لطالما شغلت ترشيحات "الجائزة العالمية للرواية العربية - بوكر" الأوساط الأدبية، بقائمتيها الطويلة والقصيرة، بشكل يجعل من التكهنات سيدة الموقف حتى موعد الإعلان عن الرواية الفائزة، ورغم أن الجائزة هذا العام كانت من نصيب شكري المبخوت وعمله الأول "الطلياني"، إلا أن الروائي السوداني حمور زيادة (1978) نال قدرًا كبيرًا من الاهتمام والجدل، خصوصًا أن رواية حمور زيادة المترشحة للقائمة القصيرة شوق الدرويش، دار العين 2014، لم تكتف بتناول قصة حب عبد سوداني لراهبة يونانية، في خرطوم القرن التاسع عشر، ولكنها تقاطعت مع أحداث الثورة المهدية وأبعادها الدينية والسياسية، لتخلق بذلك بعدًا تاريخيًّا للعمل الملحمي الكبير والمثير. الأمر الذي خولها لتنال قبل أسابيع فقط من إعلان القائمة الطويلة للبوكر، للفوز بجائزة نجيب محفوظ للأدب، التي تمنحها سنويًّا الجامعة الأمريكية في القاهرة.
خطف حمور زيادة الروائي الأضواء من حمور زيادة القاص
"شوق الدرويش" هي الثانية للروائي حمور زيادة بعد روايته الأولى "الكونج"، دار ميريت 2010، بالإضافة إلى مجموعته القصصية وكتابه الأول "سيرة أم درمانية"، دار الأحمدي 2008، لكنّ حجم الزخم الذي يحدثه العمل الروائي، بغض النظر عن مادته الأدبية، دائمًا ما يخطف الأضواء من الشقيقة الأقصر، أي القصة.
قبل إعلان "دار العين" عن خروج "شوق الدرويش" من المطابع، وعلى بعد شارع واحد من مقرها، أصدرتْ "دار ميريت" المجموعة القصصية الثانية لزيادة بعنوان النوم عند قدمي الجبل التي لم تنل انتشارًا يذكر، مع حالة الانحسار التي أصابت "دار ميريت" بسبب الأزمات المالية التي حلت بها، يضاف إلى ذلك قلة الاهتمام النقدي الذي تواجهه القصة.
تكمن السخرية في أن السبب الرئيس في خطف الأضواء من عمل حمور زيادة القاص هو حمور زيادة الروائي. الأمر الذي دفعه للتعليق على صفحته بموقع فيس بوك ساخرًا "مفيش حد بينافس حمور زيادة غير حمور زيادة" .
يجمع كتاب حمور زيادة سبع قصص صدرتْ في 180 صفحة من القطع المتوسط، ما يلمح إلى الطول النسبي لها، فباستثناء نصوص "لكل عام خريف" و"رأيت"، فإن قصة كـ"حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها" ذات الستين صفحة والتي تحتل أول أجزاء الكتاب، نص يمكن أن يتحول بمجهود بسيط جدًا، أو حتى بتسامح نقدي لتصنف كنوفيلا، نظرًا لتشابك أحداثها وتقاطع شخصياتها في خطوط درامية مختلفة، هي أقرب إلى البناء الروائي منها إلى القصصي، وإن كانت بعيدة عن الحشو الزائد والاسترسال، الذي قد يتصف به عمل كـ"شوق الدرويش".
تدور أحداث معظم قصص حمور زيادة في الريف السوداني، شماله ووسطه تحديدًا، بعيدًا عن عوالم المدينة وقيمها الحضرية التي يفرضها ثقل وجود الدولة المركزية هناك، واختلاط المكونات الثقافية المحلية أو الأجنبية. الأمر الذي سهل على حمور أن يجد بيئة ثرية لنسج عوالم سحرية إلى حد بعيد، وغير مطروقة كثيرًا للقارئ العربي عمومًا. وتأتي إجادة حمور لاستلهام التاريخ وإعادة صياغة روحه أدبيًّا لتقدم إضافتها، حيث يلعب على أوتار التمايز القبلي والعرقي في السودان، وثقافته الإسلامية الصوفية المتلاحمة مع بيئته الأفريقية بانسجام متذبذب.
حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها
تتجلى براعة حمور زيادة في سرد الحكاية التاريخية ونسجها في بناء متعدد الخطوط الدرامية. في هذه القصة التي تدور أحداثها إبان الغزو العثماني، وأفول نجم سلطنة الفونج في سنار، تظهر امرأة فاتنة في حياة الشيخ الكهل محمد ود دياب، أحد أولياء الله الصالحين، واهبة نفسها له بلا مهر، بشرط أن ينتقم لها بالدعاء من الشيخ عبد المحسن، إمام مسجد الباشا، الذي تدعي أنه طلّقها بطريقة مهينة دون أن يرد لها صُداقها. محاولة الاستفادة من الصراع القديم بينهما بسبب فتوى اختلفا فيها في بلاط سلطان الفونج.
تتنوع الشخصيات في هذه القصة بخلفيات وقصص مرجعية تثري من دوافع أفعالها. من المضويّ ملازم الشيخ ود دياب، الذي كان مراكبيًّا ينهب ركابه بابتزازهم وتهديدهم بالغرق، إلى زوجة الشيخ ود دياب الأولى، وابنة شيخ الطريقة الذي سلمه الولاية، إضافة إلى الصراع المستعر بما يمثله من اختلاف عقائدي بين الصوفية والمذاهب السنية الأربعة متمثلة في الفقيه الأزهري عبد المحسن، الموالي للدولة، والخيط الهش الذي يفصل بين الواقع والحلم مع ظهور نبي الله الخضر كأحد شخصيات القصة، الذي يحرك مصيرها بشكل غير متوقع، ويجعل من قدوم حُسنة جالبًا للشؤم والفتنة.
حلة ود أزرق
كما يتضح من العنوان، يلعب عنصر المكان لدى حمورد زيادة في هذه القصة دور البطولة، فعبر استقرار أسرة من العرب الرحّل في أطراف قرية حجر نارتي، وما جلبته التحولات السياسية والبيئية في القرية، ينشئ ود أزرق ابنيه اللذين سرعان ما يكبران ويتزوجان مستجلبين أبناء عمومتهم إلى تجمع أكواخ القش الطرفية لتتحول إلى حي مستقل، عبر علاقتهم الطفيلية بالقرية وتوفيرهم للعمالة الرخيصة، وحياتهم البائسة التي جعلت أهل القرية الدناقلة يستعطفون على هؤلاء الأعراب، حتى صاروا مع مرور جيلين إلى سكانٍ مستقرين ومنتمين لها.
يلخص حمور زيادة في هذه القصة نمطًا من أنماط الصراع الاجتماعي والتحولات الديموغرافية الممتدة في جغرافيا السودان، مختصرًا الكثير من التنظريات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية التي تؤطر الصراع العرقي بين قبائل السودان على موارده، بأسلوب ساخر ومختزل يماثل في عمق بناءه وتطوره رواية الأجيال.
يرسم صورة واقعية عن المجتمعات السودانية في الريف، فرغم ما تعانيه عشيرة ود أزرق من القرويين لانتزاع حقهم في الحياة والمشاركة، وتحقيق اعتراف أهالي القرية بحلتهم بعد سنوات، يعززها تنامي نفوذهم الطفيلي في الحكومة وتنامي ثرواتهم. يختم حمور زيادة قصته بالتفكه: "نعم ما زال هناك من يسألون في قلق هل يأتي يوم يتجرأ الأعراب فيه على طلب بناتهم للزواج؟ لكن أهل المعرفة من الدناقلة يؤكدون أن هذا مستبعد جدًا".
لكل عام خريف
أقصر نصوص المجموعة وأبسطها من ناحية العقدة الدرامية. يستعيد فيها حمور زيادة الأساطير المرتبطة بفيضان النيل، وحالات الصخب التي يثيرها في المجانين مع دخول موسم الخريف. تحكي ببساطة عن جيب الله، المغترب العائد من العراق بمرض نفسي، سمح لشقيقه بالاستيلاء على مدخراته التي عاد بها وطرده إلى باحات التشرد، ليقع جيب الله في هيام طالبة في المرحلة الثانوية سرعان ما ينقل إليها لوثة الجنون قبل أن يختفي في ظروف مأساوية.
البهو وما ملك الشعب
تتجلى براعة حمور زيادة في سرد الحكاية التاريخية ونسجها في بناء متعدد الخطوط الدرامية
يتخيل حمور زيادة في هذا النص وضع الكوميديا السوداء الافتراضي، الذي يشكله تعايش ثلاثة حكام عرب سابقين: ملك، ورئيس، وزعيم.. أطيح بهم في ثورات مشابهة لموجات الربيع العربي. تستضيفهم كلاجئين سياسيين سلطنة خليجية في قصر فخم اسمه "قصر الحنظلية"، لكن دون تسمية الدولة الخليجية. خلو القصة من الأسماء يخلّف أثرًا بمدى وهمية الحالة، مع انعدام وجود حالة تاريخية مشابهة وضعت ثلاثة حكام معزولين في المكان نفسه من قبل. إضافة إلى المبالغة التي تسم، ليس فقط التفاصيل غير المعقولة لمدى كبر القصر وفخامته، بل وأيضًا النقاشات البيزنطية والخلافات السياسية الساذجة بين الزعماء الثلاثة، الذين يندلع الصراع فيما بينهم حول تسمية أكبر قاعات القصر بـ"البهو الملكي". ما يشير في هذا النص تحديدًا، مقارنة بالجودة المحكمة التي كُتبت بها النصوص الأخرى التي تدور وقائعها في السودان، إلى أن حمور كاتب يبرع أكثر في الكتابة عن البيئات والظروف التي عايشها وتشرب ثقافتها.
عامل قلة المعايشة مع حالة القصة دفع حمور زيادة لاتخام سرده بعبارات مرجعية، يكثر فيها الاستناد إلى الإشاعات والأقاويل. ألفاظ مثل "بعض الأقوال التي سربها.. وقد شاع.. مصادر خاصة يؤكدون.."، تملئ الفراغات التي قللت من مصداقية السرد في القصة. رغم أن هذا الاعتماد على الحكايات غير المحكمة السند للبناء القصصي، سمة اتصفت بها معظم قصص المجموعة وكاتبها المولع بالطابع الأسطوريّ للحكاية.
رأيت
يختلف هذا النص في بناءه عن بقية قصص المجموعة اختلافًا جوهريًّا. ليس فقط لاحتوائه على أربعة مقاطع بعناوين جانبية، إضافة إلى مدخل وخاتمة، بل لاعتماد حبكته على الحلم، وسرده دونًا عن بقية النصوص بضمير المتكلم، رغم ما يبذله الكاتب من مجهود لنسج طابع غرائبيّ، مليء بالتفاصيل غير الواقعية، بأجواء كابوسية تتخللها الكلاب والأفاعي بشكل موحٍ، إلا أن كشفه منذ البداية لأن ما يراه هو بعد غرقه في النوم، يقلّل من وطأة هذا الوصف على المتلقي، في لعب مكشوف خالٍ من الحكبة الدرامية المشوقة. باستثناء واقعة الشجار الذي دار بين الراوي في بداية النص وبين حبيبته عبر مكالمة هاتفية، وانتهاء النص برؤيته لحبيبته في وضع أيروتيكي سرعان ما ينتهي باستيقاظه محتلمًا في نهاية متوقعة لنص مألوف.
النوم عند قدمي الجبل
وهو النص الذي يحمل عنوانه الكتاب. يحكي في أجواء أسطورية عن مزمل النور، والنبوءة التي حملها مقدم أحد شيوخ الطرق الصوفية إلى بلدته يوم ولادته، بأنه سيموت يوم بلوغه سن العشرين، وما يتبع ذلك من الحياة المدللة، لكن الكئيبة التي تصاحب "ابن الموت" والسخرية المتواصلة من أقرانه، التي تدفع والديه إلى إحاطته باهتمام زائد، وفر له حياة غير اعتيادية، محاطة بهالة من الخرافات المسلم بها. إلى أن يتمرد عليها مزمل نفسه في أواخر سن المراهقة، بإيعاز من شخصية الحاج سليمان المغترب السابق، الذي يفتح مدارك مزمل على متع الحياة ومباهجها التي يتحمس للانغماس فيها دفعة واحدة، قبل أن يلاقي مصيره المحتوم في حي العبيد، حيث يقضي القرويون متعهم وليالي مجونهم، بعيدًا عن القرية ومسجدها.
يكشف حمور زيادة في هذا النص، وكما هو الحال في "حكاية حسنة"، معرفة عميقة بالفقه الإسلامي، وتمازجاته مع التصوف وغيبياته، بشكل يكاد يلغي الحد الفاصل بين الواقع والخيال، ببناء مثير ومتميز، تعززه قدرته على سبك الحوارات الجدلية بين الشخصيات، وإن كان قد أكثر في هذا النص من تذكير القارئ بين كل جزء وآخر بنبوءة موت مزمل التي قد تدفع القارئ إلى الملل، الأمر الذي يجعل نهاية النص باستسلام مزمل نفسه للنبوءة، والنوم تحت قدمي الجبل، أمرًا مخيبًا لآمال القارئ لنهاية درامية مرضية.
عندما هاجرت الداية
يستلهم زيادة الحكايات الشعبية والروح الأسطورية التي تصبغ مجتمعات السودان الغارقة في التصوف
الصراع الطبقي المحموم الذي تؤججه التمايزات العرقية، والإرث التراجيدي للرق في المجتمع السوداني كمحرك لتحولات البلاد الجيوسياسية، أمر لطالما تطرق له صاحب "شوق الدرويش" في حبكته القصصية المستندة إلى الواقع، إلا أن حنكته في عدم استخدام ذلك عبر المباشرة، التي يفرضها الخطاب السياسي داخل النص الأدبي، جعلت من هذا العامل خفيف الوطأة على روح السرد، تحديدًا تيمة العنصرية والإقصاء الاجتماعي المدفوع بالعرقية، التي لم تتجل بصورة أمثل من تلك التي عبر عنها حمور زيادة عن "عرضو قاسي" في قصته الأخيرة. قابلة قرية "كلرو" التي قوبلت هجرتها إلى العاصمة الخرطوم بتجاهل بالغ من القرويين، قبل أن يصيب نساء القرية بوباء غريب، أدى إلى انعدام معدل المواليد في القرية بوفاة كل جنين تحبل به أي امرأة.
إضافة إلى موت الأم نفسها، الأمر الذي هدد القرية بالانقراض وانقطاع سلالات عائلاتها، في انتقام درامي من القرية التي لم توف قابلتها الوحيدة التقدير اللازم، كونها تنحدر من سلالة عبيد أعتقوا مع إلغاء الرق الذي لم تختف تأثيراته من المجتمع السوداني بصورة تامة.
يبني حمور زيادة في هذا الكتاب عوالم متكاملةً، تستلهم الحكايات الشعبية والروح الأسطورية التي تصبغ مجتمعات السودان الغارقة في التصوف، حيث يصبح الدين والخرافة، إضافة إلى القبلية التي ساهمت في ترسيخ أزمات السودان السياسية، مكونًا أساسيًّا في معظم قصص المجموعة.
شخصيات عميقة التكوين وصادقة في مجموعة حمور زيادة، يسهل الوصول إلى أشباهها في الواقع السوداني أو تاريخه. كل هذه العوامل، بالإضافة إلى اللغة الكلاسيكية المحكمة، وتفاصيل الحياة اليومية للقرية، في شمال ووسط السودان، بطابع سردي يستند بصورة ممتعة على أنساق الإشاعة والأقاويل، كله يجعل من "النوم عند قدمي الجبل" قابلًا بامتياز لأن يصنّف ضمن أدب الواقعية السحرية، لكن بنكهة سودانية خالصة ومتميزة.