18-ديسمبر-2024
حصاد الحرب السودانية 2024

شهدت الحرب السودانية سنة 2024 منعطفات مفاجئة وتطورات مهمة شكلت واقع السودانيين (تصميم الترا سودان)

شهدت الحرب السودانية في عام 2024 سلسلة من المنعطفات المفاجئة التي أعادت رسم خارطة الصراع الممتد منذ نيسان/أبريل 2023، ووضعت البلاد أمام تحديات غير مسبوقة، في ظل تزايد تداعيات الحرب على مختلف الأصعدة والجبهات. الميدان العسكري خلال 2024 شهد تحولات أقل ما يمكن وصفها به أنها كانت "دراماتيكية"، مع تصاعد وتيرة المواجهات في مناطق كانت تعد مستقرة نسبيًا، وتوسع حلبة الصراع وما يصاحب ذلك من تشرد ونزوح للملايين، مع أوضاع إنسانية غير مسبوقة، ليس على الصعيد المحلي فحسب، بل على مستوى العالم. التحالفات السياسية والانحيازات المفاجئة أيضًا صبغت الجبهة الناعمة للصراع، ومقتل قادة كبار بالدعم السريع وتقدم مطرد للجيش عقب هزائم كبرى كانت التطورات الأبرز على مستوى الميدان.

هذه التطورات المتشابكة تجعل عام 2024 المحطة الأهم والأطول حتى الآن في مسار الحرب السودانية، حيث يتداخل العسكري مع السياسي والإنساني في مشهد معقد، يحمل في طياته تأكيدات على مستقبل مفتوح على كافة الاحتمالات

على المستوى الدولي، برزت محاولات للبحث عن حلول تفاوضية، لكن هذه الجهود اصطدمت بتعقيدات المشهد الداخلي والمطامع الإقليمية والعالمية التي تغذي استمرار الصراع في السودان. وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض المبادرات إلى فرض هدنة أو تحقيق اختراق سياسي، يبدو أن الهوة بين الأطراف لا تزال واسعة، مما يزيد من معاناة الشعب السوداني الذي يدفع الثمن الأكبر لهذا الصراع.

أما على المستوى الإنساني، فقد اتخذت الأزمة أبعادًا كارثية، حيث ارتفعت معدلات النزوح بشكل غير مسبوق، مع تزايد التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان ونقص الإمدادات الغذائية والطبية، ليس فقط في المناطق التي تشهد اشتباكات نشطة، بل تلك الموسومة بأنها آمنة. ومع تفاقم المأساة في السودان، تتوجه الأنظار إلى الجهود الدولية والإقليمية لمعالجة الأوضاع الإنسانية، وسط انتقادات بشأن بطء الاستجابة وضعف التنسيق وقلة التمويل وكثرة العراقيل.

هذه التطورات المتشابكة تجعل عام 2024 المحطة الأهم والأطول حتى الآن في مسار الحرب السودانية، حيث يتداخل العسكري مع السياسي والإنساني في مشهد معقد، يحمل في طياته تأكيدات على مستقبل مفتوح على كافة الاحتمالات، قد يغلب عليها أنها ليست في صالح الشعب السوداني الذي تشرد في أصقاع الدنيا، وبات الأكثر نزوحًا وعوزًا في العالم الآن.

اتفاق سياسي في مطلع 2024

المفاجأة الأبرز في مسار الحرب السودانية مطلع العام لم تكن في ميدان المعركة داخل البلاد، بل في قاعة متحف العلوم بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، حيث وقعت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم" برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، على اتفاق سياسي مع قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، في 2 كانون الثاني/يناير 2024. كان ظهور دقلو نفسه مفاجئًا، ذلك على خلفية الشائعات التي أحاطت مصيره طوال العام السابق، حينما أكد مسؤولون وقادة وسياسيون مقتله في المعارك، في ظل اختفائه واكتفائه بالتسجيلات الصوتية التي نُسبت للذكاء الصناعي.

اتفاق "تقدم" مع حميدتي أثار الجدل في الساحة السياسة السودانية، ووسع الهوة بين هذا التحالف الذي يضم تنظيمات عريقة، والجيش السوداني الذي رأى فيه إعلانًا لانحياز مع قوات الدعم السريع ضده في الحرب السودانية. واجه "إعلان أديس أبابا" هذه الانتقادات رغم تأكيد موقعيه أن هدفه إنهاء الحرب وفتح الباب لحل سياسي متفاوض عليه، فبينما يرى مؤيدو الإعلان أنه خطوة نحو السلام وفتح حوار سياسي، اعتبره منتقدون محاولة لتلميع صورة قوات الدعم السريع وتجاهلًا لانتهاكاتها الجسيمة، في ظل شك حول الجدوى الفعلية للاتفاق مع هذه القوات التي لم تلتزم بأي قاعدة من قواعد الصراع.

السودان خارج الشبكات

في شباط/فبراير 2024، توقفت شبكات الهاتف والإنترنت بالكامل في السودان، مع خروج شركات الاتصالات المحلية عن الخدمة بشكل مفاجئ. مصادر هندسية كانت قد قالت لـ"الترا سودان" وقتها إن قوات الدعم السريع عطلت محولات الشبكات الرئيسية الموجودة في مناطق سيطرتها بالعاصمة الخرطوم. الانقطاع شمل جميع شبكات الاتصالات المحلية، باستثناء الإنترنت الفضائي "ستارلنك".

ما تزال شبكات الاتصالات منقطعة عن مساحات شاسعة من البلاد، مع تزايد الاعتماد على خدمات الإنترنت الفضائي

التقارير تحدثت عن قطع قوات الدعم السريع شبكات الاتصالات للضغط على الحكومة، بينما نفت هذه القوات مسؤوليتها، متهمة الجيش بقطع الشبكة في مناطق خاضعة لسيطرتها. وقتها، السلطات السودانية وناشطون نددوا بالاعتداء على مرافق الاتصالات، حيث فاقم الانقطاع من تعقيدات الوضع الإنساني بالسودان، لا سيما في ظل اعتماد الملايين على تطبيقات التحويلات البنكية في الحصول على المساعدات من المنظمات وأهاليهم بالخارج، خصوصًا أولئك العالقون في مناطق الاشتباكات. ما تزال شبكات الاتصالات منقطعة عن مساحات شاسعة من البلاد، مع تزايد الاعتماد على خدمات الإنترنت الفضائي.

هنا أم درمان

"هنا أم درمان.. إذاعة جمهورية السودان"، ردد الشعار التاريخي مرة أخرى المذيع الكبير عمر الجزلي عقب استعادة الجيش السوداني مباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع منذ الأسابيع الأولى للحرب. تعد استعادة الجيش لهذه المباني التاريخية من أبرز التحولات في مسار الحرب السودانية، وقد استخدمتها قوات الدعم السريع كمخزن أسلحة وثكنة عسكرية واحتجزت فيها أسرى. باستعادتها، أكمل الجيش سيطرته على أحياء أم درمان القديمة، متمددًا جنوبًا من محلية كرري، التي تعد منطقة آمنة ومقرًا لحكومة ولاية الخرطوم.

عام على الحرب

عندما اندلعت المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، صبيحة السبت 15 نيسان/أبريل 2023، لم يكن أحد يتوقع أن تستمر لأكثر من ساعات، مثلها في ذلك مثل خلافات واشتباكات مماثلة حدثت أثناء الفترة الانتقالية. وعلى الرغم من توقعات الجميع، أكملت الحرب السودانية عامها الأول في 15 نيسان/أبريل 2024 أكثر عنفوانًا وحدّة من لحظات الاشتباك الأولى، كما وقد توسعت إلى مناطق جديدة في ظل أكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم اليوم.

خلال عام من الحرب في السودان، قتل الآلاف ونزح الملايين داخليًا وفي البلدان المجاورة

خلال عام من الحرب في السودان، قتل الآلاف ونزح الملايين داخليًا وفي البلدان المجاورة. قالت الوكالات الأممية حينها إن ما يقارب من 24 مليون شخص في السودان بحاجة إلى المساعدات، ويعاني 18 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحادّ. أما اليوم، فقد بلغ عدد النازحين داخليًا أكثر من (11.5) مليون، ومن فروا إلى دول الجوار (3.2) مليون شخص.

مجازر في الفاشر وقرار أممي

لم يكن في البال محاولة الدعم السريع السيطرة على مدينة الفاشر، وعلى الرغم من التكهنات ببقائها آمنة وملجأ للملايين من سكان دارفور، كثفت قوات الدعم السريع هجماتها العنيفة على الفاشر خلال أيار/مايو. تعد مدينة الفاشر العاصمة التاريخية لإقليم دارفور، ويهدد سقوطها بوقوع كارثة إنسانية مع تزايد أعداد النازحين.

مع هجمات الدعم السريع والحصار المطبق الذي فرضته على المدينة التي يدافع عنها الجيش السوداني بالتحالف مع القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، تدهور الوضع الإنساني بشدة، وسط اتهامات باستهداف المدنيين على أسس عرقية، ما يثير مخاوف من تطهير عرقي مماثل لما حدث في ولاية غرب دارفور.

وفي حزيران/يونيو 2024، اعتمد مجلس الأمن الدولي قرارًا يطالب بإنهاء حصار الفاشر ووقف القتال فورًا. ركز القرار على حماية المدنيين وتسهيل تنقلهم وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق. وعلى الرغم من أن القرار لم يجد آذانًا مصغية، إلا أن المدينة ظلت صامدة حتى الآن، رغم المجازر الكبرى والاستهداف العشوائي للمدنيين.

بالتزامن مع كل ذلك، وسعت قوات الدعم السريع دائرة الحرب في السودان بتقدم مفاجئ نحو ولاية سنار، حيث سيطرت على عاصمتها مدينة سنجة والمناطق المحيطة، الأمر الذي أسفر عن موجة نزوح تعد من ضمن الأضخم في تاريخ السودان الحديث. صاحب اجتياح الدعم السريع لهذه المناطق مجازر بشعة ضد المدنيين، وأعمال نهب وسلب واسعة النطاق، وانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان.

مقتل البيشي وعلي يعقوب

يعد اللواء علي يعقوب أحد أهم قادة قوات الدعم السريع ذوي الثقل الشعبي الكبير في إقليم دارفور، تناقض ذلك مع المقاطع التي توثق مقتله داخل مدينة الفاشر منتصف حزيران/يونيو 2024، حيث بدا وحيدًا يستنجد بقواته دون استجابة، ثم بعدها جثة هامدة في يد منسوبي القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح. وقتها، أكد الرائد أحمد حسين مصطفى، المتحدث باسم القوة المشتركة، أن العملية التي أدت إلى مقتل قائد قطاع وسط دارفور بقوات الدعم السريع، اللواء علي يعقوب جاءت ضمن خطة عسكرية تهدف إلى إنهاء الهجمات المستمرة على الفاشر. ووصف يعقوب بأنه قائد "الحملات الانتقامية الوحشية".

أثار مقتل البيشي موجة حزن واسعة بين مؤيدي الدعم السريع، بينما عبّر آخرون عن قلقهم من تأثير الإعلان عن مقتله على معنويات جنوده وحماستهم القتالية

بعدها بشهر تقريبًا، قتلت غارة للطيران الحربي التابع للجيش السوداني قائد الدعم السريع بمحور سنار، صاحب الحضور الطاغي، المقدم عبد الرحمن حميدة البيشي. أثار مقتل البيشي موجة حزن واسعة بين مؤيدي الدعم السريع، بينما عبّر آخرون عن قلقهم من تأثير الإعلان عن مقتله على معنويات جنوده وحماستهم القتالية. رغم ذلك، تمكن الدعم السريع من السيطرة على سنجة والتوغل حتى الدندر وجبال سقدي، مع الاحتفاظ بجبل موية كنقطة استراتيجية في سنار.

هجوم مفاجئ

استمر تفاقم الأوضاع الإنسانية في السودان ليشهد مستويات جديدة في أيلول/سبتمبر 2024، وأصدر الرئيس الأميركي جو بايدن بيانًا أشار فيه إلى معاناة الشعب السوداني من "حرب فارغة من المعنى انبثقت عنها واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم"، داعيًا إلى تسهيل الوصول الإنساني واستئناف المفاوضات لإنهاء الحرب. اليونيسكو أيضًا عبرت عن القلق  إزاء تقارير بشأن احتمال تعرُّض العديد من المتاحف ومؤسسات التراث في السودان، إلى النهب والتدمير.

شهدت العاصمة الخرطوم في 26 أيلول/سبتمبر 2024 عمليات قصف عنيفة واشتباكات دامية عند محاولة الجيش عبور الجسور التي تربط مدن العاصمة المثلثة

في الأثناء، ابتدر الجيش السوداني أكبر عملية عسكرية له منذ اندلاع الحرب، وأشعل عديد المحاور بهجمات ضخمة شاركت فيها جميع وحداته. شهدت العاصمة الخرطوم في 26 أيلول/سبتمبر 2024 عمليات قصف عنيفة واشتباكات دامية عند محاولة الجيش عبور الجسور التي تربط مدن العاصمة المثلثة. تُوجت العمليات في العاصمة بعبور الجيش جسر الحلفايا من أم درمان نحو الخرطوم بحري لأول مرة منذ أكثر من عام، وإشعال محور وسط الخرطوم، في تقدم نادر على حساب قوات الدعم السريع.

ضمن نطاق هذه العملية، تمكنت القوات المسلحة في أسابيع قليلة من استعادة مدن سنجة والسوكي والدندر ومنطقة جبل موية الإستراتيجية في محور ولاية سنار، كما استعادت مناطق واسعة في مدينة بحري وأم درمان من قوات الدعم السريع.

انحياز أبوعاقلة كيكل

في مفاجأة من العيار الثقيل، وضمن نسق من الهزائم والانهيارات لقوات الدعم السريع، أعلن قائد قوات درع السودان، أبوعاقلة كيكل، انحيازه للجيش السودان في تشرين الأول/أكتوبر 2024. قالت مصادر لـ"الترا سودان" حينها إن انحياز كيكل، أتى بعد مفاوضات شاركت فيها إدارات أهلية.

مثّل انضمام كيكل للجيش السوداني ضربة قوية لقوات الدعم السريع التي كان يقودها في ولاية الجزيرة، حيث كانت تطمح عبر تنصيبه قائدًا في استمالة السكان والمكونات الأهلية التي ينحدر منها. توقع السودانيون أن يخفت نجم كيكل عقب انحيازه، أو أن تلاحقه الأجهزة القضائية، ولكنه انخرط مباشرة في صفوف الجيش السوداني وسط انتقادات واسعة، وقاتل القوات التي كان يقودها بالأمس، مستفيدًا من عفو رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان عن من ينسلخ من مليشيا الدعم السريع.

مجازر ولاية الجزيرة

على خلفية انحياز أبوعاقلة كيكل للجيش السودان، قادت قوات الدعم السريع حملات وُصفت بأنها "انتقامية" في ولاية الجزيرة. قتلت هذه القوات المئات في قرى ولاية الجزيرة ومدنها، حتى تلك التي كانت آمنة ومستقرة نسبيًا حتى وقت قريب. شهدت مناطق الهلالية ورفاعة وتمبول وقرى شرق الجزيرة أبشع المجازر، في ظل أحداث متسارعة ومقاومة شعبية وسخط عام على قوات الدعم السريع.

منعطفات مستمرة

تستمر العمليات العسكرية الكبرى في المحاور الملتهبة بولايات السودان والمختلفة، وسط حالة نزوح كبرى تجاوزت أرقامها ثلث سكان البلاد، بين مشرد في الداخل أو لاجئ في دول الجوار. ومع نهاية عام 2024، يبقى المشهد السوداني محاطًا بضباب كثيف من اللايقين، حيث تتشابك خيوط الصراع العسكري مع الأزمات السياسية والإنسانية، لتشكل واقعًا مريرًا يثقل كاهل البلاد. ورغم المبادرات التي أُطلقت على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، إلا أن مسار الحلول تعرقله تحديات جدية وأخرى مصنوعة، في ظل استمرار غياب الثقة بين الأطراف المتناحرة، وانقسام المواقف حول أولويات المرحلة المقبلة.

تتواصل معاناة الملايين من السودانيين الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الحرب وسندان الأزمات المعيشية، وسط تساؤلات عن مدى قدرة المحافل المحلية والدولية على التدخل بشكل إيجابي في الأزمة السودانية المتفاقمة

على الصعيد الإنساني، تتواصل معاناة الملايين من السودانيين الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الحرب وسندان الأزمات المعيشية، وسط تساؤلات عن مدى قدرة المحافل المحلية والدولية على التدخل بشكل إيجابي في الأزمة السودانية المتفاقمة. بينما يؤدي استمرار القتال إلى تعميق الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، وفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر قتامة تزيد من تعقيد الوضع في السودان والمنطقة بأكلمها.

في خضم هذا المشهد المأساوي، يبقى السؤال: هل يحمل العام المقبل بوادر انفراج تعيد للسودان استقراره ولو جزئيًا؟ أم أن البلاد ستظل أسيرة لدائرة الصراع التي يبدو أنها لا تنتهي؟ الإجابة ستتوقف على إرادة الفاعلين الرئيسيين، داخليًا وخارجيًا، وفوق ذلك، العمليات العسكرية على الأرض. لكن الأكيد هو أن السودان يواجه لحظة حاسمة في تاريخه، ستحدد ملامح مستقبله ليس للعام المقبل فحسب، بل لعقود طويلة قادمة.