ظاهرة التمليش في السودان.. بين الحرب والدولة
3 أكتوبر 2025
منذ عقود ظلّت ظاهرة التشكيلات المسلحة خارج الأطر النظامية جزءًا من المشهد السوداني، تتكاثر وتتحوّل وفق الأوضاع السياسية والعسكرية. ومع اندلاع الحرب الحالية في 15 نيسان/أبريل 2023 بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، انتعشت بصورة أوضح ظاهرة ما يُعرف بـ"المليشيات"، حيث نشأت تشكيلات جديدة مساندة لطرفي النزاع وتوسّعت بشكل لافت.
هذه الظاهرة ليست جديدة على تاريخ السودان، لكنها اليوم تحمل أبعادًا أكثر خطورة، إذ تتقاطع مع أسئلة بقاء الدولة نفسها، وحدود سلطة المؤسسات الرسمية، خصوصًا بعد أن أصدر رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 17 آب/أغسطس 2025، قرارًا يقضي بإخضاع جميع القوات المساندة العاملة مع القوات المسلحة لقانون القوات المسلحة لسنة 2007 وتعديلاته.
تُفهم "المليشيا" عادةً على أنها قوات مسلحة منظمة تكون طرفًا في نزاع، لكنها ليست جزءًا من القوات المسلحة النظامية
في إطار القانون الدولي الإنساني تُفهم "المليشيا" عادةً على أنها قوات مسلحة منظمة تكون طرفًا في نزاع، لكنها ليست جزءًا من القوات المسلحة النظامية؛ أي أنها مجموعات مسلحة غير نظامية تنشط كطرف فاعل في الصراع، لكن خارج البنية العسكرية الرسمية.
فالتمليش في السودان له جذورٌ متعددة، تتضمن سياسات أمنية اعتمدت على تسليح مجموعات محلية لحماية حدود وممرات مصالح سياسية استغلت الشبكات القبلية، واقتصاديات مبنية على السيطرة على موارد محلية.
وفي هذا المسار برزت سابقًا مجموعات مثل "الجنجويد" التي ارتبطت في وقت لاحق ببنية "قوات الدعم السريع". ولادة هذه القوى لم تكن محض صدفة؛ بل نتيجة قرارات سياسية وأمنية سمحت بظهور قادة مسلحين اكتسبوا موارد ونفوذًا مستقلين.
الحرب الحالية في السودان كانت بيئة ملائمة لتكاثر "المليشيات" الوليدة: انهيار مؤقت لوجود أجهزة الأمن في مساحات واسعة، سهولة الوصول إلى أسلحة متوسطة ومتقدمة، وفراغ حكم أدّى إلى نشوء زعامات محلية تقدم نفسها بوصفها "حماية" أو "قوة ردع".
مجموعات جديدة
في هذا الصدد، يقول الصحفي السوداني مهادن الزعيم في إفادة لـ"الترا سودان" إن "ظاهرة التمليش يمكن القول إنها بدأت قبل الاستقلال في عام 1955 مع تمرد كتيبة توريت، التي تحولت لاحقًا إلى حركة الأنانيا الأولى. لكن انفجار التمليش كثقافة واسعة بدأ فعليًا في نهاية التسعينيات وبداية الألفينات مع قيام حركات دارفور وانقساماتها المتعددة، حتى وصل الأمر إلى وجود أكثر من عشرين مليشيا تحمل الاسم نفسه".
ويضيف أن "الانفجار الأكبر للتمليش في كافة أنحاء السودان بدأ في 15 نيسان/أبريل 2023، مع اندلاع الحرب الحالية، حيث تشكّلت 53 مليشيا جديدة و17 منشقة من أخرى، ليصبح العدد الكلي بعد الحرب 70 مليشيا".
ويشير الزعيم إلى أن "أبرز المليشيات بعد الحرب هي تلك المرتبطة بالحركة الإسلامية، والتي بلغ عددها 27 مليشيا، من بينها: البراء بن مالك، الفتح المبين، القعقاع، خالد بن الوليد، أنصار الله، جنود الحق، الفرقان، وغيرها".
مهادن الزعيم: جميع المليشيات، سواء كانت إلى جانب الجيش أو ضده، تأسست على سردية واحدة مفادها: (نريد أن ندافع عن أهلنا وننتزع حقوقنا)
ويوضح أن "جميع المليشيات، سواء كانت إلى جانب الجيش أو ضده، تأسست على سردية واحدة مفادها: (نريد أن ندافع عن أهلنا وننتزع حقوقنا). غير أن معظم التمويل اعتمد على البعد القبلي، من خلال تخويف أفراد القبيلة من قبائل أخرى تملك مليشيات وسلاح، باستثناء مليشيات الحركة الإسلامية التي تميزت ببنية مختلفة".
ويتابع بالقول إن "الدوافع الأولى للتمليش كانت عاطفية، من خلال الشحن الزائد واستثارة الروح القبلية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى بحث عن المناصب لقادة المليشيات والمقربين منهم فقط، على حساب تطلعات البسطاء الذين دعموا هذه التشكيلات. وما حدث في دارفور مثال واضح؛ حيث أُبرمت اتفاقيات متكررة (أبوجا، أبشي، الدوحة، جوبا)، لكن النتيجة كانت ثابتة: حصول قادة المليشيات على مناصب وزارية بينما يظل أهلنا نازحين في معسكرات كلمة، وعطاش، وزمزم، وغيرها".
ويختم مهادن الزعيم إفادته بالإشارة إلى أن "عدد المليشيات التي تكوّنت بعد الحرب بلغ 70 مليشيا، فيما يبلغ عدد المليشيات النشطة حاليًا 99 مليشيا تقاتل مع الطرفين، نصفها فقط نشأ تحت رعاية الدولة"، حسب تعبيره.
بديل للأحزاب
من جانبه، يقول الباحث السياسي عمير محمد زين في حديث لـ"الترا سودان" إن "تكاثر المليشيات في السودان وتعددها جاء نتيجة حاجة الأطراف المتنازعة إلى حشد المجتمعات خلفها؛ فقد استوعبت قوات الدعم السريع مجموعات مسلحة عديدة، فيما تجندت مجتمعات أخرى على أسس جهوية وقبلية تحت راية الجيش درءًا لخطر الدعم السريع. هذا الواقع يثير تساؤلات حول الدولة السودانية نفسها، فالدولة في أبسط تعريفاتها هي الجهاز الذي يحتكر العنف الشرعي".
ويضيف أن "المليشيات والمجموعات المسلحة أصبحت بديلًا للأحزاب السياسية، فهي لافتات مسلحة تحمل عناوين سياسية واضحة، فهناك مليشيات تدّعي تمثيل الوسط، وأخرى تدّعي تمثيل الشرق، بالإضافة إلى مليشيات الحركات الدارفورية المسلحة المنضوية تحت إطار القوة المشتركة، والتي كان من المفترض أن تخضع لآليات الدمج والتسريح وفق اتفاق جوبا للسلام".
عمير محمد زين: الخطر الأبرز لهذه المجموعات يتجلى في استقلاليتها، وممارستها للعنف حتى خلف خطوط الصراع، وطبيعتها الجهوية والقبلية
ويشير زين إلى أن "الخطر الأبرز لهذه المجموعات يتجلى في استقلاليتها، وممارستها للعنف حتى خلف خطوط الصراع، وطبيعتها الجهوية والقبلية. والإشكال الأكبر أن أي خلاف بين هذه المجموعات أو بينها وبين قيادة الجيش قد يُحسم بقوة السلاح، الأمر الذي يهدد بتكرار تجربة قوات الدعم السريع على نطاقات صغرى."
ويختتم بالقول إن "حرب 15 نيسان/أبريل بدت في ظاهرها محاولة لحسم مشكلة تعدد حاملي السلاح، لكنها أفضت عمليًا إلى تفاقمها، إذ بدأت بين طرفين وأصبحت الآن حربًا متعددة الأطراف. هذه الإشكالية وغيرها من إفرازات الحرب لن تجد حلًا إلا عبر تسوية سياسية شاملة تتضمن الجميع، مقرونة بمصالحة وطنية، والاتفاق على آليات لعبة سياسية سلمية وديمقراطية".
المحصلة
رغم مرور عامين ونصف على اندلاع الحرب الحالية، تظل ظاهرة ما يُعرف بـ"المليشيات" جزءًا مركزيًا من المشهد السوداني، معقدة ومتجذرة على المستويين الاجتماعي والسياسي. فالمشكلة لا تتوقف عند خطوط القتال، بل تمتد إلى قدرة الدولة على فرض القانون، وحماية المدنيين، وبناء نظام سياسي مستقر.
وبينما تحاول القرارات الرسمية ضبط انتشار التشكيلات المسلحة، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للسودان إعادة رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع بحيث تتحول "المليشيات" من خطر مستمر إلى عناصر مساهمة في السلام والاستقرار؟
الكلمات المفتاحية

تصاعد القتال في بابنوسة وزيارة أممية تبحث حماية وإغاثة المدنيين
يشهد السودان تحولًا في المسار الإنساني بالتزامن مع تصاعد الهجمات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع في إقليم كردفان، بينما يبحث أرفع مسؤول بالأمم المتحدة، الذي وصل البلاد قادمًا من نيويورك، مساري حماية المدنيين خلال النزاع المسلح إلى جانب إيصال المساعدات الإنسانية إلى المتأثرين بالحرب.

هل تُفسر تصريحات وزير الخارجية الأميركي ضمن الرسائل الساخنة إلى حميدتي؟
لم تكن تصريحات وزير الخارجية الأميركي، على هامش قمة الدول الصناعية الكبرى في كندا مساء الأربعاء 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، مجرد حديثٍ عابر، بل يضعها مراقبون دبلوماسيون وسياسيون ضمن خانة "الرسائل شديدة اللهجة" إلى قوات الدعم السريع والحلفاء الإقليميين، للتوقف عن إشعال الصراع المسلح في السودان.

بابنوسة في مرمى النيران.. هل تتجه نحو مصير الفاشر؟
عادت مدينة بابنوسة إلى الواجهة بعد هدوء استمر لأشهر، لتصبح بؤرة ساخنة في الحرب السودانية. وتصدّرت المشهد الحربي في غرب كردفان، عقب هجوم قوات الدعم السريع على مواقع الجيش في المدينة من عدة محاور.

بين المخاوف والآمال.. انقسام سوداني حول هدنة الرباعية الدولية؟
منذ إعلان دول الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، الدفع بمقترحات لهدنة إنسانية بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2025، وتسليم الجانبين المسودة المتعلقة بوقف إطلاق النار للأغراض الإنسانية، يتصدر الشبكات الاجتماعية جدل واسع بين السودانيين حول جدوى الهدنة.

التعليم العالي تعيد خدمات التقديم والتوثيق إلى مقرها الرئيس بالخرطوم
أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، اليوم الأحد 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، عودة جميع خدمات التقديم الإلكتروني وتوثيق الشهادات إلى المقر الرئيس للإدارة العامة للقبول بشارع الجمهورية في الخرطوم

الجيش السوداني يدعو دول الإقليم إلى منع تدفّق الأسلحة للدعم السريع
دعا الجيش السوداني دول الإقليم إلى تحمّل مسؤولياتها ومنع تدفّق الأسلحة إلى الميليشيات والمجموعات غير الشرعية، محذّرًا من أن هذا الاتجاه يشكّل خطرًا على دول المنطقة.

سلوى بنية: الدعم السريع لم تلتزم بقرار رفع الحصار عن المدن
أكدت مفوضية العون الإنساني في السودان، اليوم الأحد 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أن قوات الدعم السريع لم تلتزم بقرار رفع الحصار عن المدن.

المبعوث الأفريقي للإبادة الجماعية يصل البلاد لإجراء مباحثات رسمية
يبدأ مبعوث الاتحاد الأفريقي لمنع الإبادة الجماعية، السيد أداما دينق، زيارة رسمية للبلاد تستمر أربعة أيام، يلتقي خلالها عددًا من المسؤولين في وزارات الخارجية والعدل والشؤون الدينية، إلى جانب النائب العام.
