14-ديسمبر-2021

مليونية 13 ديسمبر

القطيع  يعني القوة والتفاني والتجرد من الفردانية التي تم الترويج لها بشراهة في الفترات الأخيرة، وتم اختزالها في رؤًى محددة. خلال فترات ليست بالقليلة أخذت كلمة "قطيع" حمولة ثقيلة من المعاني السالبة، فكان القطيع –بالضرورة- يعني التبعية والانصياع التام دون التفكير، بل السير كالمنومين مغنطيسيًا نحو مصائر مجهولة، واتخاذ قرارات حسبما يريد القائد، فتلاشت تدريجيًا نقاط القوة في التجمعات الكبيرة، وهذا ما فطنت له الأنظمة الحاكمة على مدى عقود طويلة، وسعت بكل السبل لتكوين وعي جمعي حسبما تريد.

لا يمكننا القول بأن الكثرة غلبت الشجاعة، بل إن الشجاعة أدت إلى تكوين كثرة، كثرة مؤمنة وشجاعة

نعود بذاكرتنا للوراء، كانون الأول/ديسمبر من العام 2018، حينما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة، نذكر عقلية القطيع الصائبة التي قادت إلى ضرورة إرساء مبادئ كالحرية والسلام والعدالة، فكما يقول جورج أورويل على لسان ونستون في روايته الشهيرة 1984: "إن كان هنالك من أمل، فالأمل يكمن في عامة الشعب"، والعامة هم القطيع الحذر الذكي المترابط ذو الكتلة الواحدة والهم الواحد.

اقرأ/ي أيضًا: للمرة الثانية خلال هذا الشهر.. الآلاف يتظاهرون في أم درمان وقرب القصر

بالرجوع إلى بدايات الانتفاضة؛ لا يمكننا القول بأن الكثرة غلبت الشجاعة، بل إن الشجاعة أدت إلى تكوين كثرة، كثرة مؤمنة وشجاعة، كثرة على صواب، فالنخبة الشجاعة كانت مؤمنة بأن التغيير لا يأتي إلا من كلمة واحدة تخرج من حنجرة ضخمة تهتف: " تسقط بس "، وإن فطِنّا إلى الآراء المخالفة فهذا لم يكن مؤذٍ كما هو متوقع، بل كان تعبيرًا ضروريًا، فهذا الشعب كان بحاجة لشيء واحد وحقيقي "صوت يعبر وأذن تصغي"، فكما رأينا كان قطيعًا متمايزًا يلقي بآراء مختلفة والهدف واحد. وبصورة واضحة أيضًا رأينا أن الأحلام الفردية تتحقق بتحقيق هدف جماعي، فكان حلم كل فرد معلق بضرورة سقوط نظام الانقاذ.

ثوار أمدرمان يستقبلون ثوار بحري بمجموعة من البالونات البيضاء فيها أسماء الشهداء

في أشد الأيام سوءًا، وفي كل مرة تخمد فيها الشرارة، وفي كل مرة ينتابنا العجز، ويصبح الشك في توقف ما بدأناه أمرًا شبه حتمي، أسأل أحد الأصدقاء: "نعمل شنو؟" فيجيب: "نواصل في المواكب بس"، فنواصل كلنا، حاملين رهق ليالٍ مضرجة بالدماء، احتمالات و دموع كثيرة سببها غاز، إرهاق جسدي ونفسي، حتى جاء السادس من نيسان/أبريل 2019، ودوى صوت القطيع، ومن ثم "حدث ماحدث".

تلت تلك الأحداث فترة انتقالية مرهقة، واتفاقية سلام، وحالة اقتصادية غير مستقرة، إلى أن جاء الانقلاب العسكري في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ليعيدنا مرة أخرى للنقطة الأولى، وبعد ثلاث سنوات دفعنا ثمنها عرقًا ودم، نعود للمربع الأول بسبب أطماع شخصية.

رأينا أن الأحلام الفردية تتحقق بتحقيق هدف جماعي، فكان حلم كل فرد معلق بضرورة سقوط نظام الإنقاذ

صبيحة يوم الانقلاب أحسست بأننا متنا هنا، نضالنا وهتافنا ضاع سدًى، إلى أن تفاجأت بالمئات من الناس، يطوفون الشوارع، يهتفون بصوت واحد: "الردة مستحيلة"، نسبة لانقطاع خدمات الإتصالات والإنترنت، لم يجمعهم أو يحشدهم أحد، جمعهم هدف واحد، هدف القطيع الذكي، يسيرون بقلوب وجلة، وكأنني أسمعهم يتمتمون: "البقاء اليوم للكثرة".

وإلى لحظة كتابة هذه السطور، يقدم الشباب السوداني دمه فداءً لبلاده، حتى موكب 13 كانون الأول/ ديسمبر، والذي حصد (62) إصابة، يصرخ هذا القطيع بقوة رافضًا الخنوع: "الشعب شعب أقوى.. والردة مستحيلة".

اقرأ/ي أيضًا

ارتقاء شهيد جديد أصيب بالرصاص في مليونية 13 نوفمبر

62 إصابة في مليونية الأمس بالخرطوم