27-مارس-2020

الاعتقاد بكرامات الأولياء والتبرك بالأضرحة من الممارسات الشائعة في السودان

مع استباحة فيروس كورونا المستحدث جميع أنحاء المعمورة، بالصورة المرعبة والمخيفة التي نراها يوميًا على وسائل الإعلام وفي بلداننا ومجتمعاتنا الصغيرة، يشعر المزيد والمزيد من الناس بالكثير من الضغط النفسي والقلق الشديد، خصوصًا أن الفيروس أخذ العالم على حين غرة، فلم يكن أحد ولا حتى أعظم الدول وأغناها، على استعداد لمجابهته.

يغلب التفكير السحري في أوقات الكوارث العظيمة منذ الأزل، فالطقوس غير العقلانية والاعتقاد بوجود قوة خفية خلف الأشياء هو السبيل الوحيد للتعامل مع ما لا يمكن الإحاطة به أو استيعابه

هز كورونا العالم كله وأفقد الناس إحساسهم بتحكمهم في مصائرهم وقدرتهم على مجابهة الصعاب. انهارت أنظمة صحية وفقد الآلاف حيواتهم، وما زالت الكارثة واسعة النطاق تعد بالمزيد.

اقرأ/ي أيضًا لغز الفراعنة السود.. حكايات شارلي بونيه تحت رمال السودان

ما كان لأحد أن يتوقع شيئًا من هذا القبيل. ظهر كورونا بعدائيته الشديدة وقدرته على الانتقال السريع بين الناس -كائنًا مجهريًا من عوالم الكوابيس، ومع الإحساس بعدم القدرة على التحكم بالكارثة أو حتى استيعاب جميع أبعادها ومظاهر الواقع الجحيمي غير المعتاد الذي تسببت به الجائحة، لا يجد كثير من الناس قشة يتعلقون بها سوى التفكير السحري، عله يرجع ولو حتى بصورة مزيفة إحساسهم بالأمان والقدرة على مجابهة الكارثة.

في حالات مماثلة خط الدفاع النفسي الأول هو الإنكار، ولكن ومنذ بداية انتشار الجائحة بتسارعها الرهيب على مستوى العالم بالإضافة للتغطية الإعلامية على مدار الساعة، لم يكن بالإمكان إنكار وجودها أو التقليل من درجة خطورتها، على الرغم من محاولات البعض والتي باءت بالفشل أمام الحقيقة ذاتية الإثبات لواقع كورونا المرير.

الكارثة التي تسبب بها المرض في إيطاليا المكلومة حسمت المسألة تمامًا ولم يعد هنالك أي مجال للإنكار. فانتقل الناس بعدها للخط الدفاعي الثاني الذي يجيدونه في مثل هذه الحالات، ألا وهو التفكير السحري، فبدأت تنتشر هنا وهناك الأفكار غير العقلانية والمعلومات الكاذبة المغلوطة. فظهر مدعي المهدية في الاسكندرية، وانتشرت معلومات مغلوطة تضع قدرات شفائية عجائبية في أعشاب تقليدية ومشروبات عادية ومستحدثة، لا يوجد أي دليل على فعاليتها ضد المرض، بل وتتعارض مع الفهم العلمي لطبيعة وخصائص العدوى والمناعة والعلاج.

في السودان، ومع تزايد المخاوف وقلق الجماهير بسبب الخطر المحدق، ها نحن نرى إشاعة تنتشر مثل النار في الهشيم عن الصبي المتكلم في المهد، والذي ينصح بشرب الشاي المر بدون تحليته، والإضافة الأخيرة هذه ليست لازم فائدة، بل وضعت بدقة لتمنح الكذبة مزيدًا من المصداقية وتضفي تعقيدًا على الأسطورة،  يشغل الذهن عن لا-عقلانيتها الفجة وتعطي المعتقدين بصحتها والمتعلقين بقشتها فرصة للحجاج والمجادلة.

اقرأ/ي أيضًا: القهوة السودانية "سيدة المزاج".. كيف يشرب السودانيون "الجبنة"؟

هذه الظاهرة ليست جديدة أو خاصة بكورونا، حيث ينتشر التفكير السحري في أوقات الكوارث العظيمة منذ الأزل، فالطقوس غير العقلانية والاعتقاد بوجود قوة خفية خلف الأشياء هو السبيل الوحيد للتعامل مع ما لا يمكن الإحاطة به أو استيعابه. كان المجهول على مر التاريخ البشري هو الرعب الحقيقي للإنسان، وبسببه ولأجله نملك في إرثنا الإنساني هذا الكم المهول من الطقوس والاعتقادات البسيطة والمعقدة، وغير العقلانية في آخر المطاف. ويعمل العلم الحديث على دحضها وتمحيصها في كل تو ولحظة.

وعلى الرغم من انتشار هذه السلوكيات والاعتقادات الخاطئة حتى في الأوضاع العادية، لكن تظهر الدراسات العلمية أن معدلها يزداد والاعتقاد في مقدراتها يصبح أكثر جدية في أزمنة الكوارث والأزمات. فهي تقلل من إحساس الفرد بفقدانه التحكم في مصيره وتهدئ من القلق العظيم والضغط النفسي الرهيب الذي يستشعره الإنسان في مواجهة المجهول. فتتلاشى الأفكار السلبية عندما يشعر الإنسان أنه ليس عاجزًا أمام الأقدار بل إن هنالك شيئًا من الأمر في يده لدرء المخاطر وجلب الحظ الجيد أو على الأقل التقليل من وطء الكارثة.

هنا بالذات يكمن الخطر الكبير للتفكير السحري، فهو يمنح حسًا مزيفًا بالأمان، وقد يجعل الفرد يتوقف عن اتباع إجراءات السلامة التي ينصح بها الخبراء والعلماء، وقد يمنع حتى عن اتباع الحس السليم في مجابهة كارثة طبيعية ومفهومة ويمكن استيعابها ومجابهتها بالوسائل الصحيحة والعقلانية، حتى وإن بدت الكارثة بهولها ولا اعتياديتها؛ شيئًا غير ذلك.

التفكير السحري ليس دائمًا ما يتسبب بالأضرار، وقد يكون مفيدًا في التقليل من القلق والضغط النفسي على الناس. هو على كل حال لا يمكن تفاديه، فهو جزء من طبيعة الإنسان وتركيبه النفسي الأصيل، وسنشهد تصاعدًا لوتيرته مع كل كارثة وكل جائحة تغير حياة الناس وتهز كيانهم.

 فلنشرب إذًا الشاي المر، ولكن ذلك دائمًا بعد غسل أيدينا بالماء والصابون لأربعين ثانية والالتزام بالتباعد الاجتماعي

ولتفادي تبعاته السلبية، يجب أن يكون دائمًا مصحوبًا بالمعرفة العلمية والنظرة العقلانية. بالذات في عالمنا المعاصر؛ ففي عالم اليوم استطاع الإنسان بمقدراته العلمية والتقنية الفائقة، سبر أغوار الفضاءات الشاسعة وتحطيم أصغر الذرات المتناهية، وهناك دائمًا رأي للخبراء المتخصصين، والاستماع له هو الطريقة الأمثل لمجابهة كوارث من شاكلة جائحة الكورونا الحالية.

 فلنشرب إذًا الشاي المر، ولكن ذلك دائمًا بعد غسل أيدينا بالماء والصابون لعشرين ثانية والالتزام بالتباعد الاجتماعي، واتباع توصيات الخبراء وإجراءات السلطات المختصة، وبالطبع إعمال الحس النقدي والتفكير ببعض العقلانية في مواجهة جائحة هي الأخطر منذ عقودٍ طويلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إرث النبي موسى والخضر وأصحاب الكهف.. السودان مختلف على تاريخه

النخبة السودانية وإدمان التفكير التصنيفي