فيلم الخرطوم الذي لن نشاهده أبدًا
18 مايو 2025
في شهر شباط/فبراير من العام قبل الماضي، كنت قد التزمت لقناة تلفزيونية أجنبية بكتابة قصة صحفية طويلة تتبع نشأة العاصمة الخرطوم، و"ترصد ما أمكن التغييرات التي طرأت عليها وساعدت على تكوين الهوية الخاصة لمدنها: أم درمان، بحري، الخرطوم". هكذا قالت وطلبت منتجة العمل؛ إذ كانت القناة تنوي تلفزة القصة لترويها في فيلم تلفزيوني.
لعدة أسابيع، جرت المشاورات بسلاسة بيني وبين المنتجة. كان ذلك قبل بدء الجنرالين حربهما "العبثية" في منتصف شهر نيسان/أبريل 2023. وهي حرب "عبيثة" بالتوصيف الأول لقائد الجيش نفسه، قبل أن تأخذ الاسماء المتعددة اللاحقة: تمرد، انقلاب، حرب كرامة، غزو خارجي. أو حرب "لاستعادة الديمقراطية وقيم الثورة" كما جرت عبارات مليشيا قوات الدعم السريع.
كان مسرح الحرب هو المسرح المقصود لتصوير الفيلم: العاصمة الخرطوم التي بنيت قبل نحو 200 سنة عند ملتقى النيلين، الأبيض والأزرق. وقد بنيت من أنقاض مدينة "سوبا"، العاصمة الممحوة لمملكة علوة المسيحية منذ 1405م.
في تلك الأيام من شهر شباط/فبراير وما قبله، لم تكن الخرطوم مدينة جميلة، وقد تعطلت فيها الخدمة المدنية العامة إلى حدود بعيدة، لقد غدت شاحبة ومتعبة
في تلك الأيام من شهر شباط/فبراير وما قبله، لم تكن الخرطوم مدينة جميلة، وقد تعطلت فيها الخدمة المدنية العامة إلى حدود بعيدة، لقد غدت شاحبة ومتعبة. وكذلك، لم تكن آمنة بالمستوى الذي تتطلبه حياة المدن والعواصم. كان أبطال المدينة هم أفراد العصابات التي نشطت في تهديد وترويع الناس وسلب مقتنياتهم في وضح النهار، وقد سجلت الآلاف غير المحصية من البلاغات لدى أقسام الشرطة.
كانت القناة التلفزيونية الأجنبية متحمسة لتصوير قصة الخرطوم لصالح فيلم وثائقي تقدمه على شاشتها، ربما جريا وراء النزعة إلى الأفلام الوثائقية التي اجتاحت عالم القنوات التلفزيونية في السنوات الماضية الأخيرة. ويبدو أن العالم أراد أن يرى حياته الماضية والحاضرة وهي مصورة بدلًا عن مكتوبة.
وربما أغرى القناة، أيضًا، الصيت الكبير الذي حصلت عليه الخرطوم من كونها موئلًا لثلاث ثورات سلمية في تاريخها، كان آخرها الثورة التي اندلعت في كانون الأول/ديسمبر 2018.
ترى، ما الذي يجعل هذه المدينة المحاطة بالنيل ورمال الصحراء مكانا لإنتاج الثورات؟ الإجابات تترى، لكنها غامضة. وبتعبير المعماري نوربيرغ شولز: "إنها عالم غير رحيم نوعًا ما، بالرغم من إنه يهب الإنسان حياة، فإنه يتركه كي يبدع فراغًا بوسعه أن يأوي إليه وينمي فيه قيم المجتمع والخصوصية"، هل نقول.. والثورة؟
جمعت الوثائق والكتب والمخطوطات اللازمة التي تعينني على إنجاز مهمة هذه الكتابة الخطرة الممتعة، وشرعت في رواية القصة بالكلمات لنحول تاريخ الخرطوم ليعاش متلفزًا. حددت الضيف المناسب لكل مدينة، واخترت، بحذر شديد، أماكن التصوير على الشوارع والأحياء القديمة جدًا، وكذلك الحديثة، والأكثر حداثة.
كانت المدينة في جو من الابتزاز الأمني والعسكري؛ فإلى جانب الشرطة والجيش وقوات الدعم السريع المعبأة تجاه المواطنين الثوار، كانت هناك الحركات المسلحة التي أظهرت نزعة سلطوية واحتلت جيوبًا من العاصمة في أعقاب التوقيع على اتفاقية سلام مع الحكومة "تشرين الأول/أكتوبر 2020"، وقد هددت هي الأخرى بالرجوع إلى الحرب، إذا لم تجد مرادها السياسي، "لتبدأ من الخرطوم هذه المرة"، وليست من دارفور وأطراف البلاد كما بدأت في أول أمرها.
لن يتمكن فيلم وثائقي محدود الساعات أن يروي تاريخ الخرطوم بشكل كاف، بيد أن التوثيق الجاد لا يتجاوز أبدًا التذكير بأن الخرطوم عامة بنيت في حقب تاريخية مختلفة
وفي ظلال هذا الجو من الانفلات الأمني والابتزاز كان علينا الاستعداد لنشرع في إنتاج الفيلم، وكنت انتظر الإشارة لذلك، مع الوضع في الاعتبار أن نعمل بحذر كي يتجنب الضيوف الاحتكاك بسلطة الانقلاب المتحفظة على تصوير الأماكن العامة.
إلى جانب الأماكن المختارة للتصوير، كان من بين الضيوف مختصين ومختصات في المتاحف والأرشفة الرسمية لذكريات هذه المدنية العملاقة. أما ضيوفي الأصلاء فقد كانوا من المواطنين الذين ولدوا وعاشوا حياتهم في هذا المكان المحترق بفعل الحرب.
لن يتمكن فيلم وثائقي محدود الساعات أن يروي تاريخ الخرطوم بشكل كاف، بيد أن التوثيق الجاد لا يتجاوز أبدًا التذكير بأن الخرطوم عامة بنيت في حقب تاريخية مختلفة، تشترك جميعها في أنها بنيت من خيال الحرب والاقتتال والنزاعات والخوف.
فمنذ نشأتها في عشرينات القرن الثامن عشر، عمد مؤسسها خورشيد باشا على بنائها بالقرب من مجرى النهر وملتقى النيلين حتى يتمكن من الإبحار سريعًا متى ما دعت الضرورة للمغادرة، وقد تبعه المديرين من بعده بحشد البواخر المناسبة لذلك، وحصنوها بسور طويل متعرج يحرسه الجنود، هو امتداد شارع الجيش الحالي "مكان ساحة الاعتصام 2019"، ليفصل بين سكن ودوواين قادة الدولة، وبين عموم السكان.
وحين شبت الثورة المهدية، 1881، لم تكن البواخر ولا التحصينات كافية لحماية المدينة، لقد انهارت في 1885 وقتل فيها من قتل بسيوف المهدويين، بمن فيهم الجنرال غردون باشا. وعبر فتوى دينية سرعان ما عاف الخليفة المهدوي عبد الله التعايشي المدينة التي بناها الأتراك، وحرّم السكنى فيها ووصفها "مدينة نجسة"، ثم مضى التعايشي ليؤسس مع محمد أحمد المهدي مدينة أم درمان باعتبارها "مدينة طاهرة".
بغض النظر عن طهارة أم درمان، إلا أنها بُنيت هي الأخرى في ظلال احتمالات الفرار برًا إلى غرب البلاد في حال تحرك الإنجليز للثأر لمقتل غردون
وبغض النظر عن طهارة أم درمان، إلا أنها بُنيت هي الأخرى في ظلال احتمالات الفرار برًا إلى غرب البلاد في حال تحرك الإنجليز للثأر لمقتل غردون. وفي نهاية الأمر، صدقت توقعات قادة المهدية بوقوع "معركة كرري" وانسحاب التعايشي إلى جنوب غرب البلاد ليموت هناك في "أم دبيكرات" بالنيل الأبيض.
وفي كل الأحوال، توزعت الأحياء السكنية الخرطوم طبقيًا، قربًا وابتعادًا بما يحاكي الموقف من الدولة ومن سياساتها. وفي نهاية الأمر، تركت مساحة للفيلم المقترح أن يكتشف هذه المخابئ والعلاقات الاجتماعية التي تشكلت بموجب ذلك.
الآن، علي أن أكابد مشاعر مؤلمة وأنا أتصور مقدار الألم الذي يضمخ حياة الناجين من أولئك الضيوف المختارين لبطولة الفيلم. لقد انقطعت بيننا الاتصالات ولم أعد أعرف أين هم الآن، ولا في أي عالم، باستثناء أحد الضيوف، مات بمرض الفشل الكلوي في أم درمان، وهو يرفض مغادرة مدينته التي ولد فيها بالعام 1945. سوى ذلك فإن قصة العاصمة الخرطوم وهويتها الخاصة كتبت مرة أخرى بالمدافع والمسيرات العسكرية، ولن تحيط بها آلاف الأفلام.
المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

بابنوسة: الحرب داخل الحرب
استوقفني خلال اليومين الماضيين عدد كبير من مقاطع الفيديو القصيرة المتداولة، عن المواجهات المسلحة العنيفة الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان.

هاجر.. موسيقية سودانية تدعو لإيقاف الحرب كل يوم منذ عامين
منذ أكثر من عامين، لا تتعب الدكتورة هاجر أبشر عميدة كلية الدراسات الموسيقية والمسرحية بجامعة شرق كردفان، من كتابة منشور واحد على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي الشهير "فيسبوك"، تكرره كل صباح، لمئات الأيام، المنشور يحتوي جملة من كلمتين فقط : "أوقفوا الحرب".

يا جمال النيل والخرطوم بالليل... مشاهد شخصية للعاصمة السودانية
حين أفكِّر بالخرطوم الآن؛ أبصرها بعين خيالي وأنا في البعيد، الخرطوم كما أحببتها ودسستها في قلبي، تبقى هي هي، موئلًا للمصادفات الجميلة، كما عبَّر عاطف خيري عن مدينةٍ أخرى لا تقل بأسًا عن الخرطوم.

السودان: الحل بالداخل.. لا بالهندسة الخارجية
ها نحن الآن، ومع أول تحرك لإدارة الرئيس ترامب بعد 5 أشهر من توليها السلطة، تعود الولايات المتحدة الأمريكية -بمشاركة السعودية والإمارات ومصر مع استبعاد بريطانيا هذه المرة- لإحياء ما يُعرف بـ"المجموعة الرباعية" في مسعى جديد لتحريك المياه الراكدة ووقف الحرب في السودان

شبكة أطباء السودان: مقتل طبيبة في قصف على مستشفى المجلد بغرب كردفان
قُتلت طبيبة سودانية تُدعى مودة رحمة الله، جراء قصف نفذته القوات المسلحة السودانية على مستشفى المجلد بولاية غرب كردفان، استهدف قوات تابعة للدعم السريع كانت متمركزة داخل المستشفى، بحسب ما أعلنت شبكة أطباء السودان.

الخارجية السودانية: نعتزم تقييم العلاقات مع الدول التي لا تدعم الشرعية
جددت وزارة الخارجية السودانية الاتهامات للتحالف المدني لقوى الثورة "صمود" بالعمل ضمن الذراع السياسي لقوات الدعم السريع

الجيش يدمر مركبات قتالية قُرب بابنوسة والدعم السريع يتوعد بـ"بركان الغضب"
قال مرصد "كردفان" الأحد 22 حزيران/يونيو 2025 إن مسيرات تابعة للجيش دمرت 13 عربة قتالية ومدفع 120 لقوات الدعم السريع حول مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان ضمن عمليات عسكرية جارية في المنطقة حاليًا.

حرب التسريبات.. حاكم إقليم دارفور يهدد باللجوء إلى الإعلام
نشر حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي ورئيس حركة تحرير السودان المسلحة المتحالفة مع الجيش في الحرب ضد قوات الدعم السريع، تغريدة على منصة (إكس) الأحد 22 حزيران/يونيو 2025 قائلًا، إن من يسربون محاضر الاجتماعات ويزورون الحقائق يفعلون ذلك لاغتيال الشخصيات.