11-مارس-2020

فندق جوبا (أرشيف السودان)

تعاني مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان حديثة الاستقلال من هجمة شرسة على المعالم التاريخية التي تمثل ذاكرتها وتحكي عن تجربة تطورها عبر الحقب المتلاحقة التي اعقبت انشائها وتأسيسها في عشرينات القرن المنصرم، وهي هجمة الاستثمارية غير مبررة ساهمت فيها حالة الفراغ وغياب القوانين بسبب الانتقال السياسي الذي شهدته البلاد بعد التوقيع على اتفاق السلام في العام 2005، فحتى الآن لا توجد قوانين تحمي المنشآت القديمة التاريخية والأثرية بالمدينة، كما أن الاهتمام بتغيير ملامح المدينة طغى على كل شيء تقريبًا، ولم تصمد أمامه إلا القليل من المعالم والمباني، فالعديد منها قد طالته تلك الهجمة، ومن بينها مبنى المديرية القديم في وسط المدينة، مستشفى جوبا التعليمي الحالي والذي كان مقرًا لحامية الجيش البريطاني في فترة الاستعمار، المكان الذي أقيم فيه مؤتمر جوبا 1947 وهو أحد الاستراحات القديمة التابعة لهيئة النقل النهري بحي (نيم) إلى جانب بعض المراكز التي كانت تتبع للجالية الإغريقية بجنوب السودان مثل مقر بنك بفلو الحالي ومقر شركة الخطوط الجوية السودانية المشيد من الحجر الرملي. جميعها مبانٍ عتيقة تحكي عن الزمن الجميل بسوق مدينة جوبا الكبير.

فندق جوبا منتصف القرن الماضي (أرشيف السودان)

من بين المعالم التي طالها التخريب بدواعي الاستثمار والتحديث، هو فندق جوبا العريق، الواقع عند واجهة المدينة من الناحية الشمالية على الطريق المؤدي لمطار جوبا، والذي أقيم في مواجهة مبني المديرية الرئيسي، وكان حينها يعتبر أرفع المكاتب الإدارية بالمديرية الاستوائية، فبعد أن تم هدمه بواسطة مجموعة شركات دريم المصرية بدواعي تحويله إلى فندق خمسة نجوم يحمل اسم فندق جوبا دريم، وذلك في أطار شراكة بينها وحكومة الولاية الاستوائية الوسطى، إلا أن المشروع تعطل هو الآخر دونما أي سبب واضح حتى الآن.

اقرأ/ي أيضًا: "البلايند ديت".. محاولات للتحليق في فضاءات حرة

ما تبقى من فندق جوبا الذي تم انشاؤه في العام 1936، هي بعض الأطلال والقليل من الصور المنتشرة في مواقع الأنترنت وخاصة أرشيف مكتبة الكونغرس الأمريكي، دونما أي معلومات تفصيلية عنه، فهو قد انشئ في عهد الإدارة الاستعمارية، ومن ثم تعاقبت عليه الحقب المختلفة، وظل يقف شاهدًا علي معظم التحولات الكبيرة التي شهدتها البلاد وجنوب السودان على وجه الخصوص، بطرازه الذي يعود إلى العصر الأليزابيثي في المعمار، ظل فندق جوبا هكذا إلى أن أطاحت به حمى التسارع التنموي مؤخرًا ليتم هدمه لصالح فندق آخر جديد، لتضيع بذلك أهم معالم البلاد التاريخية التي تحكي عن مدينة جوبا ضاربة الجذور.

سيرة الفندق تحكي في رواية غير مؤكدة عن أنه شهد زيارة قصيرة وسرية للملكة اليزابيث قبل تنصيبها ملكة حيث تم إجلاؤها من إحدى المستعمرات البريطانية الإفريقية في ثلاثينيات القرن المنصرم، كما تقول بعض الروايات إن إحدى غرف الفندق استخدمت كمخبأ للحاكم الإنجليزي للسودان إبان الحرب العالمية الثانية، ولا تزال الغرفة موجودة حتى الأن تحت ركام الفندق الذي تعرض كله للهدم والتكسير، فالمبني الذي قارب عمره 90 عامًا كان سيكون واحدًا من الرموز التاريخية للمدينة التي تحتاج إلى جهد توثيقي كبير للتعريف بها خاصة بعد أن أصبح جنوب السودان أحدث الأقطار المستقلة.

قالت مجموعة شركات دريم القابضة حينما ابتدرت مشروع فندق جوبا دريم الذي اختارت له موقع فندق جوبا العتيق دون سواه إنها تدرك بأن للفندق ذا قيمة تاريخية، لذلك فإنها ستعمل للحفاظ على المنطقة التاريخية حفاظًا عليها، كما وعدت الشركة بتجديد الفندق ليبدو كما كان عليه في تلك الفترة، لأنها تريد أن تجعل من تلك المنطقة متحفًا على النمط الفيكتوري، وسيكون المتحف مفتوحًا لجمهور المدينة ولكافة السياح الأجانب، لكن السؤال الذي يطرحه الجميع الآن هو لماذا لم تقم الشركة بترميم نفس البناية القديمة للفندق علمًا بأنها كانت محافظة على شكلها ولم يعتريها أي نوع من التصدع ولم ترد أي تقارير هندسية تشير إلى ضرورة إزالة المبنى القديم.

تم التصرف في الفندق بمشروع لا تساوي قيمته المدلول التاريخي الذي كان سيكون صلة جنوب السودان بالعالم الخارجي فالمبني كان عبارة عن تحفة معمارية أصبحت حاليا "أثرًا بعد عين"

يقول الأستاذ مصطفى بيونق، مدير عام وزارة الإعلام السابق بجنوب السودان: "فندق جوبا كان مقرًا للعمل السياسي بجنوب السودان في اعقاب توقيع اتفاقية أديس أبابا للسلام في العام 1972، ففيه تعرفت على الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور، وأذكر أنه كان يجلس لوحده يتناول كوبا من الشاي".

ويقول بيونق إن مدير فندق جوبا الراحل محمد سليمان الذي كان يتولى إدارته حتى العام 2005 فترة التوقيع على اتفاق السلام، رفض فكرة بيع الفندق باعتبار أنه يمثل تراثا ماديًا لجنوب السودان.

ويرى عددًا من المهتمين بالتراث والتاريخ بجنوب السودان، أن التخريب الذي تعرض له فندق جوبا باعتباره واحدًا من معالم المدينة العريقة هو أن المبنى كان يتبع لسلطات الولاية الاستوائية الوسطى، وأن الحكومة لم تقم بسن قانون يحدد المباني الأثرية والتاريخية التي تحتاج للحماية، لذلك تم التصرف فيه بمشروع لا تساوي قيمته المدلول التاريخي الذي كان سيكون صلة جنوب السودان بالعالم الخارجي فالمبني كان عبارة عن تحفة معمارية أصبحت حاليا "أثرًا بعد عين".

اقرأ/ي أيضًا

نعمة الباقر.. مسيرة صحفية سودانية تستحق الاحتفاء

القهوة السودانية "سيدة المزاج".. كيف يشرب السودانيون "الجبنة"؟