سيطرة الجيش على القصر الجمهوري.. دلالات سياسية ومرحلة جديدة
21 مارس 2025
بعد قرابة العامين من المعارك الدامية التي مزقت العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات، أعلن الجيش السوداني استعادة السيطرة على القصر الجمهوري، أحد أهم الرموز السيادية في البلاد.
هذه الخطوة تأتي في ظل صراع محتدم بين القوات المسلحة والدعم السريع، إذ يمثل القصر الجمهوري نقطة استراتيجية لها أبعاد رمزية وسياسية وعسكرية عميقة في المشهد السوداني.
عمر أرباب: أهمية القصر الجمهوري لا تُقاس فقط من منظور عسكري بل أيضًا من زاوية جيوسياسية حيث تؤثر السيطرة عليه في توازن القوى وترسل إشارات قوية لكل الأطراف
وفي بيان رسمي وصف الجيش أن السيطرة على القصر الجمهوري ومناطق حيوية وسط الخرطوم بـ"الملحمة البطولية الخالدة". وأكد البيان أن القوات المسلحة تمكنت من تدمير الدعم السريع بشكل كامل في هذه المناطق، والاستيلاء على كميات كبيرة من أسلحتها ومعداتها.
من جهته، صرح قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان من موقع زيارته للقوات المسلحة بمدينة الكاملين في ولاية الجزيرة عن أنهم "ماضون في القتال، وقواتنا لن تتوقف في هذه المعركة حتى استكمال التحرير" بحسب وصفه.
وفي المقابل، ردت الدعم السريع بشن هجوم بطائرة مسيّرة انتحارية استهدفت القصر الجمهوري بعد وقت قصير من إعلان الجيش السيطرة عليه. وأسفر الهجوم عن مقتل عدد من الضباط، بينهم مسؤولون في الإعلام العسكري. كما قُتل 4 من أفراد تلفزيون السودان الذين وصلوا إلى القصر لتغطية الحدث، في حادثة تظهر مدى المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون في ظل الحرب.
وفي السياق، أثار إعلان الجيش استعادة القصر الجمهوري ردود فعل واسعة بين المراقبين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر البعض أن الحدث يمثل "لحظة فارقة" في الحرب، بينما حذر آخرون من أن السيطرة الميدانية قد لا تكون حاسمة في ظل استمرار القتال والقصف المتبادل.
على المنصات الرقمية، انتشرت التهاني والإشادات بالقوات المسلحة، في حين أبدى آخرون قلقهم بشأن تداعيات التصعيد العسكري على المدنيين وإمكانية فتح الباب أمام مزيد من العنف في الخرطوم.
الجدير بالذكر، في 16 آذار/مارس 2025، تعهد قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، في تسجيل مصور بمواصلة القتال رغم الخسائر التي تكبدتها قواته مؤخرًا في الخرطوم وولاية الجزيرة. وأكد أن الدعم السريع لن تنسحب من القصر الجمهوري أو العاصمة.
ويُنظر إلى هذا التطور على أنه أحد أهم التحولات في موازين القوى داخل العاصمة، لكنه في الوقت نفسه يثير العديد من التساؤلات حول تداعياته السياسية على مستقبل الحرب: هل يمثل استعادة القصر الجمهوري تقدمًا استراتيجيًا قد يحسم المعركة لصالح الجيش، أم أنه مجرد انتصار ميداني في حرب لا تزال معقدة؟ وما تأثيره على مستقبل الصراع ؟ وغيرها من الأسئلة الملحة.
القصر الجمهوري في معادلة الحرب
يرى العديد من المراقبين أن القصر الجمهوري لم يكن مجرد مقر حكومي تعرض للسيطرة والتنازع بين الجيش والدعم السريع، بل كان ولا يزال رمزًا للسلطة والسيادة في السودان. منذ اندلاع الحرب في منتصف نيسان/أبريل 2023، كان هذا المعلم التاريخي واحدًا من أهم النقاط الاستراتيجية التي سعت الأطراف المتحاربة للسيطرة عليها، نظرًا لما يمثله من ثقل سياسي وعسكري.
ومنذ الساعات الأولى من صبيحة يوم 15 نيسان/أبريل 2023 سيطرت الدعم السريع على القصر الجمهوري وكامل منطقة الخرطوم المركزية، رغم استبسال مقاتلي الحرس الرئاسي وتضحياتهم الكبيرة آنذاك التي توجت بحماية رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان من الوقوع في أيادي قوات حميدتي، الذي صرح لوسائل الإعلام بأنه يقف على بعد أمتار من البرهان ويحاصره، وعليه أن يسلم نفسه.
ومن خلال المتابعة والرصد للتحركات العسكرية للجيش السوداني منذ انفتاحه من سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة العسكرية بالخرطوم وتقدمه باتجاه وسط العاصمة، استخدم الجيش تكتيكات قتالية مختلفة، مستفيدًا من الغارات الجوية المكثفة والتقدم البري المنظم، التي أدت إلى التحامه مع قوات القيادة العامة للجيش في 17 آذار/مارس الجاري معلنة بذلك حصار قوات الدعم السريع في وسط الخرطوم.
وفي محور القيادة العامة بعد فك حصارها بالتقاء متحركات بحري وأم درمان مع قوات الجيش التي ظلت موجودة داخل القيادة العامة في 24 كانون الثاني/يناير 2025، مما مهد الطريق للانقضاض على القصر الجمهوري وكامل منطقة الخرطوم المركزية التي تحوي عددًا من الوزارات والمؤسسات الحكومية.
من جهة آخرى، لم تكن استعادة القصر الجمهوري ممكنة دون تحولات جوهرية في الإمدادات والقدرات اللوجستية للجيش السوداني. على مدى الأشهر الماضية، حصل الجيش على تعزيزات عسكرية مكثفة، سواء من خلال إعادة هيكلة خطوط الإمداد الداخلية بفك الحصار، أو عبر حصوله على أسلحة ومسيرات استراتيجية ساعدت في تحسين قدراته القتالية. إضافة إلى تعزيزات بشرية أعادت تنظيم الجبهات القتالية في الخرطوم. كما استفاد الجيش من إعادة الانتشار التكتيكي لقواته، مما مكنه من الضغط على مواقع الدعم السريع وإجبارها على التراجع في عدة محاور رئيسية.
في المقابل، واجهت الدعم السريع وضعًا ميدانيًا معقدًا مع استمرار المعارك. بعد ما يقارب العامين من القتال المستمر، أصبحت القوة تعاني من استنزاف كبير في الموارد البشرية، حيث تواجه صعوبة في تعويض خسائرها بسبب طول أمد الحرب وفقدانها لتكتيك الفزع الذي تم إبطاله باستراتيجية "العزل والتطويق" التي اتبعها الجيش السوداني.
إلى جانب ذلك، أدى تراجع خطوط إمداد الدعم السريع إلى نقص واضح في الذخائر والوقود، ما أثر على قدرتها على الاحتفاظ بالمواقع التي كانت تسيطر عليها. كما أن الضغوط العسكرية المتزايدة دفعت بعض الوحدات التابعة لها إلى "الانسحاب" أو "الهزيمة" في مناطق حاكمة كانت تعد معاقل رئيسية لها داخل العاصمة، مما أسهم في تغيير ميزان القوى لصالح الجيش في هذه المرحلة من الصراع.
إعادة السيطرة على القصر الجمهوري تضع الجيش في موقف أقوى على الأرض، لكنها تطرح أيضًا تساؤلات حول الخطوة التالية: هل ستكون هذه نقطة انطلاق لمزيد من التقدم العسكري أم أنها مجرد محطة مؤقتة في حرب طويلة الأمد؟
أهمية رمزية ودلالة سياسية
رغم أن القصر الجمهوري لا يشكل موقعًا عسكريًا حاسمًا في المعارك، إلا أن استعادته تحمل دلالات استراتيجية وسياسية كبيرة، وفق ما يرى المحلل السياسي عمر أرباب في حديثه لـ"الترا سودان"، فمنذ تأسيسه عام 1826، ظل القصر نقطة فارقة في التحولات السياسية بالسودان، حيث شكلت السيطرة عليه لحظة حاسمة في تغيير الأنظمة عبر التاريخ.
ويشير أرباب إلى أن استلام القصر كان بداية لعهد الدولة المهدية بعد مقتل غوردون، كما أنه مثّل انطلاقة استقلال السودان عند رفع العلم على ساريته لأول مرة. لذلك، فإن السيطرة على القصر اليوم، رغم اختلاف السياقات، تحمل بعدًا معنويًا كبيرًا للقوات المسلحة، إذ يعد القصر رمزًا للسيادة "ويضم إرثًا تاريخيًا وثقافيًا، من مكتبة ومتحف يوثقان مسيرة الدولة السودانية."
ويضيف أرباب أن "أهمية القصر الجمهوري لا تُقاس فقط من منظور عسكري" بل أيضًا من زاوية "جيوسياسية"، حيث تؤثر السيطرة عليه في توازن القوى وترسل إشارات قوية لكل الأطراف.
ويرى أن هذا الحدث "سيمثل نقطة تحول في المشهد السياسي والعسكري،" وقد تكون له تداعيات بعيدة المدى على مسار الحرب الدائرة في السودان.
ومن جانبه، يرى الكاتب عبد الحليم العباس عبر صفحته في فيسبوك أن التفاعل مع استعادة القصر الجمهوري جاء بسبب رمزيته، رغم أن الجيش حقق انتصارات عسكرية أكثر أهمية، مثل ربط المهندسين بوادي سيدنا، وتحرير جبل مويه، وعبور الجسور نحو الخرطوم وبحري، إلى جانب فك الحصار عن القيادة العامة واستعادة مدينة ود مدني. هذه الانتصارات كانت مفصلية في تغيير مسار المعركة، بينما كان سقوط القصر الجمهوري نتيجة طبيعية للتقدم العسكري.
كما يصف العباس استعادة القصر الجمهوري بأنها أشبه بلحظة تتويج للجيش، بينما كان النصر الفعلي قد تحقق في معارك أخرى سابقة. وبالرغم من محاولة الدعم السريع التشبث بالموقع وإضفاء طابع التحدي على المعركة بسبب خطاب حميدتي، إلا أن الواقع الميداني كان قد حُسم لصالح الجيش قبل ذلك. في النهاية، يمكن اعتباره محطة أخيرة لانتصارات متراكمة، ومعركة انتهت قبل أن تبدأ.
تداعيات مستقبل الصراع
في هذا الصدد يرى الكاتب والباحث محمد الأمير في إفادة لـ"الترا سودان" أن استعادة الجيش للقصر الجمهوري تشكل خطوة كبيرة نحو استعادة السيطرة على الخرطوم بالكامل، مشيرًا إلى أن التقدم العسكري الذي أحرزه الجيش قد يغير خريطة السيطرة في السودان بشكل واسع خلال الفترة المقبلة.
وفيما يتعلق بإمكانية التفاوض بين الأطراف المتحاربة في ظل توازنات القوى الحالية، يؤكد الأمير أن المفاوضات مع من وصفهم بـ"الكيزان" لم تكن مجدية سابقًا وأن الانفصال جيد بالنسبة لهم، لكنه يرى أن السودان يمر حاليًا بمرحلة جديدة من إعادة التمركز الجغرافي للقوى المتصارعة.
ويعتقد أن الجيش "سيتمكن من بسط سيطرته على الخرطوم، والجزيرة، والنيل الأبيض، وجزء من كردفان، بينما قد تسيطر الدعم السريع على كادقلي، والنيل الأزرق، والفاشر. كما يتوقع أن تعلن الدعم السريع حكومة بديلة تتخذ من كاودا مقرًا لها بدلًا من القصر الجمهوري في الخرطوم." بحد وصفه.
ويضيف الأمير أن السودان وصل إلى مرحلة "الانفصال الوجداني"، حيث بات من الصعب توحيد رؤى القوى المتحاربة بسبب تصاعد خطاب الكراهية بين الأطراف المختلفة.
أما فيما يتعلق بموقف المجتمع الدولي، فيرى أن استعادة الجيش لرمز السيادة الوطنية، المتمثل في القصر الجمهوري، قد تعزز الاعتراف الدولي به تدريجيًا، خاصة إذا قرر رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، إدارة الدولة من القصر الجمهوري، بينما يقود الجيش عملياته من القيادة العامة. كما يشير إلى أن سيطرة الجيش على المعابر الحدودية والمجال الجوي قد تعزز من استعادة الدولة لأجهزتها ومؤسساتها، مما قد ينعكس على المواقف الدولية تجاه الأزمة السودانية.
محمد الأمير: استعادة الجيش لرمز السيادة الوطنية المتمثل في القصر الجمهوري قد تعزز الاعتراف الدولي به تدريجيًا
وفي المحصلة، يشكل استعادة الجيش السوداني للقصر الجمهوري محطة فارقة في مسار الصراع المستمر منذ قرابة عامين، ليس فقط لرمزيته السياسية والتاريخية، ولكن أيضًا لتداعياته المحتملة على خارطة السيطرة العسكرية ومستقبل البلاد.
وبينما يرى البعض أن هذا التقدم قد يعزز موقف الجيش في إدارة الدولة، يعتقد آخرون أنه قد يؤدي إلى تصعيد جديد في المواجهات، خاصة مع تعقد الأوضاع الميدانية واستمرار حالة الاستقطاب السياسي. ومع تغير موازين القوى على الأرض، يبقى السؤال الأهم: هل سيكون هذا الحدث خطوة نحو الحسم العسكري، أم أنه سيدفع الأطراف المتصارعة إلى طاولة التفاوض؟
الكلمات المفتاحية

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان
مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟
تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي يلوح في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة
على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.

عامان من القتال: المجازر الكبرى والصغرى في حرب السودان
مع اختتام العام الثاني للحرب في السودان، ودخول العام الثالث، شهدت مناطق واسعة من ولاية شمال دارفور مجازر عنيفة ارتكبتها قوات الدعم السريع، التي تسعى لفرض سيطرتها على الإقليم المنكوب بالحروب والمجاعات، في ظل فساد الساسة والقادة.

بعد عامين من الحرب... إلى أين يتجه المشهد العسكري في السودان؟
تدخل حرب السودان عامها الثالث، وسط توقعات باشتداد وتيرة العمليات العسكرية في غرب البلاد وجنوبها، مع انخفاضها في الوسط، مما يؤكد استمرارها، لا سيما في ظل عدم وجود حل سلمي يلوح في الأفق لإيقاف القتال الذي خلف آلاف القتلى وشرد ملايين النازحين واللاجئين.

السودان… أزمة إنسانية واقتصادية على أعتاب حرب ثالثة
على أعتاب العام الثالث من حرب السودان تتنامى التحذيرات من موجات نزوح جديدة، وتفشي المجاعة في مناطق أكثر هشاشة بإقليم دارفور وكردفان، مع احتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال الشهر الماضي.

لاجئون سودانيون يبدأون رحلات شاقة لمغادرة مصر إلى بلادهم
مع عودة آلاف اللاجئين السودانيين من المدن المصرية تشهد المعابر حركة واسعة للحافلات وفق متابعة متطوعين في غرف الطوارئ بالولاية الشمالية، بينما رجح عاملون في تنسيق هذه الرحلات عودة نصف مليون لاجئ سوداني خلال هذا العام من مصر إلى بلدهم إثر سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم، وعودة الحياة بشكل متدرج.