سياسة

مع نخبة من الفاعلين.. حوارية حول قضايا التأسيس وأفق ما بعد الحرب في السودان

17 فبراير 2025
عمرو صالح ياسين وهشام الشواني ومنتصر إ.png
عمرو صالح ياسين، هشام الشواني، منتصر إبراهيم (تصميم الترا سودان)
خباب النعمان
خباب النعمان كاتب وباحث من السودان

منتصر إبراهيم: حرب الخامس عشر من أبريل ليست من رهانات ثورة ديسمبر، بل تمثل آخر حلقات تحلل بنية دولة ما بعد الاستعمار.

ستستمر الدولة العسكرية في ممارساتها النهبية واستنزاف الموارد الطبيعية لتمويل مؤسسة الحرب.

أي اتجاه للمكابرة باستهلاك المنطق واللغة القديمة سيفاقم الأزمات ويذهب ببنية التحلل إلى ما لا نهاية.

وصلت البلاد إلى مرحلة حرب أبريل باجتماع الأسباب والنتائج في لحظة ديسمبر الفارقة، والتي كانت إشارتها واضحة، إما نحو الانهيار أو النهضة.

يمكننا تجاوز الحلقة المفرغة في السودان عبر المصالحة والعدالة الانتقالية.

سيستمر التدخل الدولي، والأجندة الإقليمية أكثر نفاذًا في تشكيل الواقع من سرديات الصراع مع وضد الحركة الإسلامية.

عمرو صالح ياسين: مؤشرات الحرب الأولية تشير إلى التقاط أفق تأسيسي من خضم المعارك المشتعلة، وحرب أبريل أثبتت تخلق وجوده وإمكان حضوره.

الأحزاب الحديثة أكثر فعالية من الجيش في سياق التأثير على الجهاز السياسي للدولة.

أعلى درجات الإعاقة كامنة في بنية الخطاب، ومتجه تنظيم الاجتماع السياسي، ومجموع قيمه ومعارفه.

لم تحدث ثورات في السودان، ولم نعش تجربة ديمقراطية حقيقية، ونرنو إلى تأسيس الدولة التنموية والإجهاز على جيفة محمد علي باشا.

البرهان يقرأ من كتاب أي مستبد سوداني ورث محمد علي باشا، ولا بد من التحقيق في حرب أبريل.

هناك تواطؤ ضمني من النخب السياسية على عدم دسترة الحياة السياسية بسبب المشروعات الأحادية للقوى الحديثة.

مأزق البرهان كامن في التناقض بين ضرورات التأسيس والاقتصاد السياسي لموقعه كحاكم محتمل ما بعد انتصار الجيش.

صناعة الدستور تقتضي الخروج من خيال المساومات السلطوية وتذويب نخبة ما بعد الاستعمار.

هشام الشواني: الحرب الحالية تجد جذورها القريبة في حالة ما بعد ثورة ديسمبر، من هذه الناحية هي حرب تمرد، ومليشيا تقاتل السودانيين بالوكالة.

الحرب أثرت على الطبقة الوسطى المدينية والطبقة البرجوازية تأثيرًا ثقافيًا دفع فكرة الوطنية السودانية، والسيادة، والقومية.

الفرصة كبيرة لتعزيز مركزية القوات المسلحة السودانية، والصراع الدائر حول السياسة والتنمية والمظالم، وليس حول الجيش.

جوهر الصراع الآن بين الخط الوطني والخط غير الوطني، من أجل بناء الدولة والحفاظ عليها.


ما إن اشتعلت حرب الخامس عشر من أبريل حتى هرع الفاعلون والقوى السياسية المنخرطة فيها بوجه من الوجوه، يخلعون عليها توصيفات وتعريفات متباينة، فمنهم من رأى فيها حربًا عبثية لا طائل من ورائها، ومنهم من رأى فيها حرب ضرورة أملتها تناقضات طور الانتقال في أعقاب ثورة ديسمبر وانقلاب أكتوبر. بينما حذرت قوى معتبرة من خطورة الانحدار إلى سوح الاقتتال الأهلي، وذهب آخرون إلى التقاط رهانات الخارج الإقليمي والدولي عبر الأدوات المحلية. وبين هذا وذاك، نشأت سرديات تصفها تارة بأنها انقلاب ضل طريقه إلى الحرب، أو أنها فتنة قام بها عناصر الإسلاميين في الجيش ليقطعوا الطريق أمام إنفاذ الاتفاق الإطاري.

التقت في هذه الحوارية عقول مستبصرة انطلقت من حقول وتجارب وخبرات ومعارف وطرائق تفكير وتعبير، كثفت النظر في معنى الحرب ما بين الفاعل السياسي، والمثقف الأكاديمي، والكاتب المهموم بقضايا التثوير والتنوير

وإزاء التطورات العسكرية المتلاحقة في ميادينها ومسارحها العملياتية الواسعة، في أقاصي البلاد وأصقاعها، في عمق مركزها وأطرافها، وعلى تفاوت مواقف قواها وأحلافها، برزت قضايا ملحة تتعلق بالآفاق التأسيسية التي يمكن أن تنتج عنها على مستوى الاجتماع والنظام السياسي، والإطار الدستوري الحاكم. وكيف تنشأ من عمق الصراعات السلطوية النخبوية أطروحات رصينة تسعى لبناء دولة مواطنة ينعم فيها الناس، كل الناس، بالعدالة والتنمية المتوازنة المستدامة والحقوق المتساوية.

موقع "الترا سودان"، وضمن شواغله لاجتراح معالم الطريق وهموم المصائر والمصالح العمومية، حمل أسئلته لنخبة من الفاعلين القادرين على الاستشراف والاستكشاف من منطلقات مختلفة وزوايا نظر متباينة، للحصول على إجابات معمقة والوصول إلى رؤى وازنة عبر حوارية تتجاوز الراهن اللحظي إلى آفاق التأسيس والنفاذ إليه بزاد وافر وصبر وافٍ. فالتقت في هذه الحوارية عقول مستبصرة انطلقت من حقول وتجارب وخبرات ومعارف وطرائق تفكير وتعبير، كثفت النظر في معنى الحرب ما بين الفاعل السياسي، والمثقف الأكاديمي، والكاتب المهموم بقضايا التثوير والتنوير. فالتقت إفادات هشام الشواني، الأمين السياسي لحركة المستقبل، وتقاطعت مع شهادات الكاتب منتصر إبراهيم، المشغول بسؤال العدالة والتنوير، ورؤى الأكاديمي عمرو صالح ياسين، المهموم بقضايا الدولة ومسار تحققها، ليتفقوا ويفترقوا على قاعدة: "ليس كل خلاف بمعتبر، إلا خلاف له حظ من النظر"، فإلى مضابط الحوارية:


  • تُقرأ حرب أبريل في سياق القضايا والرهانات التي فجرتها ثورة ديسمبر 2019م وشعاراتها ورؤاها وأحلامها المجهضة في تأسيس دولة مدنية عصرية، واجتياز العوائق المتراكمة منذ 1956م. هل في مقدورنا استبصار أفق تأسيسي من غمار المعارك المحتدمة واستثارات نقعها ودخانها الكثيف؟

- يقول هشام عثمان الشواني: الحرب تكون بمثابة قابلة ولادة في بعض الأحيان. بالطبع، هي ليست خيارًا مفضلًا لكنها ضرورة في بعض الأوقات، ويتحرك معها التاريخ. الحرب الحالية تجد جذورها القريبة في حالة ما بعد ثورة ديسمبر، من هذه الناحية هي حرب تمرد، ومليشيا تقاتل السودانيين بالوكالة، لكنها أيضًا تجد جذورها في تاريخ الحروب السابقة، من حيث خطابها الذي أنتجته نخبة سياسية، مركز همها وعملها معاداة الدولة الوطنية. لذا كان واضحًا التباس شعارات السودان الجديد ودعاوى التهميش والعنصرية ودولة 56 مع خطاب المليشيا. الحرب كتبت نهاية أيديولوجية عنصرية ملتبسة، صبغت جزءًا كبيرًا من الخطابات السياسية، لأنها كشفت النتيجة المنطقية والواقعية لهذا الخطاب، وقد آن أوان التخلص منه. بالضرورة، ومن خلال المعالجة النظرية المرتبطة بالواقع، يمكننا تلمس هذا الأفق التأسيسي الجديد، "تأسيسي" بمعنى متصل مع التاريخ الوطني الذي خضناه منذ 56، وليس "تأسيسي" بالمعنى الانقطاعي الذي يطرحه البعض، لأن مفردة "تأسيسي" هذه تحتاج منا أحيانًا تحسس مسدساتنا.

- أما منتصر إبراهيم فيعتقد أن: السياق السليم لتوصيف حرب الخامس عشر من أبريل؛ أنها ليست من رهانات ثورة ديسمبر، بل تمثل آخر حلقات تحلل بنية دولة ما بعد الاستعمار – دولة الجيش والنزاعات والزبائنية السياسية وعدم الاستقرار السياسي. وديسمبر كانت عتبة تغيير مهمة، لكنها ليست مفارقة لنموذج تداول السلطة في السودان!

أما بخصوص سؤال استبصار أفق تأسيسي من غمار المعارك المحتدمة واستثارات نقعها ودخانها الكثيف؟ فالأفق السياسي المتوقع من وضعية الحرب الراهنة نستشفه مما آلت إليه الوضعية التي وصفناها آنفًا؛ وما إذا استطاعت إعادة إنتاج نفسها، ونسج إطار عمل اقتصادها النهبي واللصوصي، ومحاولة إحياء الولاءات القديمة وشرائها، والزبائنية؛ وما إذا فكرت في القطيعة مع الماضي. هل يمتلك أطراف الحرب أفقًا وإرادة القطيعة مع الماضي، أم يتحاربون من أجل تكريس الصراع على الغنائم؟! هل لا زالت الدولة تمتلك تلك الإمكانية أم أفلست؟! إذا تمت الإجابة على هذه الأسئلة، سيكون من السهل استشراف أفق المستقبل.

- بينما يرى عمرو صالح ياسين أن: المؤشرات التحليلية الأولية، التي تقرأ وتحلل وتوصف وتصنّف البنية المادية المباشرة لأكبر كتلة من المجتمع السوداني ومؤسساته، تشير إلى استبصار أفق تأسيسي من خضم المعارك المشتعلة، وانخراط قوى معتبرة في الحرب الدائرة، ولو على نطاق نظري مجرد. بيد أن تحريك التاريخ – كما هو معلوم – لا يتوقف بأي حال على الأطر النظرية، وإنما يحتاج دومًا لتنظيم المصالح في مؤسسات والتعبير عنها عبر خطاب تأسيسي. ومن خلال مشاهدات الحرب وتعيين مصالح القوى المصطرعة، يتضح بشكل جلي لا مراء فيه توافر بنية الشروط التأسيسية الأولية، بوصفها إمكانًا نظريًا قادرًا على النهوض بعملية المعالجة التأسيسية برمتها. غير أن حرب أبريل نفسها، بمثلما فتحت الأفق حتى نهايته، حملت أيضًا احتمالات التراجع والإعاقة، لكونها مثلت في جوهرها ناتجًا مباشرًا لتحلل الدولة الاستعمارية واجتماعها السياسي، ممثلًا في الأحزاب السياسية والمجتمع المدني المحزب وغير المحزب.

وأعلى درجات الإعاقة كامن في بنية الخطاب، ومتجه تنظيم الاجتماع السياسي، ومجموع القيم والمعارف التي يحملها المجتمع المدني الفاعل حول أسوار دولة محمد علي باشا (1821م)، وهو غير قادر على استيعاب أزماته المزمنة ومن ثم تجاوزها. لأجل ذلك يمكن أن نصف أنفسنا بأننا مجتمع متحلل وغير وظيفي، لأننا لا نحوز على القيم والمعارف التي تحقق مصالحنا المادية المباشرة. فلا خرجت النظرية، ولا جاء الخطاب، ولا أتت التنظيمات التي تعبّر عن واقع استيعاب الأزمة. وهذا ما أسماه محمد أبو القاسم حاج حمد "أزمة عدم الوعي بالأزمة".

إن استقراء تاريخ السودان ما بعد الاستعمار (1821م) يبرز مفارقة النجاح في الثورة والفشل في الدولة، فالمهدية نجحت في التثوير والتحرير، لكنها فشلت في إدارة الدولة، وهو أمر تكرر أيضًا في حراك 1964م و1985م، وأسوأ نتائجه ما حدث في أبريل 2019م، مما يؤكد أننا مجتمع يعاني نقصًا حادًا في الموائد الفكرية والمعرفية، بطريقة تجعله يدور في حلقات دائرية مفرغة، لذا فإن تجاربه لا تورثه حكمة. وإذا أخذنا حرب أبريل 2023م بوصفها حرب تحرير، وقرأناها في سياق فشل الانتقال الناشئ في أطواره، فيمكننا أن نقيسها على ذات المصائر الكارثية التي حملتها منحنيات النجاح الحادة في مراحل التحرير، والفشل المرير في مراحل التأسيس والتعمير كما أسلفت بالقول، مما يجعلني متشائمًا إزاء النتائج المتوقعة على المدى القريب والمتوسط. ولكنني لا ألبث أن أعود لروح التفاؤل بسبب ما أنتجه الواقع من انتفاء أزمة عدم الوعي بالأزمة، واستشراف الأفق على المستوى البعيد.

عمرو صالح ياسين: تحدي التحديث يتطلب مستوى جادًا من المعالجة المتجاوزة للأيديولوجيات المستوردة والكتب الصفراء البالية، وإنما يحتاج إلى عبقرية خالصة، ومؤسسات تنطلق في المجتمع والدولة

ما أتمناه بصورة قوية، بعد تحقق انتصار الجيش، الذي تلوح آفاقه على امتداد مسارح العمليات، ألا تدخل الدولة في مسارات بنيوية حادة يصعب التراجع عنها، ريثما تتخلق نخبة تفهم تعقيدات الواقع وتستوعبه، وتنتج بدورها مؤشرات تجاوزه بوصفه واقعًا لم يبدأ مع حرب أبريل 2023م، ولم يبدأ في أبريل 2019م، ولم يبدأ في يونيو 1989م، ولم يبدأ في 1956م، وإنما باعتباره واقعًا تشكّلت أبنيته في 1821م بعد انهيار النظام الإقطاعي لدولة الفونج، ودخوله مرحلة يسميها المفكر الإيطالي غرامشي "عتمة الأشباح"، حين لا ينتهي القديم، ولا يبرز القادم بشكل قطعي. إذ لم يزل السودان قابعًا في ظلال الـ"بين بين"، حيث تتداخل فيه وتتصارع بنية التحديث والتقليدية.

إن تحدي التحديث يتطلب مستوى جادًا من المعالجة المتجاوزة للأيديولوجيات المستوردة والكتب الصفراء البالية، وإنما يحتاج إلى عبقرية خالصة، ومؤسسات تنطلق في المجتمع والدولة، من توطين المعرفة الاجتماعية والطبيعية والحوكمية، التي تتعلق بإدارة الدولة، ومعالجة كافة القضايا التأسيسية، التي تتوخى بناء الأمة، وصناعة الدستور، ودسترة الحياة السياسية، ومحددات خطة التنمية، والتحول الصناعي، والتحديث الاقتصادي، والخروج إلى تأسيس منظور صلب ومتماسك لمحددات ومتجهات نظرية الأمن القومي.

هذه المعاني، على أهميتها وبداهتها، لم تحظَ بالاهتمام المطلوب، ولم تتحلق حولها النخب، وانصرفت عنها بشواغلها السلطوية منذ الاستقلال. وليس ثمة مبشرات تعطي أملًا بأن ذات النخب الوالغة في الأزمات قادرة على المرور بطور التعلم، لأنها استنفدت أغراضها، وأثبتت لنفسها ولغيرها أنها من قبيل ما ينبغي أن يموت، وليس ما ينبغي أن يُعاد إحياؤه. وما بين موت القديم وظهور الجديد، ثمة زمن لا ندري متى وكيف يمكن أن نقطعه؟ ولكن ليس لنا سوى تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة.

  • كيف ندرك تأثيرات الحرب على الاجتماع السوداني؟ على الكيانات والأحزاب والنخب؟ وعلى الطبقات والمؤسسات والحركات الاجتماعية؟ وعلى الإنتاج وحركة الاقتصاد؟ وعلى منظومة التعليم والخدمات العامة؟

- عمرو صالح ياسين: من المعلوم أن الدولة تتكون من جهاز سياسي (حكومة تنفيذية/برلمان)، وآخر بيروقراطي (جيش وخدمة مدنية وقضاء)، والأجهزة البيروقراطية تحديدًا هي قوام الدولة، التي تستحيل بدونها إلى العدم. وتنبع أهمية الجيش من بين الأجهزة البيروقراطية الأخرى، بوصفه الضمانة الحقيقية لإنفاذ السياسات في رقعة جغرافية محددة، وقد أثبتت مجريات الحرب الراهنة أنه قوي بصورة لم تخطر على خيالنا الجمعي، ولهذا يصبح هو العنصر الأول والأهم.

العنصر الآخر هو المجتمع المدني، الذي يعبر - برغم اختلالاته وإشكالاته - عن أشكال اجتماع حديث له أشواق ديمقراطية، لم تنتج خطابًا سياسيًا راشدًا. وهي، مع ذلك، بنية متقدمة عن الأحزاب والمجاميع الإثنية التي تعبر عن مصالح قوميات بعينها، ولا يرى فيها مجمل الشعب صورته، كما هو موجود في أكثر من دولة محيطة بنا، مثل إثيوبيا وتشاد.

وقد شكلت الأحزاب الطائفية في السودان نقلة من المخيال القبلي الوشائجي، ثم أتت بعد ذلك الأحزاب الحديثة - برغم أيديولوجياتها، التي هي في رأيي غير ذات فائدة للواقع السوداني - لتتقدم في طريق التحديث خطوات، على مفارقتها إزاء تقاعسها عن أدوارها التاريخية.

لا جدال عندي في أن الأحزاب الحديثة أكثر فعالية من الجيش، في سياق التأثير على الجهاز السياسي للدولة، لقدرتها الفائقة على اختراق الجيش نفسه، والتأثير عليه وعلى مجمل المشهد، وهي التي تصيغ الأجندة، حتى في الانقلابات التي يحركها الجيش وتمثل غطاءً مدنيًا له.

وفي المقابل، فإن الكتلة غير المحزبة في المجتمع المدني، كانت على الدوام لديها أدوار ترجيحية في لحظات التاريخ المتحرجة، أوان الثورات والانتقالات. وهذا المجتمع، أو الكتلة الحرجة، أو سمِّها ما شئت، هو من يعطي الأشياء دلالاتها. ويمكنك أن تدرك ما أقصده حين تقارن بين العناية البالغة التي تنصرف إلى فاعلين بعينهم في لحظات الثورة، ثم إهمالهم بالكلية في مرحلة الحرب الراهنة، حين حادوا عن التعبير بمقتضى المصلحة المادية المباشرة، فكأن المجتمع هو من صنع، عبر الكاتب والفاعل الشبكي، مجالات تأثيره، وليس العكس.

ذات المجتمع المدني، الذي وقف مع الثورة على الإنقاذ، وقف إلى جانب الجيش في حربه ضد مشروع الاستتباع. ويمكن أن نحدد ملامح تعريفه في الطبقة المدينية الوسطى، بدون محددات اقتصادية واجتماعية، وهو يشمل كل ساكني المدن من دارسي الثانويات فما فوق. وهي أقوى طبقة من حيث تأثيرها في مجمل المشهد، أقوى من المجتمعات الساكنة في الريف. فقد شكّلت التاريخ السوداني الحديث ومنحته المشروعية، وليست الشرعية، حتى على مستوى الانقلابات، حال يأسها من السمة الصراعية غير المنتجة في الديمقراطيات النيابية، والتفاعل مع الانقلابات، ثم اليأس من بنيتها الاستبدادية. هذه الطبقة المدينية تنطلق من محددات وعي حديث، يدور مع مصالحها المادية وجودًا وعدمًا.

العنصر الثالث: متعلق بعراقة التاريخ، وأن السودان - كما هو معلوم - من أقدم الدول الحدودية في التاريخ، وهو أمر يفيض على الاجتماع السوداني بمعاني التماسك وتماسك المعاني.

هذه العناصر، في رأيي، هي من أفشل مشروع الاستتباع ومخطط الرباعية في الإطاري، الذي هو مخطط سارٍ في المنطقة، لكنه وجد مقاومة كبرى داخل فضاء الاجتماع السياسي السوداني. وقد أتى في لحظة ما عبر أدوات عسكر السيادة و"قحت". وهو مشروع متصل منذ خواتيم عهد الإنقاذ، وقد قاومه الشعب بالثورة، ثم أتت حادثة فض الاعتصام، وقاومته القواعد المدينية التي كانت تطالب بإرجاع العسكر من اليمن وحل "الدعم السريع"، لكنه اختطف لصالح مشروع النخبة التي ورثت دولة محمد علي باشا، وتحالف العسكري والأفندي والشرتاي والطفيلي. هذه هي المجموعات التي نشطت في وراثة مشروع دولة محمد علي باشا، بطبيعتها السلطوية سياسيًا، الاستخراجية اقتصاديًا.

سنجد، حين نتعمق في قراءة الثورات، أن ما حدث في السودان مجرد انتفاضات، وليست ثورات، والفارق بينهما معلوم؛ فالثورة تتصل بتغيير طبيعة جهاز السلطة، بينما الانتفاضة تُغير شاغل جهاز السلطة. وباستمرار بنية دولة ما بعد الاستعمار، في أعقاب كل حراك جماهيري حدث، نجد أن مجمل ما حدث هو تغيير نخبوي فوقي، واستبدال مربع بمربع آخر، وإعادة إنتاج تحالف العسكري والشرتاي والأفندي والطفيلي داخل ذات البنية. وعليه، فإن السودان لم ينجح في اختراق هذه البنية حتى هذه اللحظة.

هذه الحرب أظهرت أن عظم الدولة ما زال متماسكًا، وتجلياته في وعي المجتمع بأهمية الدولة حاضر، والدليل على ذلك هو الانخراط، بصورة مبكرة، في مقاومة هذا المخطط. كيف ظل الجيش منتبهًا وصامدًا منذ لحظة الاستهداف العسكري المباشر، بحسب طاقاته وإمكاناته، في سلاح الطيران، والجنود المشاة، والخطط العسكرية، وطرائق الاستنزاف الفاعلة. ورغم أن مؤشرات الانتصار ظهرت مؤخرًا، إلا أن أوضح إرهاصات هزيمة مشروع الاستتباع جاءت مع إفشال المخطط في لحظات صفره، والقضاء عليه في مهده. هذه هي اللحظة التي ظهرت فيها العراقة والتجذر، الذي أشرتُ إليه.

وفي خضم المعركة الحالية، اتضح جليًا أن خيال الدولة ما زال موجودًا، كما تدل كثير من المواقف، ومنها: إنفاذ امتحانات الشهادة، وتغيير العملة، وبسط الأمن، وانسياب الخدمات، وطواف بعثات الخدمات المدنية على الدول لاستخراج الجوازات والوثائق، رغم عدم وجود حكومة بالمعنى الحقيقي، غير أن لخيال الدولة أثره ومفاعيله. وارتباط الإنسان السوداني بمصالح معقدة وحديثة، لا تراعيها إلا الدولة، وهذا يعكس ما تمثله الدولة في عصرنا الحديث، في أعقاب التحول الصناعي الذي جرى في أوروبا؛ منذ ظهور عصبة الأمم، والأمم المتحدة، مرورًا بالحروب العالمية. فالدولة الحديثة تكاد تكون، في إطار حماية المصالح المادية، أهم من الأسرة النووية. أعني بالطبع في أفضل تجلياتها في نظم الرعاية والرفاه الاجتماعي، فإن الدولة ترعى الإنسان قبل أن يولد، بحقوق رعاية متكاملة، وضمان ميلاده في أماكن مهيأة، وتوفير الخدمات العلاجية والتعليمية. والمجتمع السوداني، بسبب قدم الدولة وتشابكاتها فيه، وارتباط قطاعات كبيرة بالنظم الحديثة ومؤسسات الدولة، بخلاف النطاقات الريفية المتحلقة حول الرعي والزراعة، والتي ترتبط بالنظم التقليدية ذات الصلات الوشائجية، هو ما يفسر نزوع عامة الناس للدولة، أو قل أغلبيتهم الكاثرة بانحيازهم لها وحرصهم عليها.

وبناءً على ما سبق، واستنادًا إلى مالك بن نبي، الذي يقسم الظواهر بين ما هو حاضر وما هو موجود، فإن شروط الحداثة في المجتمع السوداني موجودة، ولكنها ليست حاضرة، وأن القضايا التأسيسية الفاعلة في تجاوز دولة ما بعد الاستعمار موجودة، وأن الأفق يتسع لإمكان إنتاجها، وبناء دولة قانون ومؤسسات حديثة ترعى مصالح الإنسان السوداني وتحفظ حقه في الحياة والرفاه. هذه الدولة لم تتخلق شروط حضورها، ولكن حرب أبريل القائمة أثبتت شروط وجودها.

منتصر إبراهيم: التحلل الذي ضرب وضعية الدولة في السودان شمل بنية دولة ما بعد الاستعمار ممثلة في ثلاثة ركائز أساسية: القوى السياسية (Political Powers)، والجهاز البيروقراطي، والمؤسسة العسكرية

وفي سبيل الوصول والحصول على شروط الحضور، سنمر بمسار عسير، لأن السودان دولة معقدة، وهو أكبر مما هو متوفر حاليًا من قيم ومعارف لاستيعاب المشكلة بغرض تجاوزها. ومهما يكن من أمر، فإن معالجة التاريخ لا تتم بالأمل، وإنما بالفعل والعمل. وأعيد وأؤكد على أن الشروط المادية التي تخلقت منذ نهاية حكم الإنقاذ، وحتى ثورة ديسمبر، والحرب الحالية، من شأنها أن تهدي السودان فرصة إدراك وتجاوز أزمة عدم الوعي بالأزمة، ومعرفة أبعادها وقسماتها، إذا تحرك هذا الوعي شعبيًا، وشكل قطيعة نفسية ومعرفية مع الاجتماع السياسي لدولة ما بعد الاستعمار. وأنا هاهنا أعني الشعارات السياسية الفاعلة في تخليق الخطاب السياسي في السودان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وإذا أدرك الناس أن النخبة السياسية استنفدت أغراضها، وأن طبيعة دولة محمد علي باشا أيضًا قد استنفدت أغراضها، حينها سنطرح الأسئلة الصحيحة. أما إدراك الإجابات الصحيحة، فهو أمر آخر. فمنذ العام 1956م، لم تطرح الأسئلة الصحيحة، ولم يتم التحلق حول المعاني الصحيحة التي تحقق المصالح المادية للمجموع السوداني، وهو المخاض المنتظر ما بعد الحرب.

- منتصر إبراهيم: لا بد أن لحرب الخامس عشر من أبريل أثرها البالغ والعميق على كامل الأوضاع في السودان؛ فالتحلل الذي ضرب وضعية الدولة في السودان شمل بنية دولة ما بعد الاستعمار ممثلة في ثلاثة ركائز أساسية: القوى السياسية (Political Powers)، والجهاز البيروقراطي، والمؤسسة العسكرية. هذه البنى تحللت بفعل عوامل ثلاثة: الحرب الأهلية، واقتصاد الحرب الأهلية المتجذر في علاقات السلطة والفساد. أي أفق مفكر فيه لا بد أن يستصحب هذه المعطيات لوضع خارطة حلول، وإلا فسيكون التفكير في المستقبل مجرد أوهام وتخبط.

- هشام الشواني: هذه تأثيرات واسعة تحتاج حقًا لدراسات معمقة ومتخصصة، وربما لم تنكشف نتائجها ولم تكتمل تأثيراتها، لكنها طالت كل شيء. بدت الأحزاب القديمة ميتة وعاجزة عن التجديد. الخطابات السياسية القديمة كشفت الرابط الجوهري بينها وبين معاداة الدولة، وفهمنا مقدار التحول الذي حصل في خطابات المعارضة لتغدو متصلة بالخارج، متعارضة مع مصالح السودانيين. لكن أهم تأثير في نظري هو أن الحرب أثرت على الطبقة الوسطى المدينية والطبقة البرجوازية تأثيرًا ثقافيًا دفع فكرة الوطنية السودانية والسيادة والقومية لتكون الصوت الأعلى داخل هذه الفئات. قديمًا كان وعيها متصلًا بالوعي الزائف لقوى المعارضة التي تبني مركزية خطابها على مدنية وديمقراطية مصنعة غربيًا. هذا تحول حاسم لمستقبل السودان.

  • ماذا عن قضية تعدد الجيوش وواقع التشظي الأمني وانتشار المليشيات: هل من سبيل إلى بناء جيش مهني احترافي بعقيدة قتالية وطنية يحفظ الثغور والدستور ويضبط الإيقاع على محددات الأمن القومي؟

- منتصر إبراهيم: هذه القضية هي خلاصة نتائج الحرب، وإذا ظلت ذات البنية العسكرية تكابر بالظن في المحافظة على الوضعية القديمة، وبعلاقاتها وفهمهم لفكرة الدولة، فلابد أن تلزمها حرب أخرى، وستقع هي أولًا بأول في دوامة الانقلابات والحكم على أسنة "السونكي والطبنجة"، وستدور في ذات الحلقة المفرغة فتتأسس مليشيات لحراسة أصحاب النفوذ في السلطة "الأولغارشيون الجدد". ما لم تفقد المؤسسة العسكرية هذه القابلية هيكليًا وعقيدة في صدور قيادتها، فلن تكون هناك مؤسسة عسكرية واحدة احترافية.

- عمرو صالح ياسين: ثمة فراغ كبير في المجتمع المدني، وحتى المجموعات الشبابية التي ثارت بصدق في ديسمبر، لم تستطع التحرر من خطابات الأحزاب السياسية، التي ركبت الثورة وبذرت فيها بذور التفكير السلطوي والعمل الجبهوي، وبناء مواثيق لجان المقاومة. وبشكل عام، فإن المجتمع المدني السوداني، وأقصد به هنا التنظيمات الاجتماعية خارج فضاء الدولة والقطاع الخاص بشقيه المحزب وغير المحزب، كما أثبتت الأحداث، يعاني ضعفًا شديدًا ويقع هذا الضعف في إطار تهديد الأمن القومي أكثر من إيجاد حلول ناجعة له.

لقد ذكرت مسألة المجتمع المدني في الإجابة على سؤال تعدد الجيوش، لأقول إن المشكلة تكمن فيه بدرجة وافرة، بحيث تصبح حالته الراهنة دالة في أزمة ثقافية عميقة، مما يستدعي أن تطرح هذه الإشكاليات، وينبري لمعالجتها طائفة كبيرة من المختصين. فإذا انتصر الجيش في هذه الحرب في ظل غياب المجتمع المدني، وتصاعد الموجات الشعبوية، فسيكون العائق الرئيسي هو البرهان. وبالنظر إلى المواقف التي اتخذتها القوى الفاعلة في المجتمع المدني، لا سبيل إلى استئناف العمل المدني للمطالبة بالأشياء الضرورية، ومنها التحقيق في حرب أبريل.

البرهان يقرأ من كتاب أي مستبد سوداني، ورث محمد علي باشا، وسيادة سياسة "فرق تسد"، وترجيح العلاقات الزبائنية، وتمليش المجموعات الطرفية، بإعلاء المنطق الوشائجي القبلي، وتمكين بطون بعينها في المكونات القبلية، بخلاف منطق المقاومة الشعبية التي تملك السلاح لمجموعات حديثة على أسس مناطقية. وهو أمر يحدث الآن برعاية مباشرة من البرهان.

هشام الشواني: السودان له جيش وطني، والصراع ليس حول الجيش بل حول السياسة وحول التنمية والمظالم القديمة منذ المستعمر

وبمنهج التأسيس، الذي لا نفتأ نشير إليه كل حين، ثمة مطالب ضرورية لا يمكن أن نتجاوزها بأي حال؛ ومنها التحقيق في حرب أبريل، وإنفاذ مبدأ العدالة، وإشاعة قيم المحاسبة. ولما كان البرهان هو القائد الذي سينتصر في هذه المعركة، ستتناقض مصالحه مع مجرى التأسيس وقضاياه الملحة، في ظل غياب المجتمع المدني، بسبب تخلف قواه الفاعلة عن القيام بواجبها، ومع علو النبرة الشعبوية، فمن المتوقع أن يتم طي صفحة التأسيس إلى التلبيس بشعارات (البرهان كاهن كبير ومعلم). ومن جهة أخرى، فإن المجموعات السياسية الفاعلة في الحرب سترجح مصالحها الآنية القائمة على مد جسور التحالف مع مستبد منتصر بعلاقات زبائنية.

إن موضوع توحيد الجيوش يتطلب قائدًا عسكريًا، يحوز على شرعية الانتصار في الحرب، على أن يكون في غير وضعية البرهان. فالفرق الواضح أن أي قائد آخر سوى البرهان، سيكون بقاؤه في أريكة الحكم متسقًا مع بنية التأسيس، المحمولة مع شرعية الانتصار في الحرب. ولن يتناقض وجوده مع جهوده الإصلاحية التأسيسية المتعلقة بمركزية العدالة، ومنها قضية التحقيق في حرب أبريل، والتحقيق في مجمل الكوارث التي حدثت ما بعد الاستعمار، منذ عنبر جودة، لطي تاريخ الإفلات من العقاب الذي وسم حقبة ما بعد 1956م. إن مأزق البرهان كامن في التناقض بين ضرورات التأسيس والاقتصاد السياسي لموقعه كحاكم محتمل ما بعد انتصار الجيش. ويمكن أن أقول إجمالًا إن معالجة توحيد الجيوش تقتضي بالضرورة تنحية البرهان، وإلا فإنها لن تحدث، وإن حدثت فلن تحدث بصورة مهنية.

هشام الشواني: الفرصة كبيرة لتعزيز مركزية القوات المسلحة السودانية. السودان له جيش وطني، والصراع ليس حول الجيش بل حول السياسة وحول التنمية والمظالم القديمة منذ المستعمر. بعض الاتجاهات تضخم مشكلتها وتمركزها نحو الجيش لأسباب خبيثة، لكن الفرصة أكبر اليوم بعد الحرب لتوحيد القوى العسكرية تحت لواء القوات المسلحة السودانية وألا تكون البندقية وسيلة للصراع السياسي وعداء الدولة. هذا مشروع سياسي كبير.

  • كيف يمكن تأسيس نظام ديمقراطي ودولة تنموية في ظل عدم الإجماع على الدولة، تارة بسبب فاعلية خطاب التهميش وواقع التجزئة الذي عمقته الحرب؟ وتارة بسبب صراع النخب على السلطة والاستعانة سابقًا بعسكر الجيش ولاحقًا بالمليشيات؟ وما بين هذا وذاك حالة تسييس الهوية وتسليح السياسة التي ينتفي معها منطق العمل وعمل المنطق إلى غلبة المغالبة والشوكة والاستئثار..

- هشام الشواني: الحرب كشفت الخلل الفكري والأخلاقي في خطاب التهميش والهويات الجزئية. دعاة هذا الخطاب مدينون باعتذار تاريخي للسودانيين، بما في ذلك الذين يقاتلون اليوم مع الجيش. خلل نظري كبير في هذا الخطاب ينتج آثارًا كارثية، ولا ننكر القدرة التجييشية لهذا الخطاب ومرونته التي تجعل كل طرف قادرًا على توظيفه، بما في ذلك مليشيا الدعم السريع. إن تأسيس دولة وطنية هو التحدي الأهم بمعناها الاجتماعي، ومعناها الاقتصادي التنموي، ومعناها السياسي القائم على شرعية شعبية قاعدية. المسألة ليست كما تبدو في خطابات الليبراليين السودانيين المتصلين مع التمويل الخارجي. التناقض اليوم هو بين الوطني وغير الوطني، وليس بين الديمقراطي وغير الديمقراطي.

- عمرو صالح ياسين: عملية التأسيس تحتاج إلى حركة وطنية، تتحلق حول المعاني التأسيسية وتطرح نفسها بوصفها جزءًا من الحل لا من المشكلة، على مستوى إدارة التنوع ودسترة الحياة السياسية، وبناء عقد اجتماعي مصنوع بأيدي القواعد وليس مكتوبًا بأيدي النخب، وإعادة النظر فيما أسماه أبو القاسم حاج حمد "الطبيعة الاستخراجية للاستعمار"، والنظر إلى خطابات التهميش، بوصفها حالة تحشيدية مثل شعارات الأيديولوجية الإسلامية واليسارية والثورية، وهي محض خطابات جوفاء لا تستند على مشروعات سياسية، وتستثمر في غياب مخيال الدولة وأسسها التأسيسية كما تستثمر في خطوط تقسيم هوياتية في داخل المجتمع، وهو أمر طبيعي في دول ما بعد الاستعمار. وإن كان ثمة مشروع فهدفه المباشر هو الوصول إلى السلطة، والبقاء فيها مما يفاقم من بروز المشروعات الهوياتية المضادة. من الضروري التأكيد على معالجة النمط الاستخراجي للسلطة نحو نمط صناعي، وبعد ذلك ستتحدد نظرية الأمن القومي وامتلاك أسباب القوة الاستراتيجية للدولة السودانية.

الإشكال الأساسي، بحسب رأيي، يتصل بخيال المساومات السلطوية وأشكال الحكم غير الشرعية. فحين نحلل الخطاب السياسي، نجد مفردة شائعة في المجال التداولي وهي وجود دائرة خبيثة بين الاستبداد والديمقراطية، أو ما كان يقوله الإمام الصادق رحمه الله دائمًا: "الديمقراطية عائدة وراجحة!" إن مجرد تسمية أنظمتنا البرلمانية النيابية هذه بالديمقراطية به إفتئات واضح، لجهة أن ليس من أحد في هذا السودان وعلى امتداد تاريخه أتى بشرعية تمثيلية، لأن الشرعية التمثيلية في الدولة الحديثة لا تحدث إلا ضمن نظم ديمقراطية دستورية. فالانتخابات التي أتت بالصادق المهدي نفسه أكثر من مرة هي انتخابات غير دستورية، وقائمة على الأغلبية الميكانيكية، ولم تأتِ بعد عقد اجتماعي مستفتى عليه من الشعب. يُعرّف بموجبه الجيش بأنه حامي الدستور. بغير هذه الأمور لا تكون الانتخابات معبرة عن شرعية تمثيلية.

كذلك، فإن الاستبداد العسكري والمساومات السلطوية، التي تتوسل السلاح لتصل إلى الحكم، عبر تسويات سلطوية تقتسم بموجبها جزءًا من السلطة والثروة كما تفعل الحركات المسلحة، وكذلك الوصول إلى السلطة عبر الشرعية الثورية كما حدث من سيطرة على خيال كتل المجتمع المدني في ديسمبر بواسطة قحت أو لجان المقاومة في مواثيقها، حيث كانت تطلب أن تقوم بعمل جبهوي تتحالف فيه مع تنظيمات، وتصل من خلاله إلى مجلس تشريعي يمكن أن يجدد الحكم لنفسه عامين آخرين. كل هذه الأشكال بالنسبة لي تنتسب إلى خيال سلطوي ينتمي للسودان القديم، وتتلخص إجمالًا في: (الانتخابات غير الدستورية، الحكم عبر الشرعية الثورية، الحكم عبر المساومات السلطوية، الاستبداد المباشر) ولا مراء عندي أنها أشكال غير منتجة وتتناقض مع بنية التأسيس ومساراته. والمشكلة كامنة بنحو من الأنحاء في التواطؤ الضمني الذي تمارسه النخب السياسية بإعاقة دسترة الحياة السياسية لأمر متصل بطبيعة المشروعات السياسية، حيث ترجح الأحزاب الحديثة ذات الطبيعة الأحادية الوصول عبر دبابة العسكر، وترجح الأحزاب التقليدية الوصول إلى السلطة بالانتخابات غير الدستورية.

ومع كثافة الحديث عن المؤتمر الدستوري من الأحزاب والكيانات والتنظيمات، يتضح مدى القصور النخبوي في رؤيته لذاته، وتضخيمه لنفسه، والنظر إليها بوصفها ممثلة لعموم الشعب! وتصوره حين إجراء أي حوار سوداني سوداني والوصول إلى صيغة ما أنها بالضرورة ستكون معبرة عن مجموع السودانيين. وهذا كلام لا يعمل لأنه سيؤدي إلى توازن ضعف، سرعان ما يرتد إلى توازن قوة ينشق بموجبه التحالف، وتبدأ موجة من حلقات الصراع الصفري. وهذا ما حدث في كل البرلمانات الديمقراطية المنتخبة، وهو ما حدث من توافقات بين القوى السياسية، لذا فإن أي حديث عن صناعة الدستور يقتضي أن نصنع استراتيجية لتذويب نخبة ما بعد الاستعمار، والخروج من خيال التوافق النخبوي للمؤتمر الدستوري.

عمرو صالح ياسين: إذا توافرت رغبة جادة في صناعة الدستور، يجب أن يتم تذويب النخبة السياسية في صناعة الدستور، وإجراء انتخابات ما قبل الدستور، لانتخاب جمعية تأسيسية من قواعد الشعب المستقلة

وعليه، إذا توافرت رغبة جادة في صناعة الدستور، يجب أن يتم تذويب النخبة السياسية في صناعة الدستور، وإجراء انتخابات ما قبل الدستور، لانتخاب جمعية تأسيسية من قواعد الشعب المستقلة، عبر آليات يتم التوافق حولها، وعمل برلمان بغرفتين، يتم تصعيد الخبراء التقنيين في صناعة الدستور فيه بآلية معينة. على أن تقوم في كنفها أجهزة تنفيذية مصاحبة تتعلق بأدوات الوعي والإعلام ونحو ذلك.

وبعد صياغة مسودة الدستور، يتم تنزيله للمحليات المنتخبة والدوائر الجغرافية، ليتم تعديلها ورفعها مرة أخرى لإجازتها حسب الشروط المتوافَق عليها، وإذا حازت على أغلبية معينة، يتم تصديرها للشعب للاستفتاء عليها. وبعد ذلك يتم الاستفتاء على وثيقة الحقوق بنسبة تفوق 75%. لو تم إنجاز هذا الأمر، يمكن أن نكون على المسار الصحيح لجهة إمساكنا بالأساس الموضوعي لتمدين الحياة السياسية، بوجود جيش حامي للبنية النظام الدستوري، والحفاظ على الشعب وصون كرامته. وبعد ذلك ستتوافر الأسس لوجود جيش مهني حقيقي، وهذا الأمر يعيقه وجود طبقة ما بعد الاستعمار وتواطؤها الضمني بالإبقاء على لعبة السياسة والسلطة بلا قواعد، أو كما قلت أنت في سؤالك، لتتحالف كيفما اتفق لها مع الجيش أو المليشيات. وهذا هو نتاج الخيال النخبوي القاصر.

قضايا السودان لن تحل بين عشية وضحاها، لأن كل النخبة السياسية متورطة في إنتاج هذا الواقع، وكذلك قيادة الجيش، مما يظهر أن الطريق ما زال طويلًا، مع كثافة وجود بقع الزيت على الماء الصافي الرقراق. وأقصد بالماء الصافي هو الشعب السوداني بأشواقه نحو الحرية والسلام والعدالة ودولة المواطنة المتساوية، التي تحقق مصالحه المادية المباشرة، وبين هذه المصالح وإمكانية استنطاقها في شكل فعل وتيار وطني منظم، وتنعكس في برنامج سياسي لأحزاب وتنظيمات سياسية تتنافس على البرامج والخدمات، وتسري وتثري الروح الوقادة لأهل الفن والإبداع والثقافة ومشاجنة الرؤى، هذا أمر نقف على مسافات بعيدة من تحقيقه. فنحن أمام مصاب ومأزق، والمخرج منه ليس بيسير.

- منتصر إبراهيم: بالمصالحة الوطنية الشاملة التي لا تستثني أحدًا - إلا من "صدر بحقهم تهم جنائية واضحة طبعًا إلى حين تبييض صحائفهم"؛ عبر المصالحة والعدالة الانتقالية، يمكننا تجاوز الحلقة المفرغة في السودان. لقد كانت قضايا اضطراب الدولة في السودان تتمثل في ثلاثة قضايا رئيسية: الحرب الأهلية المتطاولة، والانهيار الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي بسبب الثورات والانقلابات العسكرية. أنتجت هذه الوضعية فقدان السياسة السودانية للإجماع والاتفاق والشرعية والفاعلية والتنظيم والاستقرار؛ وقد وصلت البلاد إلى مرحلة حرب الخامس عشر من أبريل باجتماع الأسباب والنتائج في لحظة فارقة بثورة ديسمبر التي كانت فرصة لتجاوز كل ذلك التاريخ القديم. وكانت إشارتها واضحة: إما الانهيار أو النهضة. وقد عجزت كامل الطبقة السياسية وقوى الثورة نفسها في إدراك هذه الحقيقة، وساروا في اتجاه المكابرة إلى أن انهارت الأوضاع. فهل ستدرك الطبقة السياسية أشراط النهضة وفق سبيل المصالحة فقط، أم سيستمرون في المشاكسة والتنازع والاحتراب؟

  • بين جلب السلام وإخماد صوت المدافع، وبين مناقشة قضايا الانتقال والتأسيس، ماذا يلوح في الأفق؟ وما هي سبل المعالجة؟ إلى أين تمضي الأمور؟ إلى رحاب تأسيس الدولة؟ أم إلى العسكرة؟ أم إلى التفكك والتجزئة؟ أم إلى الفوضى الشاملة؟ أم إلى استفحال التدخل الإقليمي والدولي واتساع نطاقه تحت مسوغات الحماية الإنسانية؟

- منتصر إبراهيم: أي اتجاه للمكابرة باستهلاك المنطق واللغة القديمة، سيستمر الهدر والتحلل إلى ما لا نهاية؛ ستستمر الدولة العسكرية في ممارساتها النهبية واستنزاف الموارد الطبيعية لتمويل مؤسسة الحرب، وشراء الولاءات والاجتهاد في محاولة إعادة إنتاج نفسها. وبالمقابل، ستستمر الطبقة السياسية في تكريس حدة الاستقطاب والتشرذم وخداع الذات، بغياب أفق الإجماع والاتفاق والشرعية والفاعلية والتنظيم والاستقرار، وبالتالي سيستمر التدخل الدولي وقد بات جليًا وسافرًا في هذه الحرب التي ارتهنت أطراف عديدة لسرديات جهات دولية أكثر من هي وقائع سياسية تخص السودانيين كقصة الحرب مع وضد الحركة الإسلامية المرتبطة بقضايا إقليمية معلومة في المنطقة؛ ولعل التأثير الدولي سيضاف إلى قائمة تعقيدات المشكل السوداني في كونها أكثر صعوبة وتحدي، ويجب التفكير فيه وفي كيفية تجاوزه.

- هشام الشواني: طالما فهمنا أن الصراع هو بين الخط الوطني والخط غير الوطني بما في ذلك من تعقيدات وتناقضات فرعية هنا وهناك، فإن المسألة في جوهرها كفاح ونضال نبيل. من أجل ماذا؟ من أجل بناء الدولة الوطنية والمحافظة على السودان وتعزيز سيادته والمضي نحو كل ما يعزز هذا الاجتماع السوداني، بما في ذلك الجوانب الثقافية وكل العناصر الحضارية لهذا الاجتماع الذي يحمل قدرًا عظيمًا في هذه الجغرافيا.

- عمرو صالح ياسين: على ضوء ما تقدم من استطرادات، فإن كل السيناريوهات تظل مفتوحة، وهي تتعلق بمن يسبق من؟ وسأظل متفائلًا على المدى البعيد؛ لأن الشعب السوداني أثبت على الدوام أن لديه القدرة على مفاجأة نفسه. والقوات المسلحة السودانية في هذه الحرب تفوقت على نفسها. والذين خططوا لهذه الحرب لم يكن في سابع خيالهم مقدار عراقة هذا الشعب وتفرده عن الشعوب الأخرى، التي نجحت فيها المخططات ومرت عليها كما يقول عبد الله علي إبراهيم، وذلك لعدة عوامل:

العامل الأول: متعلق ببنية الاجتماع السياسي: إذ تتوافر في السودان بخلاف إثيوبيا أو تشاد التي تدور مع القوميات الإثنية وجودًا وعدمًا، بنية اجتماع سياسي حديث، عبّر عن نفسه بصورة فاعلة ووصل إلى الحكم وفشل. ورغم الإشكالات والاختلالات المرتبطة بالاجتماع السياسي السوداني، فإن الإطار الكلي يشير إلى أننا نمتلك مجتمعًا مدنيًا حيًّا، برغم من أننا سنعاني كدولة، إلا أننا على المسار. وحين يكتمل البناء، فسنعبر عن تجربة مختلفة وعميقة في آن.

العامل الثاني: هذه الحرب أثبتت، بخلاف الجيوش الأخرى في المنطقة، أن الدولة السودانية لديها جيش مهني حديث لم ينقسم على أسس هوياتية أو أقلية، رغم خطابات النطاق الهامشي المخدومة بمال سياسي وفير.

والعامل الثالث: وهو أهم من العاملين السابقين، أن الدولة السودانية هي من أقدم الدول الحدودية في التاريخ، وتمتد عبر كوش وعلوة والفونج. وهي مسألة لا ينبغي الاستهانة بها، لأن العراقة لا تنمحي عن الدم وعن الأرض. وأقرب مثال ما فعله المهدي في مرحلة الثورة وليس الدولة، بهزيمة الجيوش الاستعمارية، مما عزز عند البعض دعوى مهديته حال كونه كما قال حاج حمد: استحال مهديًا منتصرًا لا منتظرًا. والحقيقة أن المهدي لم يبنِ مساره من الصفر، وإنما استعاد ما تم إنجازه في سلطنة الفونج. فالفرق بين بروز المهدي وسقوط الفونج هو نحو 60 إلى 70 عامًا، وهو نفس الفرق بين ثورة أكتوبر وثورة ديسمبر، مما يدل على أن ذكر المثال السالف كان يلهم الجيل الخالف بقصص موحية عبر أدوات الحكي الشفاهية ومحاكاة نماذج البطولة المنثالة عبر التاريخ.

ما حققه الشعب من صمود، ونصرته لجيشه، والتفاف المؤسسة والتقائها على رد غائلة عدوان الدعم السريع، بجسارة وبطولة ناتجة عن عراقة الشعب السوداني وتجذر الدولة في خياله كأقدم دولة حدودية في التاريخ. هنا نحن نبني مسارنا على أسس صلبة، وهذا سبب يجعلنا نتفائل على المدى البعيد. نتفائل بأن هذا الشعب قادر على الإجهاز على جيفة محمد علي باشا وأن يبدأ دولته ويؤسسها على المواطنة المتساوية التي تركز الإنسان السوداني في عمق فعل الدولة وتحقق كرامته وحقه في الحياة وبقاؤه. وتستبدل جهاز عنف الدولة المصمم على إرهابه بجهاز قائم على حمايته، وتحول منطق الضريبة من الاستغلال والجباية إلى المنطق الخدمي الذي يقوم على فكرة التعاقد الضريبي بين الدولة والفرد، وتغيير منطقها الاستخراجي إلى منطق اقتصادي حديث صناعي يربط سلاسل الإنتاج من الريف إلى الموانئ، ويغير منطقها السلطوي الزبائني إلى ديمقراطية راسخة لا مركزية ومستويات من إدارة الحكم، مما يعزز كرامة هذا الشعب.   هذه الغاية سنصلها يومًا من الأيام. والإجابة على سؤال "من سيسبق من؟" هل بقايا السودان القديم وقدراته على إنتاج نفسه هي التي ستسبق السودان نحو مزيد من الحروب؟ ومزيد من التعقيدات؟ أم أن الأجيال التي شهدت هذه الثورة ونهاية الإنقاذ وهذه الحرب ستُخرج خليل فرحها ومجلة فجرها وحركتها الوطنية الجديدة لتحمل لواء المجد الذي لطالما حملناه منذ فجر بعانخي؟ لا بد يوم باكر يبقى أخير، لكن السؤال: أين باكر؟ وكيف الطريق إليه؟!

الكلمات المفتاحية

العاصمة الخرطوم

معركة الخرطوم.. انهيار أم إعادة تموضع؟

في تحول استراتيجي حاسم، بعد قرابة العامين من حرب منتصف أبريل /نيسان 2023، أعلن رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان


عبد الفتاح البرهان.jpg

قائد الجيش.. الرقص على رؤوس التحالفات عند بوابة القصر الرئاسي 

مع اقتراب الإعلان رسميًا عن خلو العاصمة الخرطوم من قوات الدعم السريع واستعادة مباني القصر الرئاسي، يجد قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان والحاكم الفعلي للبلاد نفسه أمام مشهد جديد سياسيًا وعسكريًا.


القصر الجمهوري في الخرطوم

الأفق الرمزي والدلالي لاستعادة القصر الجمهوري

حت وسم الطريق إلى القصر، خاض الجيش سلسلة معارك عنيفة منذ عملية العبور إلى المقرن في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر المنصرم، قبل أن يحقق أهم التحامات جيوشه بين الإشارة والقيادة، وبين المدرعات والقيادة في وسط الخرطوم


عناصر من الجيش أمام القصر الجمهوري

سيطرة الجيش على القصر الجمهوري.. دلالات سياسية ومرحلة جديدة

بعد قرابة العامين من المعارك الدامية التي مزقت العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات، أعلن الجيش السوداني استعادة السيطرة على القصر الجمهوري، أحد أهم الرموز السيادية في البلاد.

قصف عشوائي معسكر أبو شوك.jpeg
أخبار

غرفة طوارئ أبو شوك لـ"الترا سودان": وفاة 53 مواطنًا بالتدوين والجوع

كشفت غرفة طوارئ معسكر أبو شوك للنازحين بولاية شمال دارفور، عن وفاة (53) مواطنًا من جرّاءِ القصف المدفعي والجوع خلال الثلاثة أشهر الماضية.

محكمة العدل الدولية أرشفية.jpg
أخبار

محكمة العدل الدولية تعلن موعدًا لجلسات دعوى السودان ضد الإمارات

 أعلنت محكمة العدل الدولية في بيان بتاريخ اليوم 28 آذار/مارس 2025، عن الشروع في إجراءات التقاضي في الدعوى المقدمة من حكومة السودان ضد دولة الإمارات.


العاصمة الخرطوم
سياسة

معركة الخرطوم.. انهيار أم إعادة تموضع؟

في تحول استراتيجي حاسم، بعد قرابة العامين من حرب منتصف أبريل /نيسان 2023، أعلن رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان

الدعم السريع واغتيال إمام مسجد في إم درمان.jpg
أخبار

مقاومة الفتيحاب: انتهاكات واسعة للدعم السريع جنوب أمدرمان

أفادت تنسيقية لجان مقاومة الفتيحاب، مساء أمس الخميس، الموافق 27 آذار/مارس 2024، بأن قوات الدعم السريع التي فرت من مدينة الخرطوم تمارس انتهاكات واسعة في الريف الجنوبي وقرى الجموعية بأمدرمان