رأي

ثلاثي إفناء الفاشر... الجوع والحصار والقذائف المدفعية

23 أبريل 2025
الحرب في الفاشر.png
الحرب في الفاشر
منصور الصويم
منصور الصويمكاتب من السودان

تكالبت الدنيا على الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور غربي السودان، وبات سكان المدينة على شفاء الإفناء التام، إن لم ينكسر الحصار، وتتوقف الحرب، أو تحدث معجزة في زمن اللا معجزات.

إصرار قوات الدعم السريع على إسقاط المدينة، رغمًا عن كل المناشدات الدولية، وبرغم الخسائر البشرية والحربية التي منيت بها هذه القوات، ودون رحمة لحيوات الآلاف من المدنيين، المحاصرين في أسوأ الظروف الإنسانية منذ أكثر من عام، هذا الإصرار المجنون، يدعو حقًا للريبة في الأهداف الحقيقة من وراء هذه الحرب. ما القصد من تقتييل المواطنين – العزل لكسب مدينة قد تنتزع منك في حرب خاسرة، مثلما حدث بالضبط في مدن ومناطق أخرى من البلاد، خضت الدماء فيها ومارست أبشع أساليب التسلط والجبروت، ثم أخرجت منها مهزومًا.

معركة الفاشر في كل الأحوال مستمرة وإلى أمد قد يفرغها من قاطنيها ويحولها إلى قبر مديني كبير يتسع للجميع

خلال ثلاثة أيام فقط، دعك عن الـ 360 يومًا منذ فرض الحصار وبدء التدوين المدفعي وشن الهجمات، خلال هذه الأيام الثلاثة، وفي عملية قصف دائرية متعمدة، ضربت جميع أنحاء وأحياء الفاشر، قتل ما لا يقل عن 50 شخصًا من الأبرياء، بينهم نحو 10 نساء، بعضهن قضين حرقًا داخل منازلهن.

تقول الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني، إن الدعم السريع أطلقت خلال هذه الأيام أكثر من 250 دانة عن طريق مدفع من عيار 120 ملم. وهذه بلا شك كمية كافية من النيران لدك المدينة تمامًا، لكن برغم ذلك لم تسقط بعد، وما تزال القوات المرابطة بداخلها تصر على القتال إلى ما لا نهاية، في حين تحاصر أشباح الموت الجميع.

الأخبار المتسرية من داخل الفاشر تقول إن الجوع تفشى، فالحصار المتطاول، ومنع المركبات التجارية، ومن قبلها قوافل الإغاثة من الوصول إلى داخل المدينة، أشاع المسغبة بين السكان. الواقع الآن داخل الفاشر يقول إنك إن لم تمت جراء التدوين المدفعي اليومي، أو نتيجة ضرب الطائرات المسيرة، والهجمات البرية المتصلة، فحتمًا ستموت جراء الجوع والمرض، ونقص الدواء وغياب الرعاية الصحية. الآن في الفاشر، تتعذب الأرواح جراء السقم وسوء التغذية، وقد تجن العقول والأطفال أمام ناظريك يتسربون.

ما جرى في معسكر زمزم للنازحين، في الأكيد هو مقدمة لما يمكن أن يحدث لسكان الفاشر، حال سقوطها. المعسكر الذي يقع على بعد نحو 16 كيلومترًا من مدينة عاصمة الولاية، سيرته نفسها تجسيد لمأساة أهل دارفور المحاصرين بالحروب منذ أكثر 20 عشرين عامًا. يضم هذا المعسكر، الذي يتداخل مع المدينة حدودًا وبشرًا، أكثر من مليون نازح، أكثرهم يعود إلى الحرب الأولى "2003"، وجزء كبير منهم دفعته الحرب الأخيرة للنزوح، لاسيما من المدينة الأم الفاشر.

وحتى لا يبدو الأمر وكأنه "مبالغة" أو تزييف للحقائق بشأن ما يجري في الفاشر، فسنعتمد فقط على ما ذكره  وكيل الأمين العام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، توم فليتشر، عن "تقارير مروعة من الفاشر وزمزم في السودان، تكشف عن عمليات قتل، وعنف جنسي، ونزوح هائل، واحتياجات هائلة". وما تتحدث عنه هذه التقارير وقع بعد تمكن الدعم السريع من الهيمنة على معسكر النازحين، وخلال عملية ضخ إعلامي كثيف لهذه القوات والجهات الأخرى المتحالفة معها، تحاول عبره طمأنة الجميع، وأولهم النازحين، بأن الوضع بات "آمن"، وبإمكانهم الانتقال إلى مدن ومناطق أخرى بعيدًا عن نيران المعارك، في حين تشير تقارير ومناشدات "منسقية النازحين" إلى نصب الكمائن وخطف النساء واغتصابهن، وقتل الشباب في الطرق المؤدية إلى تلك الأماكن "الآمنة".

قد تكون الفاشر فعلًا هي تلك المنصة التي ستنطلق منها قوات الدعم السريع لغزو "الشمال" السوداني، المنطقة الأصح لاندلاع الحريق، مثلما صرح قائد ثاني هذه القوات، وهو يقول إنهم "أخطأوا" حين أشعلوا الحرب على مدى عامين في الخرطوم والجزيرة والجنينة ونيالا وكردفان! بما يفسر بمعنى آخر باستمرار سفك الدماء شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، بلا توقف.

ما هو موقف الجيش والقوات المشتركة بخلاف المحاولات المستمرة لـ"صد" هجمات الدعم السريع المتوالية؟ هل بإمكان الجيش وحلفاؤه اختراق تحصينات قوات الدعم السريع، عبورًا من كردفان إلى دارفور مثلما يشاع، وفك الحصار عن المدينة المحاصرة؟ أم أن الأمر لا يعدو دفع إعلامي لا أكثر.

نعم نجح الجيش في استرداد ولايات كاملة، واستطاع هزيمة قوات الدعم السريع في أكثر المواقع أهمية وهي الخرطوم، لكن كم من الوقت استغرق ذلك، وهل بإمكان مواطني الفاشر الاحتمال أكثر؟

تنحو قضية الفاشر في كل يوم صوب تعقيد أكبر. بالنسبة للقوات المشتركة والمستنفرين والمقاومة الشعبية من أبناء المدينة، تتحول المعركة مع كل يوم يمر إلى "حرب" تحدي ووجود وثارات شخصية – قبلية، وفي الجانب الآخر يأخذ التحدي شكلًا آخر لدى قوات الدعم السريع، وكأنها "قضية رجولة" قبل أن تكون معركة حول النفوذ والتوسع، ومنصة لإطلاق حكومتها المزعومة، وبالطبع كل ذلك يندرج أيضًا في إطار القبلي – الوجودي.

الواقع الآن داخل الفاشر يقول إنك إن لم تمت جراء التدوين المدفعي اليومي فحتمًا ستموت جراء الجوع والمرض

أما بالنسبة للقوات المسلحة، فكل تحليل واقعي يشير إلى أن الجيش وجد في الفاشر، وانتقال الحرب إلى دارفور، متنفسًا يريحه من النزاع في مناطق نفوذه وسيطرته المركزية، ولكن برغم ذلك تشير تحركاته الميدانية، لاسيما في كردفان، إلى أنه ماضٍ إلى نقل المعركة بالكامل إلى الإقليم المنكوب، قد يستغرق ذلك وقتًا طويلًا، مثلما عودنا هذا الجيش، الأمر الذي يعني أن معركة الفاشر في كل الأحوال مستمرة، وإلى أمد قد يفرغها من قاطنيها، ويحولها إلى قبر مديني كبير يتسع للجميع.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

سوداني في الزي التقليدي يحمل علم السودان.jpg

السودان: الحل بالداخل.. لا بالهندسة الخارجية

ها نحن الآن، ومع أول تحرك لإدارة الرئيس ترامب بعد 5 أشهر من توليها السلطة، تعود الولايات المتحدة الأمريكية -بمشاركة السعودية والإمارات ومصر مع استبعاد بريطانيا هذه المرة- لإحياء ما يُعرف بـ"المجموعة الرباعية" في مسعى جديد لتحريك المياه الراكدة ووقف الحرب في السودان


صلاة العيد.jpeg

العيد في السودان... قرابين بشرية وأحلام مؤجلة

الأعيادُ هي كرنفالات الفرحة الاجتماعية، وهي المتنفس من كتمة اليومي والعادي والمكرر، ورغم أن طقوس العيد غالباً يحفها التكرار، لكنه تكرار مبهج وظل حنين الناس وانتظارهم لهذه الطقوس وتكرارها مصدراً للفرحة؛ لكن كيف هي الأعياد في ظل الحرب؟


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

الشمالية في خطاب حميدتي: الحرب مستمرة

في الخطابات الأخيرة لقائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أصبحت مناطق "الشمالية" لازمة رئيسية، تتكرر في مسار تهديدي ثابت بتصعيد الحرب


رئيس الوزراء كامل إدريس

الواجب المنزلي المُلح لرئيس الوزراء كامل إدريس

في أول خطاب له عقب توليه المنصب الذي ظلّ فارغًا منذ انقلاب 2021، طاف رئيس الوزراء كامل إدريس على مجمل المسائل التي يُتوقّع أن يتحدث عنها كل من يتولّى المنصب في الظروف التي تمر بها البلاد، ولكن من المؤكد أن قطاعًا واسعًا من الناس أنصت إلى مسائل مُلحّة تحتاج إلى المعالجة بشكل عاجل.

حملة التطعيم ضد الكوليرا
أخبار

تقدّم في حملة تطعيم الكوليرا بالخرطوم وسط دعوات لزيادة الإقبال

بلغت نسبة التغطية التراكمية لحملة التطعيم ضد مرض الكوليرا في خمس محليات بولاية الخرطوم 29% خلال الأيام الثلاثة الأولى من انطلاق الحملة، بحسب ما أعلنت الغرفة الاتحادية لحملة التطعيم، وهي النسبة المستهدفة للفترة نفسها. وتستمر الحملة، التي تستهدف 12 وحدة إدارية، حتى الخميس المقبل الموافق 19 حزيران/يونيو الجاري.

مركبات الدعم السريع
أخبار

الدعم السريع: أسقطنا طائرة مسيرة بعيدة المدى في نيالا

قالت قوات الدعم السريع إنها أسقطت طائرة مسيرة "طويلة المدى وعالية الحمولة" حلقت في سماء نيالا بولاية جنوب دارفور، مساء الجمعة، 13 حزيران/يونيو 2025.


لوحة (فان جوخ)
ثقافة وفنون

شجرة الحوصلة

وصلنا إلى البيت المنشود بعد حلول الظلام بقليل. أبهرتني فخامة البنيان، فلم أكن أتوقع في كل الأحوال أن الرجل الذي يقصده صديقي عمر للاستعانة بقدراته يسكن في قصر بهذا البهاء.

مطار مروي.jpg
أخبار

أمر طوارئ بتعديل ساعات حظر التجوال في الولاية الشمالية

أصدر والي الشمالية الفريق ركن عبد الرحمن عبد الحميد إبراهيم، أمر طوارئ، بتعديل ساعات حظر التجوال للأشخاص والمركبات في الولاية، لتبدأ من الساعة العاشرة مساء حتى الساعة الخامسة صباحًا.

الأكثر قراءة

1
مجتمع

أم روابة..عودة لمشاهد الانفلات


2
أخبار

الخارجية السودانية تدين الهجمات الإسرائيلية على إيران


3
أخبار

مقتل مواطن في أم درمان يجدد المخاوف الأمنية وسط السكان


4
أخبار

"الدعم السريع": نطلق النداء الأخير لتأمين خروج سكان الفاشر


5
أخبار

سليمى إسحاق لـ"الترا سودان": وثقنا 1385 حالة اغتصاب منذ اندلاع الحرب