18-نوفمبر-2019

ثائرة سودانية في ساحة الشهداء تموز/يوليو 2019 (Getty)

"إلى إيثار عبد القيوم التي لمحتها لمرة في ساحة الاعتصام وهي تتوَّارى في ممر الشجر الثوري الطويل. ومرةً أخرى عندما لفحتني روحها وهي تُتمِرُ هديل الحمام في نواحي القلب الحُرَّة"

من المدهش حقًا أن تبُدي نخبة من النشطاء اندهاشها الحائر من الانخراط الحيوي والفعَّال لجموع نساء الريف والحضر في كل مراحل الحراك الشعبي الذي أنتج ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، والذي بلوَّر محصلِّتها النهائية سقوط نظام الإنقاذ الإسلاموي القمعي والدموي. ففي كل مرحلة من مراحل الثورة، كان يظهر هذا الاندهاش من مشاركة النساء الواسعة في الحراك الشعبي والثوري. فهذا الاندهاش لا يعدو -بمجانيته الفجّة هذه- عن كونه أحد أشكال التنميط الذكوري الذي تفرضه حالاتنا الثورية العاطفية وشوفنا النخبوي الحسير النظر الذي يفصل القضايا عن قاعدتها الاجتماعية الاقتصادية الواسعة ويجزئ سياسيَا جبهات النضال الثوري، وكأنما التحولات التي أبرزت هذه الأدوار الثورية للنساء تفصلها عن الأدوار الأخرى التي لعبتها فئات شعبية واجتماعية واسعة طوال مراحل الثورة. ناهيك عن أن أدوار النساء في الحياة اليومية لا تقل ثورية عن ثورة ديسمبر، إن لم تكن أكثر ثورية منها بالمعنى العضوي العميق الشامل والمتعدد الجبهات. وهو تنميط لا يقل فداحةً عن أشكال أخرى من التنميطات الأبوية الراسخة والسائدة في مجتمعاتنا وأوساطنا شبه المثقفة التي لا يقل منسوب نخبويتها انتهازية عن نظيرتها تلك التي ادخرها المجتمع خضوعًا لمشروع الإنقاذ الإسلاموي ما جعله يُعِّمر طويلًا. فبعد أن افترسنا فخ التصنيفات والإقصاءات القائمة على المجايِّلة،  بأن هذا الجيل أو ذاك أكثر أو لا يقل جسارة عن أجيال انتفاضتي تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985، كنا نجد أنفسنا  مرارًا، وطوال مراحل الحراك وربما إلى الآن، واقعين في ذات الشِراك والأفخاخ التي ينصبها لنا وعينا النخبوي الزائف.

طوال مراحل الاحتجاجات الشعبية كان يتم تبجيل جسارة انخراط فئات النساء في الثورة بشكل يجعل هذا التبجيل فقيرًا ومضادًا

فطوال مراحل الاحتجاجات الشعبية كان يتم تبجيل جسارة انخراط فئات النساء في الثورة بشكل يجعل هذا التبجيل فقيرًا ومضادًا، أو على أقل تقدير يتم بشي من الاستغراب المتشكِّك. وكأنما هذه الجسارة لم تختبرها الحياة وتحولات واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والثقافي منذ أن جُبلنا كسودانيين مقيمين مستقرين أو لُقطاء مشردين ومشتتين في كل أنحاء هذه البلاد الواسعة الرحيبة. في الوقت الذي كان ينبغي فيه لهذه النخبة الناشطة، بحسها السياسي قصير النظر هذا تجاه الواقع، أن تكون الأكثر إدراكًا وإلمامًا بعمق التحولات واتساع نطاقها الذي امتد ضاربًا أوتاده الراسخة في كل الاتجاهات. لقد ولدنا في بيوتٍ سودانية وعشنا وشهدنا بداخلها كل أشكال المقاومة النسوية لذكورية المجتمع وسلطويته القامِعة. ولقد تضاعف هذا القمع طوال عقود نظام الإنقاذ الإسلاموي الثلاث. لقد خرجت جموع نساء الريف والمدن إلى الشوارع في ثورة كانون الأول/ديسمبر بعد ما استفحل القمع الذكوري على كل المستويات، وعلى وجه الخصوص على المستوى الاجتماعي والعائلي الذي كان ممُعِنًا أكثر في الاخضاع بعد أن عمَّقته الأعباء الاقتصادية وتدني الأوضاع المعيشية وتدهور الخدمات الحياتية الأساسية أو انعدامها في العقود الأخيرة، حيث أخذت هذه الأعباء يقع حِملها النفسي الثقيل ووزرها الأخلاقي غير المُنصف على عاتق النساء في معظم الحالات، على وجه الخصوص في الأرياف ومناطق النزاعات وضهاري المدن. في حقيقة الأمر، لقد كان خروج جموع نساء الريف والحضر خروجًا مضاعفًا: مرة من أجل ثورة النساء الدائمة ضد القهر الاجتماعي الذكوري بأشكاله وتجلياته المتعددة، أي ثورة الثورة، ومرة أخرى ضد القمع الذكوري الإسلاموي الكابت للحريات والحقوق الأساسية.

اقرأ/ي أيضًا: رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟

فنفس الشوارع والطرقات التي كانت تجوبها جموع النساء احتجاجًا وتظاهرًا مع بقية الفئات الاجتماعية الأخرى، طوال أطوار الحراك الشعبي لثورة كانون الأول/ديسمبر 2019، في حالة جماعية من التعاضد والتوَّحد، تحولَّت خلال العقدين الأخرين إلى مواقع للنساء الفقيرات الكادحات من بائعات الأكل والشاي والفريشات، معظمهن نازحات من أتون النزاعات والحروب الضارية، وأخريات ظللن يسقطن في المناطق الحضرية وضهاري المدن تحت ضربات مطارق القمع والإفقار والتشريد الذكوري الإسلاموي الممنهج. فما أن يفرغن من مواجهات النهارات المريرة في الأسواق والأماكن العامة، إلا ويقعن فريسة لمواجهات أعمق وأشرس مع الغول الذكوري الرابض ببطون البيت، ومع أشباحه المُتمَّثِّلة في الأب والزوج والأخ الأكبر أو الأصغر، وذلك بعد أن يعُدن آخر اليوم بما كسبنه من أرزاق. فغول النظام العام، الطالع من أرحام بيوتنا ومن مخيالنا الاجتماعي ولا شعورنا الجمعي، يجول مفترسًا وقامعًا ومضطهدًا الكل: في الشوارع  وأماكن العمل ودور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وليس في أقسام الشرطة والمحاكم فحسب. فلكل منا غول نظامه الانضباطي الخاص الذي يلوِّح بذيل تسلَّطهِ اللامرئي كل صباحٍ ومساء. إذ نجد التحرُّش في أكثر الأماكن المناهضة له وللتمييز ضد المرأة بأشكاله المتعددة عمومًا. إننا نجده في رواقات منظمات المجتمع المدني وفي ورشها وفعالياتها وأنشطتها النخبوية الأخرى. لطالما دأبت النخبة الناشطة في العمل المدني على وأد كل محاولات الانفكاك من أسر أشكال القمع والخضوع. فدأبها هذا مزدوج: مرة بجهلها المعرفي العميق لسياقات التحولات التي تمر بها المجتمعات المحلية، ومدى تأثير هذه السياقات على أوضاع النساء سلبًا أ ايجابًا، ومرةً أخرى بالهروب الانتهازي إلى الإمام نحو المزيد من عطايا المانحين ونعِمهم الرغيدة الوفيرة، كسبًا للامتيازات وحفاظًا على المصالح. وربما ظلَّ دور هذه النخبة يتمثَّل بالأساس في إجهاض مشاريع تحرير العقول والأرواح قبل الأجساد من عبوديتها الرازحة في سجون الرغبة والغريزة والعنف.

اقرأ/ي أيضًا: الحقّ في الفوضى

ولا يتجلَّى هذا التنميط الذكوري في الاندهاش النخبوي من الجسارة فحسب، ولكنه يمسك بتلابيب كل نظرة تحليلية للواقع

ولا يتجلَّى هذا التنميط الذكوري في الاندهاش النخبوي من الجسارة فحسب، ولكنه يمسك بتلابيب كل نظرة تحليلية للواقع. فالوصف التحليلي السطحي والمعزول لأدوار فئات النساء لم يتجاوز إرجاع هذه الجسارة إلى معدلات ارتفاع انخراطهن في التعليم وسوق العمل،  قارنًا ذلك بالتحولات الديمغرافية وهجرات الشباب إلى الخارج والتي دفعت فئات كبيرة من النساء لتولي مسؤولية إعالة الأسر والوقوف على استتباب معاشها الاقتصادي. وتغفل هذه النظرة القاصرة التحولات الذاتية النوعية للنساء، القائمة على تشكيل وعيهن خارج نطاق الأدوار الراسخة والمرسومة، على وجه الخصوص في المناطق الحضرية وشبه المدينية. فلكل امرأة في هذه البلاد سرديتها أو حكايتها الخاصة في تجربة تحررها من كل أشكال العسف والخضوع. وهو سردية تبدأ في نسج خيوط حبكتها المريرة من المنزل إلى الشارع، ومن الشارع إلى عربة المواصلات، ومن عربة المواصلات إلى الجامعة أو مكان العمل، ومن مكان العمل إلى دار الحزب، وغيرها من الأماكن الأخرى التي يخضن من خلالها تجربة انتزاعهن لحيزهن الشخصي والجماعي في الفضاء العام. ولقد شهد العقد الأخير بروز فضاءات جديدة ومستقلة. وهي فضاءات تُعبِّر عن شكل جديد من أشكال الوجود المغاير والمختلف والمقاوم للقمع الذكوري الشامل في آنٍ واحد، كصالات الرياضة والموسيقى والرقص. فهي ليست فضاءات أنثوية مغلقة وخاصة، بقدر ما هي تعبر عن شكل من أشكل الوجود الحميمي المستقل غير الخاضع بشكل مباشر لتعريف الذات من خلال هويتها الجنوسية. ومع غلبة الطابع الجمالي في اختيار طريقة اللبس ونوعه، أي تحرّر الذوق حتى من تنميط المرأة لجسدها نكايةً في الرجل، صار جسدها في بعض الحالات لا يبحث في حركيته وخيارات لبسه عن حريته بالتوازي مع مطلق الحرية التي يمنحها المجتمع للرجل، بقدر ما تعد هذه الحرية التي يحرث أرضها ويغرس غرسها هذا الجسد ضرب خاص من ذلك النمط من الحرية المقصودة لذاتها وليس توازيًا أو نكايةً في الرجل. لقد صار الرجل رويدًا رويدًا يخرج من دائرة الفعل التحرري بوصفه عدوًا ومعيارًا جوهريًا للتحرر في آنٍ واحد، على الرغم من أن خطاب النوع الاجتماعي السائد يختزل كل قضايا المرأة وتحررها في حرب خيالية طرفاها عدوان أبديان لا لقاء بينهما أبدًا، معمقًا ومرسخًا بذلك للهيمنة الذكورية بشكل أكثر تشويها، حيث يكون ضحيتها الرجل والمرأة معًا، منتجًا بذلك شكلًا جديدًا من الذكورية المضادة التي تكون فيها المرأة أكثر ذكورية وتسلطًا من الرجل.

 

اقرأ/ي أيضًا

السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية (2-2)

"مدنياااااااااو".. مقدمة لمرجعية أكاديمية