مقاضاة الإمارات: الاستحقاق القانوني والكسوب السياسية!
12 أبريل 2025
في سياق محفوف بالتعقيد، انعقدت أولى جلسات محكمة العدل الدولية، للنظر في الشكوى المقدمة من حكومة السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، فمن جهة بسط الجيش السوداني سيطرته على رقعة واسعة من العاصمة الخرطوم ولم يتبق سوى منطقة أم درمان جنوب بعد أن استعاد ولايتي سنار والجزيرة وحاصر الدعم السريع في بؤر معزولة بالنيل الأزرق وفك الحصار عن مدينة الأبيض بشمال كردفان. وفي المقابل تمدد الدعم السريع بمحور الصحراء وأسقط منطقة المالحة وبلغ قرية أم كدادة مع تكثيف الهجوم على مدينة الفاشر بغرض إسقاطها. ومع خفوت مسار تأسيس الحكومة الموازية على وقع ما سببه استعادة القصر الجمهوري لصالح القوات المسلحة من يأس في القواعد الاجتماعية المؤيدة للدعم السريع، وعلو نبرة مهاجمة الولاية الشمالية لتعويض الخسائر الإستراتيجية بانتصارات رمزية تعيد الثقة في قواته المنهزمة بعد أن فقدت جميع رهاناتها، وجماح عنفوان غازيات عدوانها، منذ اشتعال الحرب في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023م.
مفارقة إدراكية
اتسمت الجلسات الأولى بغلبة الخصائص الإجرائية وبحث مدى اختصاص المحكمة وأهليتها القانونية للنظر في القضية مثار الشكوى، ولاحت من خلال البث المباشر لحيثيات المحاكمة جملة أمور تستدعي الانتباه والتركيز، بعضها متعلق بغلبة المنزع السياسي على مجمل دفوعات الطرف الإماراتي، وبعضها متعلق بما صاغه الوفد السوداني من حجج تستند على أسانيد وبينات وأدلة بصرية وعيانية شاخصة تجاوزت 150 بينة. وما بين هذا وذاك ثمة بُعد إدراكي يتوارى وراء القضية برمتها ويعكس المفارقة المنتصبة في قلب المشهد القضائي بين الضعف والقوة والفقر والثراء والتماس العدالة في زمان القوة العارية من القيم.
استند السودان على أدلة قانونية إضافية منها تقرير خبراء حقوق الإنسان الذي وثّق انتهاكات الدعم السريع بحق المساليت
لقد تعرض وفد الإمارات العربية المتحدة لمحاص حقيقي بمجرد مثوله أمام القضاء الدولي متهماً من دولة فقيرة تمر بأصعب أوقاتها بعد أن تساقطت مدنها إثر تمرد أحد فصائلها العسكرية ضد مؤسسة الجيش، وتهجير قطاعات كبيرة من ساكنة وسط السودان وإفقارهم وإفراغ حيواتهم من المعنى والاعتبار وتفرقهم بين بؤر النزوح ومنافي اللجوء، مع اهتراء نظم الإدارة المدنية وانكماش القدرات الاقتصادية والإنتاجية وضمور سلطة الدولة؛ ومع ذلك استطاعت تلك الدولة الفقيرة المحاصرة أن تلحق بالإمارات، وهي في أحسن حالاتها، جُرحًا نرجسيًا بالغًا وأن تبادلها إراقة ماء الحياة بماء المحيّا.
وبحسب آراء وازنة فإن السودان لم يكتف باستنزاف الدعم الإماراتي المكثف والمتواصل للدعم السريع، ولكنه طفق يستنزف أيضًا ما تراكم من رأسمال رمزي وصورة ذهنية وإدارة سمعة على المستوى الإقليمي والدولي وما ترافق من جهد مخدوم ومشروعات تسويقية تقف وراءها كبرى شركات العلاقات العامة العالمية، مما يُعرض ما تمت مراكمته في رصيد القوة الناعمة إلى الضياع بسبب التعجل والثقة الزائدة في القوة الزائفة.
أدلة شاخصة وبينات قانونية محكمة
أهم ما أبرزته المحاكمة ليست المماحكات القانونية والجدل المشتعل حول الاختصاص، أو اعتراض الامارات على المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وما أثاره القاضي من استشكال إزاء انضمام الإمارات للاتفاقية دون أن تبدي اعتراضها إلا في أعقاب اتهامها من السودان، أو ما ذكره عضو وفد الحكومة ومستشار وزارة العدل دكتور معتصم السنوسي من قوة الحجج السودانية وتماسك القضية المطروحة وانصراف الإمارات إلى تفنيد الاختصاص عوض تبديد الحجج القوية والأسانيد المحكمة في اتهامها التي تتراوح بين الأدلة البصرية والعيانية والبينات الظرفية والموضوعية والأدلة الشاخصة والتي تحيط بخناق الإمارات على الأقل في الجانب القانوني المحض .
أهم ما أبرزته المحاكمة هو إصرار الوفد السوداني على تمسكه بالإجراءات الوقتية بإلزام الإمارات بعدم مساعدة مليشيا الدعم السريع ضد الشعب السوداني، وكف أذاها المستمر والمثابر الذي يتراجع غلواءه في مكان ويضطرد في مكان آخر.
البنية التشريعية ومسار القضية المتوقع
لقد استند السودان على جملة من المواد مثل المادة الثانية من تعريف الإبادة الجماعية المضمنة في اتفاقية الإبادة الجماعية عام 1948م لتحديد الأفعال التي تشكّل إبادة جماعية، التي تشمل أ/ قتل أفراد المجموعة (المساليت في دارفور)، ب/ إلحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم بأفراد المجموعة، ج/ إخضاع المجموعة عمدًا لظروف معيشية تستهدف إفنائها كليًا أو جزئيًا (مثل الحصار الغذائي أو تدمير القرى). وكذلك المادة الثالثة المتعلقة بالأفعال المعاقب عليها التي توسع نطاق المسؤولية لتشمل: أ/التواطؤ في الإبادة الجماعية (إذا ثبت أن الإمارات قدمت دعمًا لوجستيًا أو عسكريًا لقوات ارتكبت تلك الأفعال ). ب/التحريض المباشر وغير المباشر. المادة التاسعة: اختصاص المحكمة التي تؤكد أن أي نزاع بين الدول حول تفسير أو تطبيق الاتفاقية يخضع لولاية محكمة العدل الدولية. وهي المادة التي اعترض عليها وفد الإمارات.
من المواد المهمة التي سبق الإشارة إليها هي المادة 41 التي تتعلق بالتدابير المؤقتة، وهو طلب السودان من المحكمة إصدار أوامر فورية لوقف الانتهاكات لحماية المدنيين أثناء نظر القضية (وقف الدعم العسكري الإماراتي لقوات الدعم السريع).
واستند السودان على أدلة قانونية إضافية منها تقرير خبراء حقوق الإنسان في السودان الذي وثّق لانتهاكات الدعم السريع بحق المساليت. ووثائق المحاكمات الدولية السابقة في 2005م التي صنفت العنف هناك كجرائم ضد الإنسانية. والقانون الدولي الإنساني خاصة اتفاقية جنيف 1949م التي تحظر استهداف المدنيين.
أهم ما أبرزته المحاكمة هو إصرار الوفد السوداني على تمسكه بالإجراءات الوقتية بإلزام الإمارات بعدم مساعدة الدعم السريع
القضية المهمة تتعلق بكيفية تطبيق هذه المواد على دولة الإمارات، التي تحمل على بند المسؤولية غير المباشرة ومدارها إثبات أن الإمارات زودت مليشيات مثل الدعم السريع بأسلحة أو تمويل ستستخدم في انتهاكات تستهدف مجموعة المساليت. مما يرجح فرضية الإدانة تحت بند المساهمة في المادة بحسب منطوق المادة الثالثة.
الأمر الآخر متعلق بانتهاك الالتزامات الوقائية وفقًا للمادة الأولى والمتصل بالتوجيه العمومي للجميع بمنع الإبادة الجماعية، وهو ما يشمل بالضرورة الامتناع عن دعم جهات تنفذها.
أكبر تحدي سيواجه السودان هو إثبات القصد الجنائي حيث يجب إبراز أن الإمارات تعمدت دعم إبادة المساليت وليس مجرد تأييد طرف في صراع داخلي. وفي المقابل قد تدفع الإمارات بأن دعمها شرعي بموجب اتفاقات ثنائية مع الحكومة السودانية.
السياسة وظلال سيوف العدالة
ولأن القضية في جوهرها ملتبسة بالسياسة شأن النظر القانوني في القضايا السياسية، أو كما قال الطيب صالح مستشهداً بمفكر أوروبي مجهول، إن القانون الدولي يكسو أوضاعًا نشأت بالقوة، ولأن ذلك كذلك فإن ثمرة المحاكمة ستقرأ في عوالم السياسة أكثر من سوح القضاء الذي يفتقر في أحسن حالاته إلى آلية ناجعة لتنفيذ أحكامه. وسنجد الظلال السياسية وافرة وافية بدءًا من تفنيد سردية الحرب وتعزيز شرعية الجيش مرورًا بما ستشكله من ضغط هائل على الإمارات والتأثير على صورتها بوصفها شريك استراتيجي كما هو معلوم مع الولايات المتحدة بعد إنفاذ شراكة استثمارية تجاوزت تريليون دولار، واتجاهها إلى إبرام صفقة كبرى مع الجانب الأوروبي ربما شكلت في جزء منها درء الحرج البالغ الذي يسببه انخراطها في صراعات المنطقة بحسب آراء وتقديرات وازنة. وربما تمثل المحاكمة إحدى الكروت الضاغطة لتوقف الإمارات دعمها للدعم السريع ومده بالأسلحة النوعية التي يستهدف بها البنية العمرانية والموارد الإستراتيجية، ويقصف بها معسكرات النزوح في زمزم وغيرها بعد أن تراجع حضوره مدحورًا في وسط السودان الكبير.
صاغ الوفد السوداني حججًا تستند على أسانيد وبينات وأدلة بصرية وعيانية شاخصة تجاوزت 150 بينة
مختتم :
ما زالت الاحتمالات مفتوحة ومشرعة على أكثر من ترجيح بخصوص اختصاص المحكمة للنظر في القضية المرفوعة ضد الإمارات نفيًّا أو إثباتًا، ولكنها احتمالات ستقرأ آثارها وثمارها في عوالم السياسة سواء بعزل الدعم عن داعمه أو الانخراط في مسار التفاوض بشروط أفضل أو الاستمرار لعبة عض الأنامل والإيذاء المتبادل في أسوأ الأحوال.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

السودان: الحل بالداخل.. لا بالهندسة الخارجية
ها نحن الآن، ومع أول تحرك لإدارة الرئيس ترامب بعد 5 أشهر من توليها السلطة، تعود الولايات المتحدة الأمريكية -بمشاركة السعودية والإمارات ومصر مع استبعاد بريطانيا هذه المرة- لإحياء ما يُعرف بـ"المجموعة الرباعية" في مسعى جديد لتحريك المياه الراكدة ووقف الحرب في السودان

العيد في السودان... قرابين بشرية وأحلام مؤجلة
الأعيادُ هي كرنفالات الفرحة الاجتماعية، وهي المتنفس من كتمة اليومي والعادي والمكرر، ورغم أن طقوس العيد غالباً يحفها التكرار، لكنه تكرار مبهج وظل حنين الناس وانتظارهم لهذه الطقوس وتكرارها مصدراً للفرحة؛ لكن كيف هي الأعياد في ظل الحرب؟

الشمالية في خطاب حميدتي: الحرب مستمرة
في الخطابات الأخيرة لقائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أصبحت مناطق "الشمالية" لازمة رئيسية، تتكرر في مسار تهديدي ثابت بتصعيد الحرب

الواجب المنزلي المُلح لرئيس الوزراء كامل إدريس
في أول خطاب له عقب توليه المنصب الذي ظلّ فارغًا منذ انقلاب 2021، طاف رئيس الوزراء كامل إدريس على مجمل المسائل التي يُتوقّع أن يتحدث عنها كل من يتولّى المنصب في الظروف التي تمر بها البلاد، ولكن من المؤكد أن قطاعًا واسعًا من الناس أنصت إلى مسائل مُلحّة تحتاج إلى المعالجة بشكل عاجل.

طقس السودان: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة وأمطار بدارفور
أعلنت الهيئة العامة للأرصاد الجوية في نشرتها اليومية الصادرة، صباح الجمعة، أن منخفض السودان الحراري يغطي جميع أنحاء البلاد، بينما يمر الفاصل المداري شمال كسلا، ود مدني، جنوب الخرطوم، الأبيض، شمال نيالا والجنينة.

أندية سودانية تشكو اتحاد الكرة لـ"الفيفا" وتطالب بإيقاف الانتخابات
تقدم عدد من الاتحادات المحلية والأندية بشكوى إلى لجنة الحوكمة بالاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، لإيقاف إجراءات الجمعية العمومية الانتخابية لاتحاد الكرة السوداني.

تسجيل 14 إصابة بالكوليرا في 3 محليات بولاية نهر النيل
أعلنت وزارة الصحة في ولاية نهر النيل عن تسجيل 14 حالة إصابة جديدة بمرض الكوليرا في محليات الدامر، شندي، وعطبرة، كما تم تسجيل حالة إصابة واحدة بمرض الحصبة في مدينة أبو حمد.

تفشي الحصبة في دارفور.. آلاف الإصابات ونداءات عاجلة للتحصين
حذرت منظمة أطباء بلا حدود من أن تفشي مرض الحصبة في ولايات دارفور وصل إلى مستويات مقلقة، إذ أصيب آلاف الأطفال، وسط ضعف في حملات التحصين الروتينية وتفاقم الوضع الإنساني في ظل الحرب المستمرة.