12-مارس-2020

الخرطوم في الخمسينات

ربما سيعثر أحدهم على الديوان مُلقىً على مفارش الورَّاقين الأرضيين في شوارع الخرطوم، ولو كان قارئًا للشعر فمن المؤكد سيقدح عنوان من مثل (اتكاءات على التأويل) حساسيته؛ ولربما برقت في عينيه صورة الغلاف ذي الألواح. وحينما يفتح الصفحة الأولى قد تأسره اللغة الدرية التي قدم بها صاحب الديوان شعره.

خروجه عن الأنساق الاجتماعية ووجوده بخانة (يسار اليسار) ، بالإضافة إلى تجنبه اعتلاء المنابر، جعل كثيرًا من النقاد والمهتمين بالأدب يتجاهلونه

 صدفةٌ ما قد تُفضي بالقارئ لمعرفة الشاعر الكبير عبد العزيز سيد أحمد، الذي ضنَّت علينا به الجهالةُ المقصودة - ربما - أو التجاهل، في بلد يحتفي بتخريب الذاكرة والنسيان الأليم لمُبدعيه.

اقرأ/ي أيضًا: نور الهدى و"دار عزة".. ثلاثة أولاد و579 كتابًا

قصائدُ مكتوبة مُنذُ نهاية الخمسينيات وحتى مطلع الثمانينيات، وبمقياس زمنها وأزمنة أخرى، تدلُّ على فصاحة شعرية خالدة، لا أقلَّ -بأي حالٍ- من الشعرياتِ التي ربَّتْ مخيلات الكتابة والقراءة الشعرية، من لدن محمد عبد الحي والنور عثمان أبكر وعبد الله شابو وعلي عبد القيوم إلى آخر الشعراء.

النسخة الوحيدة التي تحصل لعيها الكاتب من الديوان

يُفسِّر الشاعر بابكر الوسيلة غياب عبدالعزيز سيد أحمد، وأسماء أخرى جديرة بالقراءة والاحتفاء، من الذاكرة الشعرية لكُتَّاب وقُرَّاء الشعر اليوم، بأنَّ الشعر يصنع أقداره الغريبة أحيانًا، بأن تنتظر تجربة أمثالهم من الشعراء مَن يتنكب عناء معرفتها الحقَّة؛ لكن صديق سيد أحمد، الشاعر خالد الماحي، يعزو غياب الشاعر عن الذاكرة إلى أنه كان يساريًا خارجًا عن الأنساق الاجتماعية المتعارف عليها على الرغم من تفرد شعره وجمالياته.

ويقول عنه الشاعر والصحافي محمد نجيب محمد علي، إنه كان موسوعة من شتى ضروب المعرفة؛ نهل من التراث والفلسفة والتصوف وعلم الفلك بجانب أنه مهندس معماري. ويضيف: "معروف عن عبدالعزيز أنه من شعراء قصيدة التفعيلة ومجموعته (اتكاءة على التأويل)، تميزت بالعمق والثقافة والاستفادة من التراث والتاريخ".  ويعزو نجيب جهل كثير من قراء الشعر السوداني بسيد أحمد إلى أن فترة اغترابه الطويلة عن البلاد هي التي أبعدته عن الأضواء.

وُلِدَ الشاعر عام 1933 في جزيرة أرقو شمال السودان، وتلقَّى تعليمه في مدارس السودان وجامعاته، وأكمل ذلك في كلية الهندسة في جامعة صوفيا ببلغاريا؛ كما هو مذكورٌ في ديوانه، وتوفي في العام 2007، بعد معاناة طويلة مع المرض.

اقرأ/ي أيضًا: فضيلي جمّاع.. المشي على حبل الكتابةِ المشدود

بجانب الديوان الوحيد المنشور، فلسيد أحمد مسرحيتان منشورتان "محاكمة ابن رشد" و"الرسالة"، وله أغنية مشهورة تغنى بها الفنان محمد حسنين "سايق البوباي"؛ ومقالات عن التيجاني يوسف بشير منشورة في مجلات الخرطوم والثقافة السودانية والأيام والشارع السياسي.

عمل المهندس المعماري عبدالعزيز سيد أحمد مدرسًا لتاريخ الفنون بمعهد الموسيقى والمسرح في السبعينيات وتقاعد في بداية الثمانينيات متفرغًا للعمل الخاص.

يقول خالد الماحي عنه، إنه كان نسيج وحده، وعلى الرغم من تميز مبدعي زمنه أمثال صلاح أحمد إبراهيم وعبد الله شابو وجيلي عبد الرحمن وغيرهم من القامات، إلا أنه كان فريدًا ومتفردًا في شعره ومسرحه وغنائه، ومدهشًا في الصوفية العالية والعربية المحكمة في (اتكاءات على التأويل) ديوانه المُحكم، والعامية السهلة والسلسة في (سايق البوباي).

ويضيف الماحي: "تعرفت به لأول مرة في العام 1996 وسرعان ما نشأت صداقة بيني وبينه. كان ينتقي أصدقاءه ويطور علاقات الصداقة إلى علاقات مفاهيمية وثقافية".

كان سيد أحمد صديقًا شخصيًا لكل من جيلي عبدالرحمن وشابو وصلاح أحمد إبراهيم، وذا طابع يساري ومثقفًا موسوعيًا؛ لكن خروجه عن الأنساق الاجتماعية ووجوده بخانة (يسار اليسار) – كما يصفه الماحي - بالإضافة إلى عدم رغبته في اعتلاء المنابر، جعل كثيرًا من النقاد والمهتمين بالأدب يتجاهلون واحدًا من أميز الشخصيات الشعرية والثقافية التي مرت على السودان منذ الستينيات؛ فضلًا عن أنه كتب دراسات وافية عن مواضيع لم يكتب عنها الآخرون لكنها غير منشورة ولم يطلع عليها إلا القلائل.

قصائدُ مكتوبة مُنذُ نهاية الخمسينيات وحتى مطلع الثمانينيات، وبمقياس زمنها وأزمنة أخرى، تدلُّ على فصاحة شعرية خالدة

يقول محمد نجيب مستدعيًا ذكرياته مع الراحل: "أذكر أننا كنا نجتمع أيضًا في منزله بحي الطائف في جلسات مؤانسة شعرية قراءات وحوارات وعرفت في تلك الجلسات عمق الصداقة التي كانت تجمعه بالشاعر الراحل محمد المهدي مجذوب والشاعر عبدالله شابو والذي كتب عنه إحدى قصائده". ويضيف نجيب متداعيًا: جمعتنا أيام جليلة كنا لا نتفارق فيها  بدار نقابة الصحافيين بشارع المك نمر في 1987، أيام  اضرابنا عن العمل بصحيفة الجريدة في أول عهدها حين سعى صاحبها لفرض سياسة تحرير معينة.. جلساتنا كانت زاخرة بالشعر وأحاديث عن الفلسفة". 

ويضيف نجيب: عبدالعزيز رحمه الله كان ذكيا لماحًا وشاعرًا عاشقًا بطبعه. وكانت معنا زميلة صحفية تجالسنا، طرب قلبه بحضورها وحسنها فألهمته بكلمات غنائية  أذكر مما يقوله فيها: 

أنا عاشق الجمال من تال جزاير أرقو        

شغال ساقي لي كهنة معابد دلقو

مشغول بي جمالك شال وشالع برقو

والضاق التمودة يكونلو واضح فرقو.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخمريَّاتُ الحماماتُ النائحات

سلّم خماسي في "بيت العود العربي" بالخرطوم