21-يناير-2025
ما تزال العديد من الأسر تغادر العاصمة الخرطوم (Getty)

إذا نظرنا إلى خريطة السودان، سنجد أن كل أقاليمه وصلتها الحرب تقريبًا (أرشيفية/غيتي)

أنهى اتفاق نيفاشا، الموقع بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والدولة السودانية التي مثل عنها حزب المؤتمر الوطني المحلول في 2005، أطول حرب في القارة الأفريقية، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، تخللتها عدد من الاتفاقيات والهدن، لكنها كانت تعود دائمًا إلى الدوران في كل عهد، عسكريًا كان أم ديمقراطيًا. وفي النهاية يمكننا أن نقول إن اليوم التالي لحرب الجنوب قد حمل معه انفصال الإقليم الجنوبي وتخلق دولة جنوب السودان، لتكون إحدى دول الجوار السوداني بدلًا من أحد الأقاليم السودانية.

قبل أن تنتهي حرب الجنوب الطويلة، بدأت الحرب في دارفور، التي استمرت لربع قرن أيضًا، وانتهت باتفاقية جوبا للسلام التي وقعها عن الدولة من يقود الحرب اليوم في وسط وأطراف السودان.

إذا نظرنا إلى خريطة السودان، سنجد أن كل أقاليمه وصلتها الحرب تقريبًا، سابقًا والآن، ولم يتبق إلا القليل الذي لم تصله. وكأنه قُدِّر للسودان أن يعيش حروبًا لا تبقي ولا تذر، حتى لا يكون بوسعه الإفادة من الموارد الطبيعية المهولة التي في باطن الأرض وظاهرها

إذا نظرنا إلى خريطة السودان، سنجد أن كل أقاليمه وصلتها الحرب تقريبًا، سابقًا والآن، ولم يتبق إلا القليل الذي لم تصله. وكأنه قُدِّر للسودان أن يعيش حروبًا لا تبقي ولا تذر، حتى لا يكون بوسعه الإفادة من الموارد الطبيعية المهولة التي في باطن الأرض وظاهرها: أنهار وأراضٍ خصبة وذهب وموارد معدنية وموارد بشرية. تقول بعض الإحصاءات إن 70 بالمائة من سكان السودان، البالغ عددهم تقريبًا 40 مليون نسمة، هم من الشباب.

يذهب البعض إلى أن السودان ستطارده الحروب حتى يتم تقسيمه إلى عدة دويلات صغيرة بدلًا من دولة واحدة كبيرة، ويعضدون نظريتهم هذه بأن السودان، كدولة كبيرة بموارد كبيرة، لديه قابلية للنمو حتى يصبح مهددًا بموقعه الجغرافي الخطير، إذ يطل على البحر الأحمر بطول 720 كيلومترًا، ويجاور دول الساحل الأفريقي، ويتوسط القارة الأفريقية، ويقترب من الشمال الأفريقي.

قديمًا، استهدف الاستعمار السودان لأجل الذهب والرجال، ويبدو أن من يقفون خلف هذه الحرب من الدول ذات النزعات الاستعمارية والتمدد يهدفون إلى ذات الشيء، إضافة إلى الموانئ التي باتت هدفًا في الآونة الأخيرة في المنطقة.

كيف سيكون شكل اليوم التالي للحرب؟ كيف يبدو اليوم الذي تنتهي فيه حرب 15 أبريل؟ هل يحمل سلامًا شاملًا يجلب الأمان والطمأنينة للسودانيين الذين تشردوا على مدار ما يقترب من العامين على خريطة السودان والعالم، نزوحًا ولجوءًا؟ هل ستترتب عليه جرائم كراهية؟ هل يقود إلى مصالحة وطنية شاملة تزيل هذا الاحتقان الكبير بين أبناء الوطن الواحد؟ هل تقود الحرب إلى تقسيم السودان؟

كل هذه الأسئلة ستكون إجاباتها منوطة بما تفعله القوى المدنية والسياسية السودانية وطرفا الصراع المسلح الآن ونتيجة الحرب والكيفية التي تنتهي بها، وحجم التدخلات الخارجية في هذا الصراع الذي أعاد السودان عشرات السنوات إلى الوراء، اقتصاديًا واجتماعيًا؛ حيث انهارت البنية التحتية تحت قصف المدافع المستمر، وانهارت المرافق الصحية والتعليمية والخدمية، وعاش ملايين السودانيين فقرًا مدقعًا لا يجدون ما يقيم الأود، في معسكرات نزوح مستمرة، طعامهم "بليلة" قليلة يقفون ساعات طويلة للحصول عليها في أحسن الأحوال.

المجموعات المتطرفة هنا وهناك تستهدف مرة على أساس الهوية أو الجهة، بعض المكونات بالتصفيات والانتهاكات؛ مما عقد الأوضاع كثيرًا

التحشيد القبلي والأهلي الكبير، والتنادي للاستنفار الشعبي للدفاع والحماية والهجوم، الاحتلال والتحرير لمدن وقرى سودانية دخلتها مليشيا الدعم السريع وتلتها قوات الجيش، جعل المواطنين السودانيين العزل ضحايا للانتهاكات المتعددة التي تقع، فالرصاص والمدافع لا تفرق بين هذا وذاك، بل تنال من الجميع. والمجموعات المتطرفة هنا وهناك تستهدف مرة على أساس الهوية أو الجهة، بعض المكونات بالتصفيات والانتهاكات؛ مما عقد الأوضاع كثيرًا. فالميديا تبث كل يوم خطابات كراهية مكثفة، وتحتقن النفوس بالغضب، والرغبة في الانتقام والتشفي. أولياء الدم، أصحاب الممتلكات المستباحة، ذوو القتيل والمعتقل، أهله وأقرباؤه، والقبائل التي دخلت على خط الصراع منذ الطلقة الأولى، كل ذلك يجعل السودان بكامله يعيش على برميل بارود كبير، غير البارود الذي يتبادله المسلحون على الأرض، وكنتيجة حتمية له.

يعاني السودان من بنية اجتماعية هشة تجعله يقع في مخاطر مواجهة تداعيات حرب أهلية قد تستمر طويلًا عقب نهاية حرب 15 أبريل بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي تمردت وخرجت عن خضوعها لقيادة الجيش السوداني الذي كانت تتبع له تلك القوات بموجب القانون الذي أَجازه البرلمان في عهد نظام الإنقاذ البائد.

كان التهديد الذي شعر به مواطنو وسط السودان هائلًا، فقد ظلت الحروب تدور دائمًا في الأطراف، ولم تصل إلى تخوم العاصمة القومية الخرطوم إلا في مرة واحدة عندما عبرت قوات العدل والمساواة التي كان يقودها مؤسسها الدكتور خليل إبراهيم، شقيق الدكتور جبريل إبراهيم الذي خلفه في قيادة الحركة، وبات وزيرًا للمالية تنفيذًا لترتيبات اتفاقية جوبا للسلام، عندما وصلت قواتهم إلى العاصمة القومية في عملية أُطلق عليها "الذراع الطويل"، لكن سرعان ما احتوت الدولة، عبر أجهزتها الأمنية المختلفة، هذه المحاولة ووأدتها.

هذا التهديد الكبير الذي شعر به مواطنو وسط السودان جاء عقب حملات الاعتقال والقتل والتنكيل الهائلة التي ابتدرت بها مليشيا الدعم السريع حربها في قلب الخرطوم، والتي انتقلت بعد ذلك إلى إقليم دارفور وإقليمي الجزيرة والنيل الأبيض؛ مما دفع سكان عشرات المدن وآلاف القرى إلى النزوح جماعات في مشهد هائل نحو المناطق الآمنة، وإلى لجوء الملايين من السودانيين إلى دول الجوار.

دخلت مليشيا الدعم السريع ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023 بعد انسحاب القوات المسلحة من مقر الفرقة الأولى مشاة تحت كوبري حنتوب، الذي يربض في واجهة مدينة ود مدني، والتي أذاعت بيان استلامها عبر قائدها أبوعاقلة كيكل، الذي سيأتي بعد عام ويزيد ببزة القوات المسلحة ليدخل المدينة مرة أخرى في مفارقة لا تحدث إلا في روايات الواقعية السحرية.

عقب تحرير مدينة ود مدني بواسطة القوات المسلحة والمجموعات التابعة لها، وفرحة أهالي الجزيرة والسودانيين بهذا الانتصار، انتشرت في الميديا فيديوهات قتل وتصفيات قيل إنها لمتعاونين مع الدعم السريع، مما عكر فرحة السودانيين بهذا الانتصار وهذا التحرير الذي انتظره أهل الجزيرة لعام ونيف. وفتحت عمليات القتل هذه الباب واسعًا أمام المستقبل الذي ينتظره السودان والسودانيون عقب نهاية الحرب، والكيفية التي ستنتهي بها، واحتمالية تحولها إلى حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، أو دخول أطراف جديدة، بعد مقتل عدد من الجنوبيين بولاية الجزيرة وردود الفعل الشعبية والرسمية في جنوب السودان.

كيف ستنتهي الحرب؟ وأي السيناريوهات أكثر رجوحًا؟ هذا السؤال تم تداوله كثيرًا وسط السودانيين، ولعل أكثرهم تفاؤلًا ينتظر الجيش ليحسم هذه المعركة عسكريًا دون أي اتفاق، بينما يؤكد البعض أن أي حرب ستنتهي بالتفاوض مهما كانت درجة السيطرة العسكرية ليعود الأمن، في حين يؤمن آخرون بأن هذه الحروب ستؤول إلى تقسيم السودان

كيف ستنتهي الحرب؟ وأي السيناريوهات أكثر رجوحًا؟ هذا السؤال تم تداوله كثيرًا وسط السودانيين، ولعل أكثرهم تفاؤلًا ينتظر الجيش ليحسم هذه المعركة عسكريًا دون أي اتفاق، بينما يؤكد البعض أن أي حرب ستنتهي بالتفاوض مهما كانت درجة السيطرة العسكرية ليعود الأمن، في حين يؤمن آخرون بأن هذه الحروب ستؤول إلى تقسيم السودان، وسيتم بموجبها انفصال إقليم دارفور كما حدث في حرب الجنوب التي انتهت إلى التقسيم، وأن هذا السيناريو سيتحرك كل مرة تجاه إقليم حتى يُقسم السودان إلى خمس دويلات صغيرة في المستقبل البعيد.

هذه السيناريوهات، التي في مجملها تتجاهل إرادة السودانيين وتعوِّل على القدرات الخرافية للفاعلين الدوليين، تنسى أو تتجاهل أن السودانيين قاموا بثلاث ثورات شعبية خلال الفترة من الاستقلال وحتى الآن، والتي لم تتجاوز 69 عامًا فقط.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"