28-نوفمبر-2019

المغني والعميد بجهاز الأمن المحال للمعاش جمال فرفور (تانا فور ميديا)

من جديد عاد الجدل إلى الساحة الفنية والثقافية في السودان منذ أن تناقلت الأنباء خبر وجود مغنيين وفنانين ضمن قائمة الضباط الذين تم إحالتهم للتقاعد من قبل جهاز الأمن والمخابرات-جهاز الأمن والمخابرات العامة حاليًا-نهاية الأسبوع الماضي. على رأسهم المغني جمال مصطفى الشهير "بفرفور" الذي أحيل للتقاعد برتبة عميد في جهاز أمن السلطة البائدة سيئ السمعة، وقال فرفور في تصريحات نقلتها أحدى الصفحات على فيسبوك أن قائمة المقالين من جهاز الأمن تشمل أكثر من (15) فنانًا آخرًا، وأنه لم يكن وحده في جهاز الأمن.

 المتتبع لعلاقة نظام الإنقاذ مع فن الغناء والموسيقى يدرك منذ الوهلة الأولى أن النظام قام في فترات متعددة بطرق أبواب المغنيين استغلالًا للعلاقة المعقدة التي تربط الفنان بالجمهور

وتأتي الإقالة العاصفة للمغني فرفور مع مجموعة الفنانين الذين- لم نتمكن من تأكيد إقالتهم – لتثبت الشائعات التي كانت تحوم حول كثير من المغنيين الذين ابتعدوا عن التجريب والإبداع وركنوا إلى تريد أعمال غيرهم من الفنانين، لكنهم مع ذلك كانوا يحظون برضى النظام وتقام لهم الحفلات العامة المدعومة من النظام، ويكونون دائمًا حاضرين في المهرجانات القومية التي ترعاها الدولة، وذلك بفضل استعدادهم للانخراط في الشأن السياسي عبر بوابة الحزب البائد ومناصرته، رغم نفي بعضهم المتكرر الانتماء له. فكان النظام يكافئهم بتسنم وظائف أمنية وسياسية ووظائف أخرى في اتحادات المهن الفنية، فلن يكون غريبًا أنهم ظلوا مغلقين آذانهم عن آلام الجماهير ومعاناة ضحايا الحروب والنزاعات طيلة فترة حكم النظام البائد. مقدمين خدماتهم الجماهيرية للسلطة.

اقرأ/ي أيضًا: أول واقعة فساد حكومي تحاصر الحكومة.. ومطالب بالمحاسبة والإقالة

ورغم مقابلة الجمهور لخبر إقالة "فرفور" من منصبه كرئيس لشعبة التوجيه المعنوي في جهاز الأمن والمخابرات بكثير من الارتياح، إلا أن الحدث نفسه فتح  باب الجدل مجددًا حول العلاقة المعقدة لكثير من المغنين أصحاب الجماهيرية والنجومية، بالنظام البائد، والوسائل التي أتبعها نظام الإنقاذ لاستقطاب مجموعة من المغنين لخدمة مشاريعه المتمثلة في حشد الجماهير والترويج الآيديولوجي لأفكاره باستخدام الغناء.

ويرى نُقاد فنيون أن انخراط  كثيرًا من المغنيين في علاقات مباشرة مع النظام وما تبعه من توظيفهم في ترديد شعارات النظام الآيديولوجية وأفكار الحزب البائد، قد تصل لتمجيد شخصية الرئيس في المحافل العامة. ما أدى إلى نشوب صراعات متعددة داخل مجتمعات الفنانين التي كانت في السابق تتميز بالجدية وروح التعاون والالتزام تجاه الفن، وفتح المجال أمام السلطة للتسلسل إلى داخل مجتمعات المغنيين والموسيقيين والتحكم في الحركة الغنائية واتجاهاتها، مولدة صراعات متعددة الجوانب بين الفنان والجمهور وأجهزة الإعلام، وانعكس ذلك بشكل ملحوظ على المحتوى الفني والجمالي المقدم في الساحة الفنية، وتهميش البعد الأخلاقي للممارسة الفنية مشكلًا واقعًا مختلفًا للممارسة الغنائية تعتمد على إرضاء الأذواق السائدة دون محاولة الارتقاء بها ومولدًا فوضى وانحطاطًا ومنتجًا تجارب غنائية مشوهة.

تخويف وقهر وترغيب

غير أن المتتبع لعلاقة نظام الإنقاذ مع فن الغناء والموسيقى يدرك منذ الوهلة الأولى أن النظام قام في فترات متعددة بطرق أبواب المغنيين استغلالًا للعلاقة المعقدة التي تربط الفنان بالجمهور ودوره  في تحريك الجماهير وتوجيه الرأي العام، وقام فتح الأبواب أمام من استجابوا منهم، لحشد الجماهير أثناء موسم الانتخابات، ولكنه قام في نفس الوقت بأبعاد ومحاربة الفنانين والموسيقيين والشعراء ذوي الميول اليسارية والمعارضين بشكل عام مثل الفنانين الراحلين محمد وردي ومصطفى سيد أحمد والفنان أبو عركي البخيت وغيرهم، وحارب النظام كل أشكال الغناء الرومانسي والثوري التي انتجت في حقب متعددة والتي يراها لا تتماشى مع أطروحاته الفكرية.

اقرأ/ي أيضًا: اللجان التمهيدية لاستعادة النقابات.. خطوات صحيحة وتحديات ضخمة

وفيما يرى بعض النقاد أن العلاقات التي خلقها النظام الحاكم مع مجموعة متنوعة من الفنانين تندرج ضمن تصنيف علاقات-القهر- والتي استخدم فيها النظام أساليب الاستقطاب السياسي لزيادة نفوذه وتأثيره على المجال العام، وأيضًا لهزيمة المعارضة السياسية التي تنتقد سياساته بما فيها السياسات الثقافية المعادية للحرية والأبداع، مستخدمًا قوة السلطة لفرض نمطٍ  معين من الذوق يتوافق مع رؤيته وآيدولوجيته الرسمية والسماح بعرضه في وسائل الإعلام.

ويرى الصحفي الإذاعي المهتم بقضايا الفنون الغنائية ميرغني جبريل أن الفنانين  الجدد وخصوصًا الشباب غالبًا ما يكونون عرضة لتقديم خدماتهم للشموليات، حيث أصبح ذلك سلوكًا شائعًا لدى الفنانين، غير أنه يستدرك ليضيف: "ولكن حالة المغني فرفور تبدو مغايرة إذ انخرط مباشرة في الأجهزة الأمنية القمعية للنظام، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى وعي الفنانين الداخلين إلى الساحة الفنية لخطورة وأهمية تسلح الفنان بمستوى مناسب من الوعي يمكنه من تحديد اتجاهاته الفنية بعيدًا إملاءات الأنظمة الحاكمة وتأثيراتها المضرة واغراءاتها.

ويضيف جبريل في إفادته لـ"الترا سودان" أن غياب الوعي لدى الفنان هو ما يجعله غير مدرك لخطورة الانتماء لأي نظام أو حزب سياسي بدون تمحيص مواقف هذا الحزب أو السلطة من قضايا الفن والإبداع والحريات، وأكد أن تأييد أي فنان لأي نظام ديكتاتوري صار أمرًا مكلفًا، خصوصًا بعد حقبة الربيع العربي التي قادت الشباب للبحث عن نموذج للفنان الثوري الصادق المتحرر من إملاءات الأنظمة التسلطية.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الناصر أهدى قصورًا نوبية للغرب.. ومواقع التواصل تشتعل بالجدل!

الفنان ضحية الأنظمة الشمولية

أما الناقد الفني محمد فرح وهبي فيقول في إفادته لـ"الترا سودان" أن النظام البائد أوقع الكثير من الفنانين في  فخ السلطة، وأحقادها وتصوراتها الخاطئة لواقع السودان، ونظرتها الضيقة التي حصرت الوطن في مصلحتها فقط.

ويضيف وهبي أن مسألة انتماء بعض الفنانين للنظام ومن ضمنهم المغني فرفور صدمت الجموع تقريبًا، وأن فرفور ضحية لتصوره الخاطئ عن السلطة وإيمانه المطلق بها، وأن فرفور نفسه كان ينظر لانتمائه للنظام كخيار وحق، وكان يردد دائمًا إنه مؤمن بحزب المؤتمر الوطني وببرامجه وكان فخورًا بذلك الانتماء.

عندما أعلن فرفور انحيازه للنظام بعد قيام الثورة، أصبحت عداوة الجماهير وكراهيتها له واضحة وبلغت ذروتها

ويضيف وهبي أن أوضاعًا كثيرة تغيرت في علاقة الفنان بجمهوره وطرأت تحولات على نظرة الجماهير للفنان وانتماءاته بسبب الرقابة والتواجد الكثيف للجماهير على مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما أعلن فرفور انحيازه للنظام بعد قيام الثورة، أصبحت عداوة الجماهير وكراهيتها له واضحة وبلغت ذروتها.

ويضيف وهبي أن وجود شخصًا عاديًا برتبة كبيرة في جهاز سيء الصيت والسمعة كجهاز الأمن فهذا لوحده كفيل بجلب الكراهية له ممن هم حوله، ناهيك عن أن يكون هذا الشخص مغنًا وله جمهوره، فهذه بالطبع ستكون نهايته الفنية، مستدلًا بتلقيه كل ذلك الكم من الهجوم والسخرية، مختتمًا بالقول: "التاريخ لا يرحم".

 

اقرأ/ي أيضًا

الصحفيات والإعلاميات في السودان.. أوضاع متردية وجهود لتحقيق بيئة آمنة

مناقشة قانون النقابات.. نحو تأمين الديمقراطية ومواجهة الانقلابات