في ذكرى تأسيس الحركة الشعبية: حين يتصالح "الهامش" مع الجلاد
17 مايو 2025
في الذكرى الـ42 لتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، تقف هذه المناسبة كتاريخ ملتبس بين شعارات التغيير وسلوكيات التحالف مع قوى الثورة المضادة. فبينما تأسست الحركة كامتداد لهوية الهامش في صراعه مع سلطة المركز، اختارت في لحظة تاريخية التحالف مع الدعم السريع الذي يمثل الذراع المحلي في مشروع تفكيك الدولة السودانية، وهو الكيان الذي ارتكب أبشع الفظائع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وفي قلب الخرطوم لاحقًا. فكيف يمكن تبرير هذا التحالف؟ وهل ما زالت نظرية "المركز والهامش" قادرة على تفسير هذا المسار؟ أم أنها نفسها باتت جزءًا من الأزمة؟
ويصبح من الواجب طرح السؤال الأخلاقي والسياسي بوضوح: إلى أي مدى ما زال هذا المشروع يُمثّل حقًا تطلعات المهمّشين، أم أنه بات غطاءً لتحالفات انتهازية تُكرّس القمع بصيغ جديدة.
تحالف بعض الحركات المسلحة مع الدعم السريع يشكّل انقلابًا على القيم التي قامت من أجلها ثورات الهامش
أزمة المشروع التحرري للهامش
نظرية المركز والهامش التي طرحها أبكر آدم إسماعيل قدّمت في بدايتها إطارًا تحليليًا مهمًا لفهم التهميش البنيوي داخل الدولة السودانية، وسعت لتفكيك البنى العميقة للصراع والتمييز. غير أن هذه النظرية، رغم طابعها التحرري الظاهري، حملت في بعض تأويلاتها نزعة تعميمية أقرب إلى العنصرية العكسية، حين اختزلت "المركز" في مكون عرقي وثقافي محدد، وشيطنته بشكل جماعي، بما يتعارض مع مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية. ومع مرور الوقت، انزلقت من كونها أداة نقدية تحررية إلى خطاب يُستخدم لتبرير تحالفات سلطوية مشبوهة، هذا التحول أضعف من القيمة الأخلاقية للنظرية، وحوّلها من مشروع يطمح للعدالة والمساءلة إلى أداة تبريرية تعيد إنتاج الهيمنة، لكن بوجه مغاير.
وخلصت النظرية الى عدة مآلات، اولها إحتمالية تشكيل كتلة تاريخية تقود عملية التغيير وتفكيك دولة المركز (الوضعية التاريخية المأزومة). هذا الطرح يبدو نظريًا جذّابًا، لكنه يصطدم في الواقع بتفتت القوى التي يُفترض أن تشكل هذه الكتلة. قوى الهامش نفسها تعاني من انقسامات إثنية وجهوية وقبلية، كثيرًا ما تُدار بمنطق الزعامة لا المشروع، ولم تخضع بعد لأي مراجعة نقدية جادة لتجاربها، رغم فشل العديد من اتفاقيات السلام التي وقّعتها. وهو ما يثير التساؤل: هل يمكن تفكيك دولة المركز بمجرد استبدالها بكتلة بديلة، أم أن المطلوب هو تفكيك منطق الدولة كغنيمة وإعادة بنائها على أساس المواطنة المتساوية؟
وفي سياق متصل، طُرحت فكرة "المساومة التاريخية" كمآل آخر محتمل لحل الصراع بين المركز الاسلاموعروبي والهامش. لكن التجربة السودانية مع اتفاقيات مثل نيفاشا وأبوجا وجوبا أظهرت أن المساومات لم ترقَ لدرجة التأسيس، فتحوّلت إلى مجرد أداة لتوزيع السلطة بين النخب، دون أي تغيير حقيقي في البنية السياسية والاجتماعية. فقد كانت هذه المساومات في كثير من الأحيان بين نخب تمثل ذاتها لا قواعدها، وأسهمت في شرعنة أدوات العنف بدلاً من تفكيكها. وإذا ما قُدّم تحالف بعض الحركات المسلحة مع الدعم السريع كمثال على هذه "المساومة التاريخية"، فإن ذلك يشكّل انقلابًا على القيم التي قامت من أجلها ثورات الهامش: الحرية، العدالة، والمساواة.
أما المآل الثالث فتمت الاشارة إليه بالانهيار الشامل للدولة والمجتمع، فهو توصيف لواقع مأزوم، لكنه لا يقدّم أفقًا بديلاً. فالتعامل معه كمصير حتمي يُغفل أنه نتيجة لتراكمات سياسية واقتصادية شاركت فيها قوى المركز والهامش على حد سواء. إذ لم تتمكن الحركات المسلحة، حين تولّت السلطة في بعض الأقاليم أو في المركز، من تقديم نماذج بديلة، بل أعادت إنتاج منطق التسلط والفساد والتهميش نفسه.
المحصلة أن هذه الخلاصات، رغم قوتها النظرية، لم تقدّم مشروعًا عمليًا للانتقال الديمقراطي. فالكتلة التاريخية لم تُبنَ من قاعدة اجتماعية واعية، بل من تحالفات نخب تبحث عن مواقع نفوذ في سلطة لم تتغير بنيتها. أما المساومة فقد أصبحت مجرد صفقات عابرة مع المركز أو أدواته المسلحة، دون أي إعادة تعريف للمشروع السياسي. والانهيار الشامل تحوّل إلى ذريعة للهروب من النقد والبقاء في مربع العجز.
هل يمكن تفكيك دولة المركز بمجرد استبدالها بكتلة بديلة، أم أن المطلوب هو تفكيك منطق الدولة كغنيمة؟
ما نحن في حاجة إليه اليوم ليس من يدّعي تمثيل الهامش، بل من يُعبّر عنه فعلاً. نحتاج إلى أدوات تنظيمية ديمقراطية تعبّر عن مصالح الناس الحقيقية، لا إلى قوى سياسية تتاجر بمظلومية الجماهير. المطلوب هو إعادة تشكيل المجال السياسي على أساس الحقوق لا الهويات. بهذا المنطق فقط يمكن تجاوز الثنائية الزائفة: مركز/هامش، شمال/جنوب، جيش/دعم سريع.
ولبناء أفق وطني جامع، علينا أن نتجاوز خطاب "المركز ضد الهامش"، ونتوجه نحو تحليل ديناميات التهميش الرأسية داخل كل مكوّن سياسي واجتماعي. وحده هذا التحليل النقدي يمكن أن يفتح الطريق أمام مشروع ديمقراطي يتجاوز الانقسامات الإثنية والجهوية، ويعيد تأسيس الدولة على أسس العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية.
تحالف يُقوّض أخلاقيات المشروع السياسي
في هذا الصدد، بعد توقيع الحركة الشعبية على ميثاق السودان التأسيسي في نيروبي، خرج علينا الحلو في لقاء تلفزيوني مصرحًا بأن الدعم السريع "سيُحاسب وفقًا للوثيقة" الموقعة، في مرواغة تبدو في واقعها تنصلًا من مبدأ العدالة الحقيقية، التي تستند بالأساس إلى استقلال القضاء، وليس إلى تفاهمات سياسية بين أطراف مسلحة. فالوثائق السياسية لا تنهي المذابح، ولا تواسي الضحايا، ولا تحل محل محاكم نزيهة، وطنية أو دولية، تضمن إنصاف من سُفكت دماؤهم، واغتُصبت أجسادهم، وسُرقت ممتلكاتهم. إن اعتماد الحلو على عدالة مشروطة، خاضعة للتفاوض بين الأطراف، ينسف الأساس الأخلاقي لمشروع السودان الجديد الذي طالما نادى به، مشروع يقوم على العدالة الحقيقية والمساءلة الفعلية.
الأمر الأخطر من ذلك هو أن الحلو، بوعي أو دون وعي، يقدم تبريرًا غير مباشر لجرائم الدعم السريع، حين يُحمّل مسؤوليتها "للسودان القديم" والجيش الذي أنشأ هذه القوات. هذا الطرح يختزل المأساة ويتجاهل حقيقة أن الدعم السريع اليوم، بقيادة حميدتي، صار كيانًا مستقلاً عن المركز المزعوم واختار طريق الحرب والنهب والإبادة الجماعية في دارفور والخرطوم. لا يمكن استخدام خطاب التهميش كتبرير لارتكاب الفظائع، لأنه في هذه الحالة يصبح سلاحًا في يد الجلاد نفسه، وليس وسيلة لتحقيق العدالة.
وفيما يتعلق بالمشروع السياسي الذي يطرحه الحلو، تبدو دعوته لتشكيل "حكومة موازية" في مناطق سيطرة قوات التحالف لا تسعى للتغيير الجذري بقدر ما تعمّق الانقسام. هذا المشروع يشبه إلى حد كبير نموذج الحركة الشعبية التي تفرض سلطة أمر واقع في كاودا على أنقاض الدولة، فتتحول المعركة من صراع من أجل الديمقراطية إلى مجرد تقاسم للنفوذ، حيث يغيب المواطن وتختفي مؤسسات الدولة، ويبقى السلاح هو الفيصل في النهاية.
ومما يزيد الأمور خطورة، تصريحات الحلو التي قال فيها إن الحرب "قد تصل إلى بورتسودان ومروي"، وهو ما لا يعكس تحليلًا سياسيًا موضوعيًا بقدر ما يشي برغبة في تعميم الخراب وتوسيع دائرة الصراع. هذه اللغة التصعيدية، حين تصدر من قائد سياسي، تهدد بقاء ما تبقى من أرواح المواطنين في المناطق الآمنة، كما أنها تكشف أن المشروع السياسي الذي يقوده لا يمثل أملًا في التحرر والمواطنة، بل أداة تهديد وانقسام. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه التصريحات سبقت بأشهر وصول المسيرات الاستراتيجية الإماراتية إلى بورتسودان، التي استهدفت البنية التحتية في المدينة، مما دفع مجلس الأمن والدفاع إلى إعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات.
وفي ظل هذا التناقض بين الخطاب والممارسة، جاء التقدّم العسكري للجيش في جنوب كردفان، والهزيمة التي مُني بها التحالف بين الحركة الشعبية والدعم السريع في معركة ود حليوة، ليكشف هشاشة هذا التحالف القائم على التقاء المصالح لا المبادئ. هذه الوقائع الميدانية لا تُضعف فقط الموقف العسكري للتحالف، بل تفضح أيضًا مأزقه الأخلاقي والسياسي.
المطلوب هو إعادة تشكيل المجال السياسي على أساس الحقوق لا الهويات
وفي المحصلة، في خضم السعي نحو سودان جديد، يُفترض أن ترتكز المشاريع السياسية على مبادئ واضحة لا تحتمل التأويل: العدالة، وحدة البلاد، وكرامة الإنسان. لكن حين تُبرم التحالفات مع جهات ارتكبت فظائع موثّقة، ويُقدَّم خطابٌ يُهوِّن من تلك الجرائم أو يبررها، فإن مشروع التغيير ذاته يصبح محل شك.
لذلك، فإن تصريحات الحلو، بعد توقيع ميثاق التحالف في نيروبي، لم تُطمئن الضحايا، بل أثارت أسئلة حقيقية حول اتجاه هذا المشروع وجدّيته في الانحياز لقيم الثورة والمحاسبة. لا يمكن بناء دولة عادلة على أسس متهافتة، ولا يمكن للسلام أن يُبنى على تنازلات تُغذّي دائرة الإفلات من العقاب.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

هل تحالف "صمود" قابل للإصلاح؟
بما أن تحالف "صمود" يرغب في سماع الآراء المخالفة، يجب عليه الوضع في الاعتبار أن الإصلاح، بالنسبة للقوى المدنية المنخرطة في البحث عن الحكم المدني والديمقراطية، يمكن أن يحدث إذا تحملت "عملية جراحية قاسية"، وقررت العودة إلى نقطة الصفر عند حدود ثورة ديسمبر، ومراجعة التحالفات التي ارتُكبت فيها أخطاء فادحة

الإسلاميون في السودان.. من الشعارات إلى واقع الانهيار
لم ينتظر الإسلاميون كثيرًا عقب سقوط نظامهم، فانخرطوا في معارضة السلطة الانتقالية التي ورثت كثيرًا من التحديات على عدة أصعدة؛ أبرزها تعدد الجيوش، والانهيار الاقتصادي، والديون الهائلة التي ظلت تتراكم، وملف العدالة

السودان.. هل يذهب نحو السيناريو الليبي؟
يعتقد كثيرٌ من السودانيين أن مآلات هذه الحرب ستشبه كثيرًا السيناريو الليبي، وأننا موعودون بنظامين يقسِّمان السودان شرقًا وغربًا؛ تكون فيه القوات المسلحة تحكم الجزء الشرقي، الذي يضم "الإقليم الشرقي والعاصمة الخرطوم ووسط السودان وبعضًا من إقليم كردفان"، بينما تتحكم مليشيا الدعم السريع في غرب السودان (ولايات دارفور وبعض من إقليم كردفان)، ويحدث وقف دائم لإطلاق النار، وتستمر الحياة هكذا.

13 إصابة بينها حالتا وفاة بضربات الشمس بولاية البحر الأحمر
كشفت اللجنة الفنية للطوارئ الصحية بوزارة الصحة ولاية البحر الأحمر، عن تسجيل 13 حالة إصابة بضربات الشمس، بينها حالتا وفاة بولاية البحر الأحمر.

سيول مفاجئة تتسبب بنزوح عشرات الأسر في شمال دارفور
أعلنت مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة أن السيول الناجمة عن أمطار غزيرة اجتاحت بلدة دار السلام في ولاية شمال دارفور خلال يومي 14 و15 تموز/يوليو الجاري

زيادة جديدة في الدولار الجمركي تحدث سخطًا في أوساط المستوردين بالسودان
قال متعاملون في التخليص الجمركي، إن الحكومة نفذت زيادة جديدة في التعرفة الجمركية الخاصة بعمليات الاستيراد، برفع القيمة من ألفي جنيه إلى 2400 جنيه اليوم الأربعاء.

الهلال والمريخ يعتذران عن خوض نهائي كأس السودان
أعلن ناديا الهلال والمريخ في بيان مشترك، أمس الثلاثاء، اعتذارهما عن خوض مباراة نهائي كأس السودان، المقررة في 26 تموز/ يوليو الجاري على ملعب بورتسودان، مبررين ذلك بجملة من التحديات التي رافقت مشاركتهما في البطولات خلال فترة الحرب.