17-يناير-2025
معسكر الأمم المتحدة الرئيس بالعاصمة جوبا (AFP)

معسكر يتبع للأمم المتحدة في جوبا (ارشيف)

قادت حملة أسفيرية منظمة خلال الأيام الخمسة الماضية إلى تصعيد عنيف ضد السودانيين اللاجئين والمقيمين في عاصمة جنوب السودان جوبا. إذ تعرض تجار سودانيون، أمس الخميس 16 كانون الثاني/يناير 2025، في أحد أسواق المدينة إلى هجوم من بعض المتفلتين أدى إلى إصابة البعض وتكسير وتحطيم محال تجارية، كما تعرض الدبلوماسي السوداني، يحيى محمد عثمان، لاعتداء في بهو أحد الفنادق.

بدأت الحملة في وسائل التواصل الاجتماعي وتم تنظيمها من قبل مؤثرين في جمهورية جنوب السودان

الطبيب والكاتب الجنوبي سوداني بوي جون، أحد الذين شاركوا في الحملة الاحتجاجية ضد الانتهاكات التي تعرض لها مواطنون جنوب سودانيين، في ولاية الجزيرة بعد استرداد الجيش لمدينة ود مدني السبت 11 كانون الثاني/يناير. تحدث لـ"الترا سودان" عن خلفيات الحملة وقال إنها "بدأت في وسائل التواصل الاجتماعي وتم تنظيمها بعد تداول مقاطع فيديو انتشرت بعد دخول الجيش لمدينة ودمدني، احتوت على أفعال بربرية متمثلة في قتل بعض الأشخاص العزل من جنوب السودان وغيرها من المناطق، بتهمة واحدة وهي مساندتهم أو انتمائهم لقوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش السوداني".

مقاطع الفيديو التي أشار إليها الناشط والمثقف الجنوبي سوداني بوي جون، انتشرت بالتزامن مع مقاطع أخرى تعكس انتهاكات واسعة طالت مدنيين في مدينة ومدني بعد تحريرها بواسطة الجيش السوداني، وفي مناطق أخرى مثل قرى الكنابي الزراعية، إذ أثارت موجة من الإدانات المحلية والدولية، اتهم بها عناصر ينتمون للقوات المسلحة السودانية والقوات المساندة لها، وهو الأمر الذي أقرت به القوات المسلحة في بيان رسمي، بيد أنها وصفت الحوادث بـ"التجاوزات الفردية"، ووعدت بمحاسبة مرتكبيها.

السودانيون في جوبا

التاجر في جنوب السودان، فضل الله البدين، مقيم في جنوب السودان قبل اندلاع حرب 15 نيسان/أبريل، يقول إنه مدرك جيدًا لحساسية العلاقة بين "الشماليين والجنوبيين"، لذا لم يتفاجأ بالأحداث الأخيرة. ويضيف في حديثه لـ"الترا سودان" "التاريخ المشترك بين الشعبين اشتمل على كثير من حوادث العنف الدامي المرتكبة بواسطة الجيش السوداني ضد الجنوبيين، وبعضها ارتكبها الجنوبيون ضد الشماليين، لكن رغم ذلك ما يجمعنا أكبر من ذلك بكثير، فالعلاقات الطيبة والتواصل الجميل ممتد أيضًا، وهناك محبة خاصة متبادلة بين شعبي البلدين، وأرى أن حدة هذه الأحداث ستخفت تدريجيًا بعد أن يفهم المحتجون طبيعة الوقائع".

ويتابع البدين حديثه، ويقول: "نعم، شهدت بعض المناطق في جوبا أمس الخميس احتجاجات عنيفة وتعرض سودانيون للاعتداء، لكن تدخلت الشرطة واحتوت الأمر، ونتمنى ألا تطور الأوضاع أكثر من ذلك،  فأعداد السودانيين داخل جوبا وبقية مناطق الجنوب كبيرة جدًا، سيما بعد اندلاع الحرب الأخيرة في السودان".

التاريخ المشترك بين الشعبين اشتمل على كثير من حوادث العنف الدامي المرتكبة بواسطة الجيش السوداني ضد الجنوبيين، وبعضها ارتكبها الجنوبيون ضد الشماليين

وفقًا لتقارير منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، تستضيف دولة جنوب السودان نحو 270 ألف لاجئ سوداني، فروا من الحرب الدائرة في بلادهم بين الجيش والدعم السريع منذ نيسان/أبريل العام 2023، يقيم جزء كبير منهم في العاصمة جوبا ويمارسون التجارة وأعمال أخرى، كما يقيم أخرون في معسكرات اللجوء وفي المدن الأخرى.

بداية الحملات

الناشط والكاتب الجنوبي سوداني بوي جون، يواصل في إفادته لـ"الترا سودان"، ويقول: "بدأت الحملات في منصة فيسبوك، لكنها تطورت ووصلت إلى طريق شبه متقدم في التصعيد، تمثل في دعوات بعض الجهات لإغلاق السفارة السودانية في جوبا، ونتيجة لذلك نظمت أمس الخميس بعض الوقفات الاحتجاجية بالقرب من جامعة جوبا والسفارة السودانية وأماكن أخرى، وكلها من أجل الضغط على حكومة جنوب السودان من أجل اتخاذ موقف من أجل رعاياها في السودان".

وعن أسباب الحملة ودوافعها يرى د. بوي جون أنها حدثت نتيجة التخاذل الرسمي من الحكومة في جوبا لأنها لم تتخذ موقف قوي من القضية، وأيضًا الحكومة السودانية، التي لم تشر إلى ما حدث. لكنه يضيف مستدركًا: "نعم، في وقت متأخر، أدانت الحكومة السودانية، ممثلة في رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ما حدث في الجزيرة، ووصفته بتصرفات فردية خارجة عن القانون، وتم تشكيل لجنة من قبل البرهان للتحقيق في الأحداث".

مواجهة الأحداث

التاجر السوداني البدين، المقيم في جوبا منذ أكثر من عقدين، يتابع في حديثه لـ"الترا سودان"، ويناشد السودانيين الموجودين في كل مدن ومناطق جنوب السودان وخاصة جوبا، بالتزام الهدوء هذه الأيام، وعدم الاستجابة لأي استفزازات من بعض الغاضبين من مواطني جنوب السودان، ويقول: "من الأفضل لأي سوداني، خلال هذه الأيام التزام منزله والابتعاد بقدر الإمكان عن أمكنة التجمعات والازدحام، فالأشخاص المتفلتين يوجدون في أي مجتمع، وكما ذكرت أتوقع أن تعود الأوضاع إلى الهدوء مرة أخرى، ولكن تدريجيًا".

العلاقات المجتمعية بين الشماليين والجنوبيين في دولة السودان الموحدة ما قبل استقلال الجنوب في العام 2011، شهدت العديد من الأحداث المتوترة والعنيفة، لعل أشهرها ما عرف بأحداث "الإثنين الأسود"، التي اندلعت في العاصمة الخرطوم في 1 آب/أغسطس من العام 2005، بعد مقتل القائد الجنوبي سوداني، الدكتور جون قرنق، في حادث تحطم طائرة تقله من أوغندا إلى السودان، في 30 تموز/يوليو 2005، إذ اندلعت وقتها أعمال شغب واسعة في الخرطوم بعد شيوع أنباء عن تورط الحكومة السودانية في اغتيال الزعيم الجنوبي سوداني، وأدت تلك الأحداث إلى مقتل نحو 50 شخصًا من الشماليين والجنوبيين على حد سواء.   

وعن المحاذير من تصاعد الأعمال العدائية ضد السودانيين في جنوب السودان، يقول بوي جون: "التصعيد المتوتر بطبيعة الحال يمكن أن يخرج عن نطاق السيطرة في جوبا إذا لم يتم التعامل معه بحكمة، وظهر هذا أمس الخميس في بعض التفلتات الأمنية في جوبا، فهناك تقارير عن اعتداء البعض على بعض التجار الشماليين في بعض المناطق من العاصمة، لكن الشرطة والقوات الأمنية تدخلت واستطاعت أن تحاصر مظاهر الاحتجاج، وتمنع تحول هذه المظاهر إلى ما يمكن أن نسميه بجرائم تؤذي السودانيين وغيرهم".

ويضيف الناشط الجنوب السوداني: "في نهاية المطاف جنوب السودان كدولة عندها التزامات بحماية كل المواطنين والأجانب المقيمين في أراضيها. أعتقد الآن الكرة في ملعب حكومتي الدولتين، وبالذات حكومة السودان في أن تتعامل بالقانون ووفقًا للقانون الدولي الإنساني فيما يتعلق بالقضية".

ويتابع: "لا يمكن بطبيعة الحال تجريم كل الجنوبيين بتهمة اشتراك بعضهم في صفوف الدعم السريع لأنه بنفس القدر يوجد هناك أيضًا جنوبيون يقاتلون مع الجيش السوداني، وهذه ليست ذريعة للدعم السريع لاستهداف الجنوبيين، فإذا كان هناك جنوبيون في السودان ارتكبوا جرائم يمكن أن يحاكموا وفقًا للقوانين الموجودة في السودان وينالوا جزاءهم".

اتهمت وزارة الخارجية السودانية، في تقارير سابقة، قوات الدعم السريع الاستعانة بمرتزقة أجانب من عدة دول أجنبية، من بينها دولة جنوب السودان، وبحسب خبراء  عسكريين يشارك الكثير من الجنوبيين في حرب السودان، أغلبهم ضمن قوات الدعم السريع، بينما يقاتل آخرون إلى جانب القوات المسلحة السودانية.

عوامل أخرى

الكاتب الشاب والمؤثر على مواقع التواصل في السودان أحمد الشريف أشار في منشور له في صفحته الشخصية على فيسبوك إلى عوامل أخرى تغذي العنف تجاه السودانيين في جنوب السودان، وقال إن لدى الجنوب سودانيين "يقين عميق من واقع تجربتهم ومعرفتهم بالسودانيين وقيمهم وطريقة تفكيرهم أن مواطنيهم في السودان لن يعاملوا بالمثل"، فضلًا عن "عدم مبالاة قادة التحريض أن يعامل مواطنوهم في السودان بالمثل".

أحمد الشريف في منشوره اتهم "حكومة جنوب ونخبته المحرضة" بأنها تدير العنف ضد السودانيين لأجندة خاصة بها، "على رأسها العمالة للإمارات ثم المليشيا"، بحسب تعبيره. وأضاف إلى ذلك ما وصفها بـ"الرغبة العميقة في الحد من التأثير الاجتماعي والثقافي الكبير  للسودانيين في الجنوب". ومضى أحمد الشريف بالقول: "ما يحدث في جوبا هو عمل منظم تديره وتشرف عليه حكومة جنوب السودان، وعلى حكومة السودان أن تتعامل مع الأمر وفق هذا الاعتبار".

موقف جنوب السودان

وفي بيان لها صدر أمس الخميس، أشارت منصة "مؤتمر الجزيرة" إلى هجوم قوة من الدعم السريع بينها "مرتزقة جنوب سودانيين" على قرى في شرق ولاية الجزيرة، ما أدى إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة آخرين.

رسميًا، ناشدت السكرتير الصحفي لرئيس دولة جنوب السودان، ليلى مارتن، المواطنين بضبط النفس، ودعت في بيان، الخميس، نيابة عن الرئيس سلفاكير ميارديت المواطنين بضرورة الامتناع عن الأعمال الانتقامية.

وقالت: "من المهم ألا يدفعنا الغضب إلى اتخاذ قرارات غير محسوبة أو الاعتداء على التجار واللاجئين السودانيين المقيمين في بلادنا، فهم لجأوا إلى جنوب السودان بحثًا عن الأمان، ومن واجبنا حمايتهم ودعمهم".

وكانت وزارة الخارجية والتعاون الدولي بجنوب السودان، قد استدعت السفير السوداني بجوبا، عصام محمد حسين كرار، وأبلغته عن عميق قلقها عن الأخبار المتواترة عن مقتل جنوب سودانيين في الأحداث الأخيرة بعد استرداد الجيش السوداني لمدينة ود مدني في ولاية الجزيرة.

وحث الحكومة السودانية على اتخاذ إجراءات فورية وفعّالة لحماية حقوق وكرامة جميع الرعايا الأجانب، لاسيما مواطني جنوب السودان، الذين تضرروا من الأزمة المستمرة في ود مدني ومناطق أخرى من السودان.

من جانبه صرح المتحدث باسم الشرطة، في دولة جنوب السودان، العقيد جون خسارة، في تعميم صحفي أمس الخميس، أنه من الضروري أن "نتعامل مع الوضع في جوبا بمسؤولية، ولا خوف على أوضاع السودانيين المقيمين فيها". وأضاف: "انتشار الشرطة الحالي لتأمين كافة الأسواق والمحلات التجارية من المتفلتين"، ونوه إلى ضرورة عدم الالتفات إلى المعلومات المغلوطة التي ينشرها البعض.

حدثت الحملة نتيجة للتخاذل الرسمي من الحكومة في جوبا لأنها لم تتخذ موقف قوي من القضية، وأيضًا الحكومة السودانية، التي لم تشير إلى ما حدث

تبقى العلاقات الاجتماعية والروابط الثقافية أقوى ما يجمع بين شعبي شمال وجنوب السودان، مثلما يقول التاجر السوداني البدين. ورغم المرارات المتوارثة نتاج الحرب الطويلة بين البلدين -1955 – 2005- قبل انفصالهما إلى دولتين، تظل أواصر المحبة والاحترام متبادلة بين الشعبين، ومثلما عبرت واندثرت آثار الكتير من الكوارث والمآسي، ستعبر هذه المحنة، يضيف البدين.