27-ديسمبر-2024
البرهان - حميدتي - المليشيات

قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي" ورئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبدالفتاح البرهان (تصميم الترا سودان)

دخلت حرب السودان منذ السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024م، مرحلة جديدة عنوانها تقدّم الجيش عبر محاور مختلفة، بعد أن استعاد سيطرته على الإذاعة ومضى ليحقق أول اقتران لجيش كرري مع جيش المهندسين، قبل أن ينتقل، في أعقاب استيلائه على منطقة جبل موية، لاسترداد مناطق السوكي والدندر وسنجة، وبسط هيمنته حتى مصنع سكر سنار، والزحف حثيثًا عبر أكثر من محور صوب مدينة ود مدني على نحو حذر، برغم ما جرى من تراجع في محور الفاو وما حدث في شرق الجزيرة مؤخرًا.

وبالتوازي، تقدمت قوات الجيش في مدينة الخرطوم بحري وباتت قاب قوسين من الوصول إلى سلاح الإشارة في ظل مقاومة شرسة من قوات الدعم السريع. ومن المنظور، إذا اقترنت جيوش الكدرو وكرري والمهندسين بجيش الإشارة، يمكن أن تنتقل إلى الالتقاء بجيش القيادة وفك حصارها الذي امتد نحو عشرين شهرًا. ومن ثم التقدم في المنطقة المركزية التي تضم مقار مؤسسات الدولة واسترجاع القصر الجمهوري ومحاصرة قوات الدعم السريع في بؤر متقطعة قبل إطلاق العملية البرية القاصدة لتحرير العاصمة وولايات الوسط، والزحف نحو غرب السودان، والاستفادة من رصيد المناورات التي تجريها القوة المشتركة في محور الصحراء.

باستقراء آليات العمل العسكري لدى الجيش من جهة، والدعم السريع من جهة أخرى، يبرز نمطان مميزان: التقاء الجيوش بين وحدات وفرق الجيش التي ظلت صامدة على مدار الحرب، في مقابل عقيدة الفزع الهجومية للدعم السريع

في المقابل، بدت الطرق المعتادة للدعم السريع أقل فعالية وجدوى، بحسبانها قوات هجومية بالأساس قامت على تطوير أسلوب الفزع من الاقتتال الأهلي في غرب السودان بين الإثنيات المنتسبة للعرب والأفارقة أو داخلها، وامتيازها بالسرعة والخفة والقدرة على الاختراق والالتفاف ونصب الكمائن، كونها شكّلت التكوين المضاد للحركات المسلحة وتأثرها بطريقتها في القتال بعد أن هزمتها في معارك فنقوقة وقوز دنقو الشهيرة منذ العام 2017م.

ومع إعلان قائد الدعم السريع الانتقال إلى الخطة (ب) عقب إقراره بالهزيمة في جبل موية ودعوته لتجهيز مليون جندي في سياق الإفادة من منطق الفزع، وانطلاق البثوث المصورة لاستجابة قطاع كبير من المكونات الاجتماعية، لم تُدرك معالم هذا الانتقال في أي محور سوى بعض التحركات في المناطق المحاذية لجنوب السودان من تلقاء النيل الأزرق. وبرغم أن محاور الخرطوم (المقرن، بحري، المصفاة، جنوب أم درمان) ومحاور الجزيرة والوسط عمومًا تسير ببطء بسبب طبيعة تعقيدات حرب المدن، وبرغم ما جرى من تقدم حذر في متحرك الصياد قبل أن يتوقف، إلا أن مجمل المشهد الحربي يظهر تناقص قدرة الدعم السريع على الاحتفاظ بالزخم وإدارة عقيدة الفزع في إخضاع مدن ومناطق جديدة، على كثرة ما تطلقه من تهديدات بغزو ولاية نهر النيل والشمالية والوصول إلى بورتسودان كأقصى هدف أسقطه تحرير منطقة جبل موية، بحسبانه أهم نقطة حاكمة في ولايات الوسط.

باستقراء آليات العمل العسكري لدى الجيش من جهة، والدعم السريع من جهة أخرى، يبرز نمطان مميزان: التقاء الجيوش بين وحدات وفرق الجيش التي ظلت صامدة على مدار الحرب، في مقابل عقيدة الفزع الهجومية للدعم السريع. وحيال ما جرى من تحول عميق في طور المعركة المشتعلة منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023م، تطرح هذه المعالجة الاستشرافية أسئلة حول مآلات الحرب إذا ما سارت نحو الحسم العسكري الفاصل، والتقاط مصاديق وقرائن الأحداث من قلب الوقائع ومظان الاحتمالات والترجيحات. كما تحاول الإجابة على السؤال المركزي الذي تترسمه سير المعارك: لمن ستكون الغلبة على المدى المنظور؟ لعقلية الفزع المتسقة مع النمط الهجومي لقوات الدعم السريع مع تدفق المورد البشري للحزام الرملي من داخل الحدود وخارجها، أم للتخطيط الحربي الصبور والمتأني الذي تعتمده قيادة أركان الجيش بالتقدم من خلال وصل خطوط الإمداد والتقاء الجيوش؟

الصعود إلى الهاوية

يرى عبد الحليم عباس، الكاتب والمحلل السياسي، أن الكفة من ناحية الاستعداد للحرب كانت تميل في البداية لصالح قوات الدعم السريع، ولكن سرعان ما تحولت هذه القوات إلى "ميليشيا بلا قيادة وسيطرة" منذ أن سحب الجيش ضباطه المنتدبين لديها. منذ تلك اللحظة، تفككت تلك القوات إلى ميليشيا غير منضبطة تحت إدارة "آل دقلو" بعد أن كانت قوات شبه نظامية.

يقول عباس إن الجيش لم يكن مهيئًا للحرب في البداية، عكس قوات الدعم السريع التي استطاعت السيطرة على معظم العاصمة وانتشرت بشكل واسع في كل مكان فيها تقريبًا وهاجمت معسكرات الجيش الأساسية. لم يكن أمام الجيش سوى الدفاع. لقد تلقت قوات الدعم السريع ضربات من سلاح الطيران دمرت بعض مقراتها، ولكن الضربة الأقوى كانت سحب الجيش لضباطه من الدعم السريع. من هنا تحول الدعم السريع إلى "ميليشيا".

عبد الحليم عباس: المواطن في البداية لم يكن منحازًا إلى أي طرف من طرفي القتال، لأن الانحياز في البداية كان موقفًا سياسيًا؛ الوقوف مع الجيش كان يعبر عن رؤية سياسية، وكذلك الوقوف مع الدعم السريع أو ادعاء الحياد

ويؤكد عبد الحليم حدوث عمليات استنفار واسعة على أسس قبلية، كما حدثت عمليات تجنيد عشوائي في العاصمة للقتال مع الميليشيا التي توسعت وتضخمت واستمرت في الهجوم على معسكرات الجيش. وفي الوقت نفسه، انتشرت الجرائم التي يرتكبها أفرادها بحق المواطنين من سرقة وقتل ونهب واغتصاب وتدمير للممتلكات العامة والخاصة. ومن هنا بدأت "نهاية الميليشيا"، بحسب وصفه.

كان الجيش في وضع صعب، غير مستعد عسكريًا وجنوده غير مهيئين للقتال على قلتهم. والمواطن في البداية لم يكن منحازًا إلى أي طرف من طرفي القتال، لأن الانحياز في البداية كان موقفًا سياسيًا؛ الوقوف مع الجيش كان يعبر عن رؤية سياسية، وكذلك الوقوف مع الدعم السريع أو ادعاء الحياد. ومعظم الناس كانوا بعيدين عن هذه الانحيازات السياسية، ولكن مع توسع رقعة الحرب وتوحش الميليشيا، أدرك الناس أنهم ليسوا أمام حرب سياسية بين قوتين، بقدر ما هي حرب تشنها الميليشيا ضد الدولة والشعب.

في أثناء ذلك، بدأ يتكشف الدعم الخارجي للميليشيا بالسلاح والمرتزقة. هنا، تشكل اصطفاف وطني كبير مع الجيش، وتعالت الأصوات تطالب بفتح المعسكرات وإعلان الاستنفار. استجابت قيادة الجيش، فامتلأت المعسكرات بالمستنفرين، رغم انعدام الإمكانيات حينها.

استمرت الحرب – بحسب رؤية عباس – وتوسعت في الولايات في دارفور، ثم الجزيرة، وحتى سنار. وخلال هذه الفترة ظل الجيش في حالة دفاع. ولقد استطاع الدفاع عن معسكراته الأساسية واستنزاف الميليشيا عبر الدفاع وضربات الطيران والعمل الخاص، ولكنه فشل في حماية الناس بالطبع، لأن المعركة كانت فوق إمكانياته. وخلال هذه الفترة توفرت للجيش قوات المشاة التي كانت تنقصه في بداية الحرب، ولكنه كان ما يزال يعاني من نقص التسليح والعتاد.

استطاع الجيش – كما يقرر عبد الحليم – أن يصمد أمام هجمات المليشيا لأكثر من عام، اعتمد خلاله على استنزافها بشريًا وماديًا، وفي المقابل احتفظ بقوته بل عمل على تعزيزها بمراكمة المزيد من القوة والاستعداد من حيث التدريب والتأهيل والتسليح. ولقد مارس الجيش خلال هذه الفترة أقصى درجات ضبط النفس أمام جرائم وانتهاكات المليشيا وكذلك أمام السخط الشعبي الذي امتد حتى إلى صفوف الجنود وصغار الضباط. ولكنه كان يستعد لبدء مرحلة الهجوم بدأب وصبر.

ويشير عباس إلى انطلاق الجيش بعد اكتمال الاستعدادات في عمليات هجومية كبيرة في عدد من المحاور، في لحظة كانت "الميليشيا" فيها قد بلغت ذروة تمددها وانتشارها جغرافيًا، مثل موجة عاتية تمددت حتى ضعفت وتكسرت. ويشدد المحلل السياسي على أن المعركة تحولت حاليًا رأسًا على عقب، فالجيش الذي كان محاصرًا في مقراته ويتعرض لهجمات "الميليشيا" أصبح هو الذي يهاجم ويحيط بالميليشيا في عدة محاور، بالذات في العاصمة والجزيرة، ولقد تمكن بالفعل من تطهير ولاية سنار، آخر ولاية تمددت فيها هذه القوات شبه العسكرية.

يقاتل الجيش بحسابات وتكتيكات عسكرية، بينما تضرب الميليشيا الفوضى والعشوائية مع غياب القادة، واتجاه المعركة يسير بوضوح الآن في صالح الجيش.

ويرى عبد الحليم عباس أن الجيش ظل متماسكًا بوصفه مؤسسة تعمل بكامل هياكلها وإمكانياتها، بينما تحولت قوات الدعم السريع إلى مليشيات مفككة، بعضها من القبائل، وبعضها مرتزقة أجانب، وبعضها "لصوص ومجرمون". ميليشيا بلا مشروع سياسي ولا قضية، بلا هياكل للقيادة والسيطرة، وحتى بلا قادة بعد "هروب" أو اختفاء معظم من بقي من قادتها.

ويعتقد حليم عباس أن الميليشيا وحلفاءها وداعميها حينما قرروا محاربة الجيش نظروا إليه نظرة خاطئة باعتباره مؤسسة معزولة عن الشعب وعن المجتمع. لم يحسبوا حساب الدعم والسند الشعبي للجيش، أو لعلهم ظنوا أن المعركة لن تطول على أي حال. حربهم كلها قامت على فرضية خاطئة تقول بأن الجيش ضعيف ولن يصمد، وظنوا جميعهم أن الميليشيا ليست بحاجة إلى فعل الكثير للاستيلاء على البلد (ففي النهاية لا يوجد جيش).

ويخلص عباس في خواتيم إفادته المطولة إلى إدراك جميع من راهن على "الميليشيا" كم كانت رهاناتهم خاطئة وساذجة ولكن بعد فوات الأوان. الميليشيا الآن تواجه جيشًا بكامل عدته وعتاده، مسنودًا بدعم شعبي غير مسبوق، وخلفه دولة كاملة بمؤسساتها وعلاقاتها الخارجية وتحالفاتها، بينما تعتمد الميليشيا على فزع قبلي ومرتزقة ومجموعات من اللصوص والمجرمين، بدعم خارجي من دولة مشكوك في جدارتها بحمل صفة دولة، وفشلت تقريبًا في كل تدخلاتها السابقة مثلما فشلت في السودان.

ركائز نجاح الجيش الاستراتيجي

من جهة أخرى، يرى دكتور أحمد الماحي، الخبير الأمني والعسكري، أن المشهد الحربي في ساحة المعركة (دون الحواشي والتفاصيل أو توقف عند الموقف العملياتي اليومي) يظهر بوضوح ترجيح كفة القوات المسلحة على الميليشيا بسبب ثلاث ركائز قامت عليها استراتيجية العمليات العسكرية للجيش، وهي ركائز تم استخلاصها – بحسب الماحي – من ملاحظة أداء الجيش منذ الوهلة الأولى.

أولها إسقاط عامل الزمن: وأهمية هذه الركيزة، وفق دكتور أحمد، هي جعل المخطط والمنفذ في المستوى الأدنى (القائد الميداني) في حالة نفسية هادئة مستقرة لا تعبأ بصراخ العامة وما يطلبه (المشاهد). وهذا سر ومفتاح نجاح التخطيط لإدارة الحرب، إذ يتحمل عبء ضغط (الرأي العام) بكل تبعاته القيادة العليا، بينما يسمع المستوى الأدنى (المقاتلين) تحمل المسؤولية عن الأداء نجاحًا وفشلًا.

ثاني ركائز الاستراتيجية العسكرية هي الإعداد المحكم: ومن هذه الناحية، يعتقد الماحي أن الجيش نجح نجاحًا مدهشًا في إكمال النواقص ومواصلة الإمداد بل والتحديث في سلاسل الإمداد. وتشير الركيزة، وفق الخبير الأمني والعسكري، إلى حقيقة مهمة وهي إجادة إدارة الموجود وتطويره عند العسكريين، عكس المدنيين التواقين دائمًا للهدم والبداية من الصفر. عامل النجاح الثاني لهذه الركيزة، كما يعتقد أحمد الماحي، يكمن في تطويع وتوظيف العلاقات الخارجية للبلد للشأن العسكري. وهنا ظهر الامتياز نفسه في "اللعب بالبيضة والحجر".

أحمد الماحي:  محاولة مجاراة تكتيك جيش كبير ومحترف بأعراف قبائل في صراعاتها المحلية (تقاليد الاستنفار القبلي) يعتبر شيئًا من الجنون

الركيزة الثالثة هي الإسناد الشعبي: والفكرة المركزية لهذه الركيزة، وفق الخبير أحمد الماحي، هي تفادي الاستقطاب والانقسام الشعبي. يقول الماحي: "سنجد أن السند الشعبي كان العامل الحاسم في هذا المشهد، وهذا أكبر النجاحات". على عكس الجانب الآخر الذي يعاني الافتقار للتخطيط وضعف قراءة المشهد (Comprehensively) داخليًا وخارجيًا، بالإضافة إلى بدائل الموارد في حال تعثر وصولها من الممول. فقامت عندهم احتمالية النصر ونجاح المخطط على عاملين يصعب التحكم بهما، وهما الفزع (للمورد البشري) وكفيل مقاول (تسليم مفتاح).

ويذكّر الماحي بأن محاولة مجاراة تكتيك جيش كبير ومحترف بأعراف قبائل في صراعاتها المحلية (تقاليد الاستنفار القبلي) يعتبر شيئًا من الجنون، وستكون نتائجه كارثية عليهم كما تدل الأحداث والوقائع.

انهيار قلعة الرمل

وعلى ذات المنوال، ينسج الدكتور الفاتح الحسن، المحلل الاستراتيجي والعسكري، خيوط راهن المعركة ورهاناتها على المدى البعيد، مرجحًا غلبة الجيوش النظامية لكونها تعمل وفق منظومة متكاملة من الأسلحة والأفراد المؤهلين والنظم العسكرية المؤهلة لقيادة العمليات ضمن مستويات تدريب متقدمة لكل مجموعة، وإدارة المخاطر على نحو دقيق.

بينما تنحسر ظاهرة الفزع بوصفه نظامًا قبليًا سريع الانحسار، يتفوق مرحليًا بالتحشيد وكثافة النيران والسرعة، مع انعدام مستويات التدريب اللازمة وعدم الالتزام والانضباط بقواعد السلوك العسكري من الامتثال والطاعة والتراتيبية الهرمية للقيادة، وانتهاج سلوك عدواني يستثير حفيظة المجتمعات. علاوة على علو التكلفة البشرية وتناقص القدرة على الاستعواض في ظل انعدام عناصر الأسلحة المساندة وقلة الخبرة فيها.

ويشير دكتور الفاتح إلى أن الفزع القبلي سريع الانتشار ولكنه قلق بطبيعة تكوينه الأولي، وغلبة الانتقال والترحال من مكان إلى آخر بحثًا عن موارد المياه والكلأ، بخلاف احتراف العمل العسكري المنضبط بمنظومة ومدونة سلوك صارمة تستدعي الصبر والتأني والامتثال التام لسلسلة الأوامر النظامية.

الفاتح الحسن: تباعد خطوط إمداد مليشيا الدعم السريع وفصلها عبر سلاح الطيران والمدفعية الثقيلة أسهم في إفشال تدفق الفزع وإيقاف سيل الحزام الرملي

وبحسب رؤية الفاتح الحسن، فإن تباعد خطوط إمداد مليشيا الدعم السريع وفصلها عبر سلاح الطيران والمدفعية الثقيلة أسهم في إفشال تدفق الفزع وإيقاف سيل الحزام الرملي، بفضل نجاعة التخطيط الحربي والتصويب الدقيق لأرتال من المتحركات، مما أسهم في تحييد غازيات الدعم السريع والقضاء على كثير منها في مهدها. تُقرأ هذه المسألة مع ما تعانيه الميليشيا من نقص هائل في موردها البشري، سواء بالقتل أو الإصابة، في ظل تردي سبل الرعاية الطبية وتراجع نظم الإخلاء.

ويعتقد الفاتح الحسن أن الجيش النظامي راهن على تخطيط بعيد المدى لاستنزاف الميليشيا وتوريطها في الانتشار، بسبب معرفته بتكتيكاتها. كما عمل الجيش على مباعدة خطوط إمدادها وقطعها في اللحظات الحرجة، مع الاحتفاظ بالنقاط الاستراتيجية لإدارة المعارك. يقول الفاتح إن ميليشيا الدعم السريع وقعت في أفخاخ الجيش بعد أن استهدف قيادتها النوعية في الميدان، وقلل من فعالية قواتها وخفض روحها المعنوية، فأسلمها إلى مصائر الانهزام بعد أن انهارت قلاع رملها في الوسط تباعًا. ومع تحولات محور الصحراء بفعل تحركات الجيش والقوة المشتركة، سواء بصد الهجمات المتتالية للدعم السريع على الفاشر، التي تجاوزت أكثر من 160 متحركًا على مدار تسعة أشهر، أو بإجراء مناورات ناجحة تتمثل في قطع عمليات الإمداد العابرة للحدود وضرب تمركزات وبؤر الدعم السريع في قاعدة الزرق وغيرها من المناطق، مما يشير إلى أن توازن القوة في دارفور يمضي في غير مصلحة الدعم السريع، في ظل تذمر قطاع كبير من المجتمعات المحلية والمكونات الإثنية المضادة كالمساليت والزغاوة.

حضور العقيدة وآثار إدارة القوة

ويتساءل مصطفى بنياب، المحلل السياسي، عن حضور العقيدة في مفاعيل العمل العسكري والميداني، مرجّحًا ميل الكفة لصالح الجيش عبر استنزاف قوات الدعم السريع، برغم قدرته على التجنيد والتحشيد. موضحًا أن عجز قواته المنتشرة في إدارة القوة وبسط الهيمنة وخلق بؤر آمنة تخاطب احتياجات وهموم الناس في مناطق سيطرتهم، أنتج حالة من عدم اليقين في مشروع الدعم السريع بوصفه بديلًا لدولة 56. وذكر بنياب أن العقيدة، على أهميتها، لا تغني عن العناصر المادية المباشرة المتعلقة بإدارة القوة وضبط آثارها ونتائجها في حسم المعارك على المدى المنظور والبعيد. مبينًا أن الاحتمال الراجح من خلال استقراء الاستراتيجيات والخطط وطرائق العمل يشير إلى نجاح الجيش في نهاية المطاف، ما لم تحدث مستجدات أخرى تقلب الأمور رأسًا على عقب.

مفارقة الانتشار والسيطرة في الحرب الهجينة

ويفرّق دكتور حسن حسين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة، بين الانتشار الواسع لقوات الدعم السريع وإحكام سيطرته الفعلية، وتحول هذه الخاصية من مواطن القوة إلى الضعف في إطار ما يدعوه حربًا هجينة. بحسبان أن قوات الدعم السريع سعت إلى توسيع نطاق انتشارها في مناطق شاسعة دون أن تسيطر على عمق مواقع الدولة، إذ لم تزل حاميات الجيش ومقار فرقه في الخرطوم في القيادة العامة، والمدرعات، وسلاح الإشارة، وسلاح المهندسين، وقاعدة وادي سيدنا في قبضة الجيش. مما جعل الدعم السريع يستعيض عنها باحتلال الأعيان المدنية وإدارة مواجهاته مع القواعد الاجتماعية الشعبية، والنظر إليه بوصفه مهددًا أمنيًا أكثر من كونه مهددًا عسكريًا. موضحًا أن الجيش نجح في ضرب القوة الصلبة للدعم، واستنزف قياداته الميدانية، وحيّد أسلحته النوعية المتطورة، برغم مواصلة تدفق إمدادها عبر الحدود من المحور الإقليمي الداعم.

ويرى دكتور حسن أن دخول فئات جديدة من المقاتلين إلى جانب الجيش، بعقيدة عسكرية مثابرة في اجتثاث خطر الدعم السريع، جعله ينتقل من حالة امتصاص صدمة الهجوم الكثيف عبر أمواج بشرية متتالية ونيران مدفعية كثيفة، إلى الهجوم المضاد، كما تدلل على ذلك التقدم الكبير في محاور أم درمان، وانفتاح الشجرة، وتوسع تحصينات القيادة العامة، بالتوازي مع تقدم محور النيل الأبيض، وما تم إنجازه في محور سنار من استعادة السيطرة على معظم المناطق التي أسقطها الدعم السريع في مرحلة انتشاره.

حسن حسين:  استراتيجية التقاء الجيوش تمضي بصورة حثيثة، منذ التقاء جيش كرري والمهندسين، وجيش كرري والكدرو، وما حدث لاحقًا من التقاء جيش سنار والنيل الأبيض، وجيش سنار والنيل الأزرق، وتقدم متحرك الصياد، والالتقاء المتوقع بين جيش المناقل وجيش سنار، والالتقاء المتوقع أيضًا بين جيش الهجانة في الأبيض وجيش الصياد

ويعتقد حسن حسين أن استراتيجية التقاء الجيوش تمضي بصورة حثيثة، منذ التقاء جيش كرري والمهندسين، وجيش كرري والكدرو، وما حدث لاحقًا من التقاء جيش سنار والنيل الأبيض، وجيش سنار والنيل الأزرق، وتقدم متحرك الصياد، والالتقاء المتوقع بين جيش المناقل وجيش سنار، والالتقاء المتوقع أيضًا بين جيش الهجانة في الأبيض وجيش الصياد. مما سيؤثر، بحسب رأي حسن، على المعادلات العسكرية والأمنية في ربوع شاسعة من السودان، في ظل تراجع عقيدة الفزع وما يستتبعها من رهان على الدعم السريع في قطاعات كبيرة من أقاليم كردفان ودارفور، التي رأت في مشروع الدعم رافعة سلطوية لبلوغ مركز الحكم. ويدلل دكتور حسن حسين على ذلك بتواصل كثير من القيادات والمكونات الأهلية مع السلطة المركزية في العاصمة الإدارية المؤقتة وبعض الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ومحاولة الوصول إلى معالجات يتم بموجبها إقناع عناصرها بالتخلي عن سلاحها والعودة إلى حضن الدولة.

ويقرأ حسن حسين انهيار مشروع الدعم السريع بحجم انفضاض داعميه المحليين، وتناقص قدرته على الانقضاض والتوسع، بحسبان أن مراميه ورهاناته موصولة بالخارج أكثر من الداخل. مؤكدًا أن ضعف وعي المجتمعات المساهمة في تأييده بالدولة أسهم في تأزيم الأوضاع، وأوضح أن المشروعات المتعجلة لن تغني عن أهمية الاستقرار والاستمرار ضمن وطن واحد، بعقد اجتماعي ومصالح مادية عمومية لكافة الشعب.

وبين مخاطر الفوضى والتجزئة بإنشاء دولة في غرب السودان إذا نجح مخطط إسقاط الفاشر، رغم استبسال الدفاع عنها، يرجح أستاذ العلوم السياسية سيناريو تراجع المكونات المؤيدة للدعم السريع واستدراك ما يمكن استدراكه، باستئناف التحاقها بالسلطة المركزية التي تهاوت بفعل الحرب، في ظل استعادة الجيش سيطرته على كافة مناطق الوسط والعاصمة في المدى المنظور، والزحف نحو استرجاع دارفور على المدى البعيد.

ختامًا، يبدو أن قراءة مآلات المعركة على ضوء فعالية عقيدة الفزع في التوسع والانتشار دون إحكام السيطرة في مناطق شاسعة من هيمنة الدعم السريع، بعد أن أدركها التعثر أو التراجع، في مقابل استعادة زمام الأمور لمؤسسة الجيش عبر استراتيجية ربط ما انفصل من حامياتها وفرقها في أقاليم الوسط والعاصمة قبل إطلاق العملية البرية متعددة المحاور وإعلاء فرضية الحسم العسكري على مشروعات التسوية، تنطوي على كثير من التعقيدات المتصلة بعمق المأزق الذي فجرته حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل، ومساق تحليل أحداثها ووقائعها وأمد نهايتها، تحت عنوان: لمن ستكون الغلبة؟ عقيدة الفزع أم التقاء الجيوش؟ مما يجعل استنطاق الرؤى محض مقاربات تسهم في تحرير المسائل أكثر من تقرير الأحكام.