل هذا، يصرّ على أن رسالته للعالم واضحة: "عليكم رؤية السودانيين، أشعروا بمعاناتهم". فهو لا يريد العودة، لكنه يعرف أن هناك من يحلم بذلك، ولذلك يتمنى أن تتوقف الحرب في أسرع وقت ممكن، ليس فقط من أجل من تبقى داخل السودان، ولكن أيضًا من أجل اللاجئين الذين يعيشون في ظروف صعبة.
بالنسبة للكثير من اللاجئين، لم يعد اللجوء مجرد محطة مؤقتة، بل أصبح واقعًا مفروضًا عليهم. البعض يحاول التكيف، سواء عبر العمل التطوعي أو البحث عن فرص تعليمية، بينما آخرون فقدوا الأمل تمامًا
وفي خضم المعاناة اليومية التي يواجهها اللاجئون السودانيون في أوغندا، يظل الأمل في تحسين أوضاعهم حيًا رغم التحديات الكبيرة التي تعترضهم. ورغم الظروف الصحية الصعبة والمشاكل الاقتصادية، لا يزال اللاجئون يسعون جاهدين للتأقلم مع واقعهم الجديد، مدعومين بشكل محدود من قبل بعض المنظمات الإنسانية والشركاء الدوليين.
ختامًا، بالنسبة للكثير من اللاجئين، لم يعد اللجوء مجرد محطة مؤقتة، بل أصبح واقعًا مفروضًا عليهم. البعض يحاول التكيف، سواء عبر العمل التطوعي أو البحث عن فرص تعليمية، بينما آخرون فقدوا الأمل تمامًا. وبين هؤلاء وأولئك، يظل الحلم المشترك هو وقف الحرب، حتى وإن لم يكن الجميع يفكر في العودة إلى الوطن بعدها.
الكلمات المفتاحية

منذ عامين.. لأول مرة العيد في الخرطوم دون انتشار لعناصر الدعم السريع
منذ عامين بالضبط تشهد ولاية الخرطوم بمدنها الثلاث ومختلف محلياتها، لأول مرة احتفالات عيد الفطر المبارك دون المشهد المتوتر لانتشار قوات الدعم السريع، خاصة في مدينتي الخرطوم وبحري.

الخرطوم.. المدينة المُستردة في حرب السودان بلا معارك عسكرية
ربما تكون الخرطوم المدينة الأكثر حظًا كونها أُستردت لصالح الجيش بمعزل عن دوي المدافع والرصاص، عقب انهيار قوات الدعم السريع والانسحاب كمجموعات صغيرة جنوبًا نحو خزان جبل أولياء، ومغادرة حدود ولاية الخرطوم بما تيسر من عتاد ووقود وسلاح ومقتنيات.

عودة أسواق "أم دورور" في ولاية الجزيرة تُعجل بحل الأزمة الإنسانية
عادت الأسواق الشعبية الأسبوعية بولاية الجزيرة، وبدأ المواطنون يمارسون تجارة الحبوب الزراعية والخضروات والسلع الاستهلاكية، بعدما غابت هذه الأسواق قسريًا بسبب عمليات نهب قوات الدعم السريع طوال العام الماضي.

غرفة طوارئ أبو شوك لـ"الترا سودان": وفاة 53 مواطنًا بالتدوين والجوع
كشفت غرفة طوارئ معسكر أبو شوك للنازحين بولاية شمال دارفور، عن وفاة (53) مواطنًا من جرّاءِ القصف المدفعي والجوع خلال الثلاثة أشهر الماضية.

محكمة العدل الدولية تعلن موعدًا لجلسات دعوى السودان ضد الإمارات
أعلنت محكمة العدل الدولية في بيان بتاريخ اليوم 28 آذار/مارس 2025، عن الشروع في إجراءات التقاضي في الدعوى المقدمة من حكومة السودان ضد دولة الإمارات.

معركة الخرطوم.. انهيار أم إعادة تموضع؟
في تحول استراتيجي حاسم، بعد قرابة العامين من حرب منتصف أبريل /نيسان 2023، أعلن رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان

مقاومة الفتيحاب: انتهاكات واسعة للدعم السريع جنوب أمدرمان
أفادت تنسيقية لجان مقاومة الفتيحاب، مساء أمس الخميس، الموافق 27 آذار/مارس 2024، بأن قوات الدعم السريع التي فرت من مدينة الخرطوم تمارس انتهاكات واسعة في الريف الجنوبي وقرى الجموعية بأمدرمان