30-يناير-2018

حلت هذا الشهر، كانون الثاني/يناير ذكرى إعدام محمود محمد طه (يوتيوب)

منتصف كانون الثاني/يناير 1985، في يوم جمعة، صعد السياسي والمفكر السوداني زعيم الحزب الجمهوري، محمود محمد طه، إلى كتف المقصلة بما اعتبره البعض شجاعة نادرة، إذ كانت ابتسامة مطمئنة مرسومة على وجهه، وكأنه لن يقابل الموت شنقًا بعد لحظات.

هذا الشهر، حلت ذكرى إعدام المفكر والسياسي السوداني محمود محمد طه، مصاحبة لجدل مستمر حول الرجل حتى الآن

وبينما ظل أنصاره في الخارج، أو حتى من احتشدوا لإلقاء النظرة الأخير عليه، يرددون بأن محمود محمد طه "سينجيه الله من كيد السلطة"، كان الرجل الذي بلغ وقتها من العمر نحو 76 عامًا، يتدلى من حبل المشنقة، في لحظة تاريخية شديدة الأثر، لينداح بعدها الفكر الجمهوري، ويوصم محمود محمد طه بـ"الشهيد"، كونه آمن بفكرته وبذل روحه في سبيلها.

اقرأ/ي أيضًا: المسيحيون في السودان.. الحال طيبة ولكن!

من هو محمود محمد طه؟

تقول سيرة محمود محمد طه إنه مفكر وسياسي سوداني ولد عام 1909، ومات إعدامًا عام 1985. أسس مع آخرين الحزب الجمهوري السوداني. في فترة من حياته توارى عن الأنظار، ثم خرج محمود محمد طه من تواريه هذا، أو ما يسميه أنصاره بالاعتكاف الطويل، في تشرين الأول/أكتوبر 1951، بمجموعة أفكار دينية وسياسية أثارت جدلًا ولغطًا واسعًا، ولا تزال.

ورغم أنّ محمود محمد طه أيّد انقلاب جعفر النميري في ستينات القرن المنصرم، إلا أنه اعترض على قوانين الشريعة الإسلامية التي أعلنها النميري في أيلول/سبتمبر 1983، وانتقدها محمود محمد طه بشدة قائلًا: "أعلنت رأيي مرارًا، في قوانين أيلول/سبتمبر من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفّرت عنه". 

كان ذلك تعليق محمود محمد طه الذي جر عليه غضب جعفر النميري والقضاة الذين وضعوا تلك القوانين، وحين قدم مرافعته من داخل المحكمة، قلب الطاولة في وجه القضاة ووصفهم بأنهم "غير مؤهلين فنيًا، وضعفوا أخلاقيًا أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، فتستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب والمعارضين السياسيين، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيَت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين"، أو كمال قال.

دعوة "الجمهورية"

وبالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على إعدام محمود محمد طه، إلا أن دعوته لم تُعدم من الوجود، بل تفاقم أثرها حتى خارج البلاد، وظل أنصاره يحتفلون بذكراه كل عام، فيوقدون الشموع ويتلون الأناشيد بسمْتها الصوفي.

وليس على سبيل المبالغة القول إن الحركة الجمهورية، اجتذبت بعد ذلك مئات المهتمين والباحثين والمؤيدين لأفكار محمود محمد طه، أغلبهم من الشباب، وأكثرهم يؤمنون بأنه "نابغة" ويتداولون رسائله حول الصلاة والحقوق والمرأة. وتقام طقوس الزواج بينهم حتى اليوم على الطريقة الجمهورية المبسطة، والتي تشهد فيها الزوجة عقد قرانها، وتتضمن وثيقة العقد ما يعرف بشروط الكرامة للعروس، أهمها التزام العريس بعدم الزواج بأخرى دون سبب المرض والعقم، فضلًا عن العصمة المشتركة، ما يعني أن لها الحق في تطليق نفسها.

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على إعدام محمود محمد طه، لكن دعوته "الجمهورية" لم تعدم من الوجود، بل تفاقم أثرها حتى خارج البلاد

ومؤخرًا، برزت مطالبات واسعة بتكوين الحزب الجمهوي السوداني، ليمارس نشاطه السياسي في العلن. لكن السلطات الحالية رفضت ذلك أكثر من مرة، ويكاد يكون نشاط الجمهوريين محظورًا، ما اضطر أكثرهم للهجرة، فيما تجاهد نجلة محمود محمد طه، أسماء، في العمل السياسي بعد إنهاء غربتها. وهي تُبشّر حاليًا بدعوة والدها، وتسعى حثيثًا لتسجيل حزب للمفارقة أن كثيرًا من الجمهوريين يرفضون إقامته، مفضلين الالتزام بالتعاليم الجمهورية في حياتهم فقط.

اقرأ/ي أيضًا: مرحبًا بك أيتها العصور الهمجية.. لقد وصلنا 

وقبل أيّام، نظمت أسماء احتفالًا بمناسبة الذكرى 34 لإعدام والدها محمود محمد طه، في منزله بأم درمان، أمام جمع غفير من الجمهوريين وأصدقائهم.

كثير، بل كل الجمهوريين تقريبًا، يطلقون على محمود محمد طه لقب "الأستاذ" أو المعلم. وتصل درجة الارتباط بالرجل وافكاره عند بعضهم، أنهم يعتقدون بأنه لم يُعدم، وإنما رفعه الله مثل المسيح! بينما اختلف كثير من المفكرين والعلماء مع محمود محمد طه وأفكاره.

قبيل تنفيذ حكم الإعدام في محمود محمد طه
قبيل تنفيذ حكم الإعدام في محمود محمد طه

وبالرغم من أن الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية السودانية عاد وأكد في مراجعته أن "المرتد لا يُقتل"، وأنه كان ضد إعدام محمود محمد طه، إلا أن شهادته أثارت الشكوك بأنه ربما كان يقف وراء تلك المحاكمة، حيث قال: "كانت ردته أكبر من كل أنواع الردة التي عرفناها في الملل والنحل السابقة". 

ثم واصل الترابي في حديثه لصحيفة الوطن السودانية، عام 1988، ردًا على سؤال حول إعدام محمود محمد طه من قبل جعفر النميري، فقال: "عندما طبق نميري الشريعة، تصدى محمود محمد طه لمعارضته، لأنه رأى عندئذ رجلًا دينيًا يريد أن يقوم بنبوة غير نبوته هو، وأكلته الغيرة، فأسفر بمعارضته، ولقي مصرعه غير مأسوف عليه البتة".

وبالنسبة للزعيم الديني والسياسي، رئيس حزب الأمة القومي، الصادق المهدي، فإن إعدام محمود محمد طه كان خطأً، و"لا توجد عقوبة دنيوية في الردة"، وهذا الرأي ظل يجاهر به المهدي لدرجة وصف قوانين أيلول/سبتمبر، بأنها "لا تساوي الحبر الذي كتبت به".

وفيما يعتقد الجمهوريون أن أقوال محمود محمد طه تعرضت للتشويه والتحريف، وأن أفكاره سبقت عصره، إلا أن بعض شباب الإسلاميين يعتبرون بردة محمود محمد طه، بطريقة أكثر تشددًا حتى من الترابي، وهنا يحاول جعفر بانقا -وهو شاهد على إعدام محمود محمد طه، وقد حضر عددًا من دروسه- التأكيد على ردة محمود طه، فيقول لـ"ألترا صوت"، إنه "لم يكن يصلي الصلاة الحركية، ويزعم بأنه يصلي بروحه".

وأضاف جعفر بانقا: "كان محمود محمد طه على الدوام يجلس على كرسي ونحن على الأرض، ويُسهب يوميًا في شرح دعوته، تحديدًا الرسالة الثانية التي تقوم على نسخ القرآن المدني الذي يؤسس للشريعة والمعاملات الشرعية". ويقول بانقا إن محمود محمد طه كان يرى أن الشريعة لم تعد صالحة للقرن العشرين، وما كان يعترف إلا بالقرآن المكي فقط الذي يتحدث عن العقيدة ويؤسس لها.

وفقًا للعديد من الروايات، كان أنصار محمود محمد طه يعتقدون أنّه غير معصوم من الموت، وبعضهم يعتقد أنه لم يُقتل وإنما رفع للسماء!

يقول جعفر بانقا، إن أنصار محمود محمد طه يوم إعدامه كانوا واثقين من أنه لن يناله الموت، فيقول إنّ عددًا من أتباعه كانوا يعتقدون أن حبل المشنقة سينقطع به، أو أن الطاولة لن تنفتح، أو سيطير بمشنقته إلى السماء!

 

اقرأ/ي أيضًا:

المهدي المنتظر.. بين الواقع والأسطورة

المغرب يعفي "المرتد" من القتل.. مع بعض التخوين!