سياسة

معركة الخرطوم.. انهيار أم إعادة تموضع؟

28 مارس 2025
العاصمة الخرطوم
العاصمة الخرطوم
الفاتح محمد
الفاتح محمد كاتب من السودان

في تحول استراتيجي حاسم، بعد قرابة العامين من حرب منتصف أبريل /نيسان 2023، أعلن رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، عن استعادة السيطرة الكاملة على العاصمة الخرطوم، بعد طرد عناصر الدعم السريع منها. من القصر الجمهوري، قال البرهان بصوت حاسم: "الخرطوم حرة وانتهى الأمر."

لم يكن هذا الإعلان مجرد تصريح سياسي، بل جاء تتويجًا لعملية عسكرية كبرى بولاية الخرطوم، بدأت بعبور الجيش السوداني للجسور بولاية الخرطوم في 26 أيلول/سبتمبر 2024، واعتمدت على استراتيجية مدروسة نفذها الجيش السوداني بحرفية عالية. ومع تحرير الخرطوم، بات الدعم السريع يواجه أكبر هزيمة في تاريخه، حيث فقد السيطرة على العاصمة التي كانت مصدر قوته السياسية والعسكرية.

وفقًا لمراقبين، فقد ركز الجيش على حصار قوات الدعم السريع وإرهابها بالمسيرات والقصف المدفعي والإعلام الحربي المكثف

كيف استعاد الجيش السيطرة على الخرطوم؟

لم يخض الجيش السوداني معركة استنزاف مباشرة داخل الخرطوم، بل اعتمد على استراتيجية الخيارين لا ثالث لهما: الهلاك أو الانسحاب. وفقًا لمراقبين، فقد ركز الجيش على حصار قوات الدعم السريع وإرهابها بالمسيرات والقصف المدفعي والإعلام الحربي المكثف، مما أدى إلى انهيار معنويات هذه القوات، وإجبارها على الفرار دون خوض معارك مباشرة في كثير من المناطق.

إلى جانب ذلك، اعتمد الجيش السوداني على تكتيك عسكري قائم على الردع النفسي قبل المواجهة المباشرة، وهو النهج الذي أثبت نجاحه في حملاته السابقة في ولايات الجزيرة، سنار، والنيل الأبيض. كانت الاستراتيجية واضحة:

1. حصار شامل ومنهجي: حشد الجيش قوات ردع ضخمة، طوّق بها مواقع الدعم السريع في الخرطوم من عدة محاور، مما جعلها أمام خيارين فقط: القتال حتى الفناء، أو الانسحاب تحت الضغط.

2. الهجوم التدريجي والتطويق: استخدم الجيش تكتيك التقدم البطيء والحصار الخانق، ما دفع الدعم السريع إلى الانسحاب تدريجيًا لتجنب الإبادة الكاملة.

3. التفوق الجوي والمسيرات: استُخدمت الطائرات المسيرة والمدفعية لاستهداف تجمعات الدعم السريع، مما جعل استمرارهم في الخرطوم مستحيلًا

4. حرب إعلامية نفسية: رافق العمليات العسكرية تصعيد إعلامي من الجيش، عمل على تضخيم خسائر الدعم السريع وبثّ الخوف في صفوفهم، مما جعل الهروب خيارًا أكثر إغراءً من المواجهة.

وفي السياق، يشرح د.أسامة عيدروس، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والأمنية، أن انهيار الدعم السريع جاء وفق نهج عسكري محكم أطلق عليه "مراحل انهيار قلعة الرمل". بدأت العملية بـ امتصاص الصدمة عبر تجنب المواجهة المباشرة، ثم الاستنزاف المستمر لقوات الدعم السريع في مناطقها الحيوية. تلا ذلك استباق العمق من خلال استهداف مراكز القيادة والسيطرة، واتباع الدفاع في العمق لمنع العدو من استعادة مواقعه. كما ركز الجيش على السيطرة على النقاط الحاكمة مثل الجسور والممرات الاستراتيجية، إلى جانب فرض القيادة والسيطرة المتعددة لضمان التفوق العملياتي. 

ولتعزيز هذه الاستراتيجية، تم التزامن في مسرح الحرب مع مسرح العمليات، مما ساعد على توجيه ضربات متزامنة في مختلف الجبهات. وأكد عيدروس أن الإعداد والتدريب الجيد، إلى جانب تأمين خطوط الإمداد، كان لهما دور حاسم في سير العمليات. وأخيرًا، اكتملت الاستراتيجية عبر العزل والتطويق والاستلام، حيث حوصرت قوات الدعم السريع تمامًا، مما أدى إلى انهيارها واستسلامها في عدة مواقع.

إلى جانب ذلك، وبحسب تقارير، حصل الجيش السوداني على دعم عسكري من عدة دول، حيث زودته الصين وروسيا بالإمدادات العسكرية، بينما أعادت الحكومة السودانية علاقاتها مع إيران، ما فتح المجال أمام تعاون عسكري متزايد. ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، قدمت السعودية أموالًا للجيش استخدمها في شراء طائرات مسيرة إيرانية، في حين أرسلت قطر ست طائرات حربية صينية لتعزيز قدراته الجوية. هذا الدعم الخارجي كان له دور حاسم في تعزيز موقف الجيش في المعركة واستعادة السيطرة على مواقع استراتيجية داخل السودان.

الإنجازات العسكرية على الأرض

حقق الجيش السوداني سلسلة من الانتصارات الاستراتيجية في الخرطوم، أبرزها استعادة المواقع الحيوية التي شكلت نقاطًا حاسمة في مسار المعركة. كان مطار الخرطوم الدولي أول هذه المكاسب، حيث تمكن الجيش من استعادة السيطرة عليه، إلى جانب جسر المنشية الذي يربط شرق النيل بالخرطوم. كما انتشرت القوات المسلحة في جميع أحياء الخرطوم شرق، وعززت مواقعها في وسط وجنوب المدينة، إضافة إلى تأمين حي العمارات والمناطق المتبقية حول مطار الخرطوم.

لم تقتصر الإنجازات على تأمين العاصمة فحسب، بل شملت أيضًا استعادة السيطرة على القواعد والمرافق العسكرية التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع

لم تقتصر الإنجازات على تأمين العاصمة فحسب، بل شملت أيضًا استعادة السيطرة على القواعد والمرافق العسكرية التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع. تمكن الجيش من استعادة اللواء الآلي الأول مشاة في الباقير، وهو موقع استراتيجي سيطرت عليه قوات حميدتي منذ بداية الحرب. كما نجح في فرض سيطرته على قيادة الدفاع الجوي في شارع 61 بالعمارات.

كذلك، تمت السيطرة على معسكر طيبة، أحد أكبر معاقل الدعم السريع في الخرطوم، إلى جانب تحرير مصنع اليرموك للأسلحة والذخائر في منطقة الشجرة من قبضة الدعم السريع، وهو من أهم مراكز التصنيع العسكري. كما فرض الجيش سيطرته على قاعدة النجومي الجوية في جبل أولياء، ما شكل تحولًا مهمًا في موازين القوة.

على المستوى الجغرافي، استكمل الجيش عمليات استكمال السيطرة على ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض من عناصر الدعم السريع، مما أدى إلى إحكام قبضته على الجنوب. كما تمكن من تأمين جبل أولياء، كبرى محليات الخرطوم، إلى جانب هذه الانتصارات، أحكم الجيش قبضته على الأحياء الحيوية في الخرطوم، بما في ذلك الصحافة، السوق الشعبي، شارع الهوا، الكلاكلات، ليكمل بذلك إحكام سيطرته على العاصمة السودانية.

التداعيات وردود الأفعال

في خضم الزخم العسكري، تمكن الجيش من تحرير عدد كبير من الأسرى، كانوا محتجزين لدى الدعم السريع. وكانت قوات حميدتي قد حاولت ترحيل بعض الأسرى والمختطفين من حي الرياض إلى جبل أولياء بهدف نقلهم إلى دارفور، لكن مع تصاعد الضغط العسكري، اضطرت الدعم السريع إلى الهرب، تاركة الأسرى والمختطفين خلفها. 

نفى مستشار قائد الدعم السريع، الباشا طبيق، أن تكون قواته قد انهارت، مؤكدًا في تغريدة على منصة "إكس" أن الجيش لم يحقق أي انتصارات حقيقية في الخرطوم

في مقابل هذا الانتصار العسكري للجيش، نفى مستشار قائد الدعم السريع، الباشا طبيق، أن تكون قواته قد انهارت، مؤكدًا في تغريدة على منصة "إكس" أن الجيش لم يحقق أي انتصارات حقيقية في الخرطوم.

وقال طبيق: "لم ولن تنهار قوات الدعم السريع، لكن، لخطط عسكرية، قررت القيادة إعادة تموضع القوات في أم درمان نظرًا لعوامل لوجستية وترتيبات عسكرية أخرى." كما وصف بيان الجيش بشأن استعادة المواقع العسكرية بأنه "نصر زائف وتضليل للرأي العام."

وفي أول رد فعل لها على التطورات الميدانية، نفت الدعم السريع تعرضها للهزيمة، مؤكدة أن ما جرى ليس سوى إعادة تموضع استراتيجي بهدف تعزيز مواقعها القتالية. وفي بيان صادر عن الناطق الرسمي، شددت الدعم السريع على أنها "لم تخسر أي معركة"، بل تعمل وفق خطط عسكرية متجددة لإرباك الجيش وتحقيق أهدافها على المدى الطويل.

كما وصفت الدعم السريع القوات المسلحة السودانية بأنها امتداد للنظام القديم، متهمة إياها بممارسة القمع ونشر الفتنة بين مكونات المجتمع. وأكد البيان أن الحرب مصيرية ولن تتوقف إلا بإسقاط ما وصفته بـ"قلاع الظلم"، مشددًا على أن قواتها "لن تتراجع ولن تستسلم"، بل ستواصل القتال "بإرادة فولاذية"، حتى تحقيق أهدافها وإعادة بناء الدولة السودانية وفق تصورها الخاص.

لكن المشاهد القادمة من الخرطوم تناقض هذه التصريحات، حيث رُصدت انسحابات كبيرة لعناصر الدعم السريع وأسرهم، راجلين على جسر خزان جبل أولياء وفي طريق بارا - أم درمان، في مشهد يعكس حجم الانهيار الذي تعرضت له القوات.

من جهة أخرى، شهدت عدة مدن سودانية، وعلى رأسها بورتسودان، احتفالات واسعة ابتهاجًا بانتصارات الجيش في الخرطوم، حيث خرج المواطنون إلى الشوارع يهتفون فرحًا، وأُطلقت الألعاب النارية في بعض الأحياء. كما عمت مظاهر الفرح العاصمة المصرية القاهرة، حيث احتشد السودانيون في مناطق تجمعاتهم، يرفعون الأعلام ويهتفون بشعارات داعمة للجيش. استمرت الاحتفالات حتى صبيحة اليوم التالي، وسط مشاهد من الغناء والزغاريد.

ماذا يعني فقدان الخرطوم للدعم السريع؟

يرى محللون أن فقدان الخرطوم يمثل انهيارًا كليًا للدعم السريع، إذ يؤكدون أن نفوذها في دارفور سيتراجع بشكل حاد بعد خسارتها للعاصمة. ويشيرون إلى أن قادة الدعم السريع لم يعودوا أكثر من كيان قبلي محدود، بعدما فقدوا السلطة التي كانوا يستمدونها من سيطرتهم على مركز الدولة. ووفقًا لهذه التحليلات، فإن قوات الدعم السريع ستتحول إلى مجرد حركة متمردة معزولة، على غرار الجماعات المسلحة الأخرى في الهامش، مثل عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو، وربما بقدرة أقل على التأثير.

في المقابل، يرى آخرون أن ما حدث ليس انهيارًا للدعم السريع، بل مجرد إعادة تموضع تكتيكية، فرضتها الظروف العسكرية واللوجستية. ويعتقد هؤلاء أن الحرب لم تقترب من نهايتها، بل قد تستمر لفترة طويلة، خاصة في ظل تعقيدات المشهد العسكري والسياسي، وتوفر الدعم الخارجي للجيش والدعم السريع.

ويعتقد البعض أن الانتصار لن يكتمل إلا بتصفية وجود الدعم السريع في جميع أنحاء السودان، وتحرير دارفور وكردفان، حيث لا تزال قوات حميدتي تحتفظ بمناطق نفوذ واسعة. كما أن الملف السياسي يظل مفتوحًا.

ماذا بعد ؟

لقد أثبت الجيش السوداني في هذه المعركة، قدرته على إدارة حرب المدن بحرفية عالية، مستفيدًا من استراتيجية قائمة على التخطيط الذكي، بدلاً من المواجهة العشوائية. وبينما تحتفل الخرطوم باستعادة حريتها، تبقى أعين السودانيين شاخصة نحو المستقبل، مترقبين ما ستؤول إليه الأوضاع في المرحلة القادمة.

تحرير الخرطوم من قبضة الدعم السريع يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع في السودان، إذ يبرز السؤال الأهم: هل ستكون هذه نهاية الدعم السريع، أم أنه انسحاب وإعادة تموضع تمهيدًا لجولات جديدة في كردفان و دارفور؟ كما أن التحدي الأكبر الآن هو بناء استقرار سياسي يمنع تكرار سيناريو الحرب مستقبلاً.

من ناحية أخرى، يواجه الجيش تحديًا جديدًا يتمثل في إعادة الاستقرار وتأمين العاصمة، وحماية المواطنين من أي فوضى متوقعة. كما تظل مسألة إعادة الإعمار وإصلاح البنية التحتية ضرورية لضمان عودة الحياة الطبيعية إلى الخرطوم بعد أشهر من الحرب والتدمير، مخلفة وراءها أكثر من 11 مليون نازح ولاجئ في دول الجوار.

الكلمات المفتاحية

عامان على الحرب في السودان

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان

مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.


حرب السودان بعد عامين من اندلاعها

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟ 

تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي  يلوح  في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.


عامان على الحرب في السودان

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة 

على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.


الخرطوم (8).jpg

تقدير موقف| معركة الخرطوم وآفاق الأزمة السياسية في السودان

أحرز الجيش السوداني خلال الأسابيع الماضية تقدّمًا ميدانيًا مهمًّا في مواجهة ميليشيا قوات الدعم السريع، وتمكّن من فرض سيطرته الكاملة على مناطق استراتيجية في العاصمة الخرطوم

عامان على الحرب في السودان
سياسة

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان

مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.

حرب السودان بعد عامين من اندلاعها
سياسة

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟ 

تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي  يلوح  في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.


عامان على الحرب في السودان
سياسة

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة 

على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.

السودانيون في مصر.jpg
مجتمع

لاجئون سودانيون يبدأون رحلات شاقة لمغادرة مصر إلى بلادهم 

مع عودة آلاف اللاجئين السودانيين من المدن المصرية تشهد المعابر حركة واسعة للحافلات وفق متابعة متطوعين في غرف الطوارئ بالولاية الشمالية، بينما رجح عاملون في تنسيق هذه الرحلات عودة نصف مليون لاجئ سوداني خلال هذا العام من مصر إلى بلدهم إثر سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم، وعودة الحياة بشكل متدرج.

الأكثر قراءة

1
أخبار

مجزرة في قرية الزعفة.. مقتل 74 من المدنيين بغرب كردفان


2
أخبار

الدعم السريع تواصل قصف الفتيحاب بأم درمان


3
مجتمع

في قرى الجزيرة.. الحرمان من الكهرباء يعيد الناس إلى عصر الراديو


4
أخبار

الشرطة السودانية لـ"الترا سودان": 132 ألف بلاغ جرائم ارتكبت منذ اندلاع الحرب


5
أخبار

أبو عاقلة كيكل: سأقود آلاف المقاتلين لفك الحصار عن مدينة الفاشر