تكايا رمضان في السودان.. موائد الرحمة في زمن الصراع
4 مارس 2025
في السودان، عصفت الحرب المستمرة لقرابة العامين بمصائر الملايين، متسببة في أكبر أزمة نزوح في العالم، وجاعلة أكثر من 30 مليون شخص في حاجة ماسة للمساعدة، وغيبت أبسط مقومات الحياة. وفي خضم كل ذلك، انبثقت مبادرات إنسانية جسدت روح التكافل التي لطالما عُرف بها السودانيون. وسط الركام والنزوح والجوع والفقر والمرض، تعمل "التكايا" كواحات رحمة قبل رمضان وأثناءه، حيث يجتمع المتطوعون، رغم قلة الموارد وكثرة المخاطر، لإعداد موائد الإفطار للصائمين.
من بحري إلى أم روابة، ومن القضارف إلى المدن والقرى التي أنهكها النزاع، تتكاتف الأيدي في تكايا رمضان لتوفير وجبات تُشعر الناس بكرامتهم
من بحري إلى أم روابة، ومن القضارف إلى المدن والقرى التي أنهكها النزاع، تتكاتف الأيدي في تكايا رمضان لتوفير وجبات تُشعر الناس بكرامتهم، وتمنحهم لحظة دفء في زمن القسوة. في هذا السياق، نسلط الضوء على هؤلاء الجنود المجهولين الذين يطهون الأمل في قدور رمضان، متحدّين الجوع والحرب في آنٍ واحد.
بحري.. تكايا تخدم الآلاف
في مدينة بحري، حيث يعيش السكان تحت وطأة الحرب وآثارها الكارثية، يعمل المتطوعون على تنظيم تكايا متعددة تخدم حوالي 35 ألف أسرة، بحسب إحصائيات غرفة طوارئ بحري. إلى جانب ذلك، يعتمد المتطوعون على دعم متنوع يأتي من برنامج الأغذية العالمي (WFP)، بالإضافة إلى تبرعات المغتربين والمبادرات الشعبية التي لا تزال تحاول سد الفجوة.
"لكل شخص دوره"، يقول معز، أحد المتطوعين بغرفة طوارئ بحري، الذي تحدث إلى "الترا سودان"، مشيرًا إلى أن العمل في التكية لا يقتصر على الطهي والتوزيع فقط، بل يمتد ليشمل شراء وترحيل المواد الغذائية، تخزينها، تجهيز أدوات الطبخ، إشعال النيران، تحضير الوجبات. "كما يتكفل البعض بإيصال الطعام إلى المرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون الحضور إلى التكية بأنفسهم"، يردف قائلًا.
"تبدأ عملية التوزيع في تمام الساعة الرابعة عصرًا، حيث يتوافد المواطنون إلى التكايا لاستلام وجباتهم، كلٌّ يحملها في وعائه الخاص ليعود بها إلى منزله أو إلى مكان يجتمع فيه مع الآخرين لتناول الإفطار جماعيًا"، يضيف معز. ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، حيث أدى توقف الدعم الأميركي عبر بعض المنظمات الإنسانية إلى صعوبة تأمين تمويل مستدام، مما يترك قطاعات واسعة من مدينة بحري خارج تغطية التكايا.
"أهم ما نحتاجه الآن هو التمويل"، يشدد معز، موضحًا أن استمرار هذه المبادرات "يتطلب فتح مسارات آمنة لوصول المواد الغذائية، إضافة إلى حماية المتطوعين والمدنيين الذين يعتمدون على هذه التكايا كمصدر رئيسي للطعام"، بحسب وصفه.
وفي السياق، فرض الجيش السوداني سيطرته الكاملة على محلية بحري في منتصف شباط/ فبراير الماضي، بعد إعلانه السيطرة على كامل منطقة كافوري، آخر معاقل الدعم السريع بالمدينة.
أم روابة.. دفء للنازحين
أما في مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان، فتلعـب التكايا دورًا أساسيًا في تخفيف معاناة النازحين والسكان الموجودين بالمدينة. تماضر، المتطوعة في غرفة طوارئ أم روابة، والتي اختارت العمل الطوعي لأنه جزء من هويتها، تصف كيف يتم يوميًا إعداد وجبات الإفطار وتوزيعها على 11 مركزًا للنازحين، ليستفيد منها أكثر من 5000 شخص.
"التكايا ليست مجرد موائد طعام، بل هي جهود جماعية تعزز روح التكافل"، تقول تماضر في حديثها لـ"الترا سودان"، مضيفة أن التكية توفر وجبات متكاملة تشمل العدس، العصير، البليلة، التمر. هذه المكونات، رغم بساطتها، تمثل شريان حياة للكثيرين الذين فقدوا مصادر رزقهم بسبب الحرب.
إضافة إلى ذلك، فإن العمل في التكية لا يقتصر على الطهي فقط، بل يتطلب مشاركة الجميع، سواء من خلال التبرعات المالية أو المساعدات العينية أو حتى الجهد البدني. "الحاجة للمتطوعين تتزايد يومًا بعد يوم، خصوصًا مع تزايد أعداد النازحين وضيق الموارد"، تردف تماضر.
متطوعة: أهم ما في التكية أنها تمنح الناس إحساسًا بالكرامة"، مشيرة إلى أن "توفير وجبة مجانية دون إحساس بالعجز أو الحرج يساعد في تقليل التوترات الاجتماعية، ويساهم في خلق بيئة أكثر استقرارًا
وتضيف: "أهم ما في التكية أنها تمنح الناس إحساسًا بالكرامة"، مشيرة إلى أن "توفير وجبة مجانية دون إحساس بالعجز أو الحرج يساعد في تقليل التوترات الاجتماعية، ويساهم في خلق بيئة أكثر استقرارًا وسط الأزمة المستمرة"، على حد تعبيرها.
ويتميز النسيج الاجتماعي في أم روابة بتنوعه، وتعتمد المدينة في اقتصادها على الزراعة والرعي، إلى جانب قطاع صناعي محدود وبعض الأنشطة التجارية والخدمية. ومع استعادة الجيش السيطرة عليها في أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي، بدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى طبيعتها، حيث تشهد الأسواق والمزارع والمرافق الحيوية انتعاشًا ملحوظًا.
القضارف.. تكافل لا ينقطع
من جهة أخرى، وفي مدينة القضارف التي تقع في شرق السودان، وتُعد مركز ولاية القضارف، التي تتميز بتضاريسها المتنوعة، وتشمل السهول الزراعية الشاسعة والتلال المتناثرة، وتحيط بها مناطق غنية بالغابات الطبيعية، وتمتد حدودها مع إثيوبيا، سنستكشف إحدى المبادرات الشبابية في المنطقة.
وفي هذا الصدد، شهدت المدينة موجات نزوح مستمرة منذ بداية الحرب، وفي خضم ذلك، نشأت مبادرة "شباب أركويت" كاستجابة لحاجة ملحّة ظهرت بعد أحداث سنجة والدندر في تموز/يوليو 2024، إبان سيطرة "الدعم السريع" على المدن آنذاك. وفي هذا السياق، تحدث إلى "الترا سودان" السيد عمر إدريس، رئيس مبادرة شباب أركويت، موضحًا أن المبادرة بدأت بتمويل شعبي بالكامل، حيث ساهم أبناء الحي وبعض التجار من المدينة في توفير الاحتياجات الأساسية.
رئيس مبادرة شباب أركويت لـ"الترا سودان": المبادرة لا تقتصر على تقديم وجبات الإفطار، بل تشمل أيضًا توزيع سلال غذائية على الأسر المحتاجة
ويضيف: "عدد الأسر المستفيدة يفوق 600 أسرة من الوافدين"، مشيرًا إلى أن المبادرة لا تقتصر على تقديم وجبات الإفطار، بل تشمل أيضًا توزيع سلال غذائية على الأسر المحتاجة. حتى الآن، "وزعت المبادرة 400 سلة، لكنها لا تزال بحاجة إلى 600 أخرى لتغطية الاحتياجات الكاملة"، يردف قائلًا.
وفي هذا الصدد، تبلغ تكلفة السلة الغذائية الواحدة 100 ألف جنيه سوداني، وهي تحتوي على الزيت، والبصل، والسكر، والكركديه، والبليلة، والعدس، بالإضافة إلى التمر والعصير. "المواد الغذائية متوفرة، لكن الميزانية هي العائق الأكبر"، يوضح عمر، مشيرًا إلى أن الاستنزاف الكبير للداعمين جعل من الصعب استمرار المبادرة بنفس الوتيرة.
وفي رمضان، تسعى المبادرة إلى دعم الأسر المضيفة أيضًا، إدراكًا لأهمية تعزيز التلاحم بين النازحين والمجتمعات المستضيفة. لكن بقاء هذه الجهود مرهون بإيجاد حلول مستدامة لتمويلها، سواء من خلال توسيع دائرة الداعمين أو إيجاد بدائل تمويلية طويلة الأمد.
وتعتمد القضارف بشكل رئيسي على الزراعة، إذ تُعد واحدة من أهم المناطق المنتجة للذرة والسمسم في السودان، كما تشتهر بتربية الماشية. إلى جانب ذلك، تنشط في المدينة تجارة الحدود مع إثيوبيا، ما يجعلها مركزًا اقتصاديًا مهمًا في شرق السودان.
وفي آخر المطاف، بين بحري وأم روابة والقضارف، تُكتب قصص لا تُذكر في نشرات الحرب: طفلٌ يُسمي معز "خالو"، عجوز تُعلّم تماضر وصفة العدس، وشاب في القضارف يحرص على ربط السلال بطريقة مميزة، ليضفي لمسة رمزية تعبّر عن القوة والتكاتف. هناك، حيث تُسقط المسيرات قنابلها، تُسقط التكايا جوعًا أكبر: جوع الإنسان لأخيه الإنسان.
وفي المحصلة، ما يجمع هذه المبادرات الثلاث، رغم اختلاف مواقعها وظروفها، هو كونها أكثر من مجرد موائد إفطار، فهي تجسيد حيّ لمعاني التضامن الاجتماعي في السودان.
الكلمات المفتاحية

في انتظار التدوين.. "عروس الرمال" مدينة الأبيض تنزف ببطء
"على قلق، في كل يوم مع مواعيد إفطار رمضان، صرنا ننتظر قذائف قوات الدعم السريع، التي لم تتوقف منذ أحد عشر يومًا، تبث الرعب والخوف بين سكان المدينة. لن تستطيع أن تخمن في أي مكان ستسقط قذيفة اليوم، فكل الأمكنة قيد "التدوين". هكذا تحدثت المواطنة فتحية التوم، من مدينة الأبيض لـ"الترا سودان"، وأضافت: "فقدنا أعزاء كثر منذ بداية الحرب، عانينا كثيرًا جدًا في الأبيض، وحين…

نيالا.. مدينة تخيم عليها أصوات السلاح والقتل
تعيش مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، حالة من التدهور الأمني بسبب الاستهداف الذي يتعرض له التجار في الأسواق بغرض نهب الأموال، ما أدى إلى ظهور حركة عكسية لنقل الأنشطة التجارية إلى دول الجوار.

بالدفوف والطبول.. المسحراتية في كسلا يعودون إلى الشوارع
بالطرق على الدفوف والطبول، يطوف شبان من حي الميرغنية بمدينة كسلا شوارع الأحياء. ويعتقد مواطنون أن إحياء ظاهرة المسحراتي من الأمور التي تمنح الأمل بوجود حياة مغايرة للمجتمعات.

معارك ضارية وسط الخرطوم والجيش يحرز تقدمًا نحو القصر
أحرزت القوات المسلحة تقدمًا جديدًا وسط الخرطوم صباح اليوم، إثر معارك ضارية بدأت منذ الساعة الرابعة وفق مصادر محلية، فيما اضطرت قوات الدعم السريع تحت الضربات الجوية المكثفة وانتشار المشاة بالتراجع الميداني

القوات المسلحة تعلن التحام المدرعات مع القيادة العامة وسط الخرطوم
أعلن المتحدث باسم القوات المسلحة، العميد ركن نبيل عبدالله، التحام جيشي القيادة العامة وسلاح المدرعات عقب السيطرة على منطقة مستشفى الشعب اليوم الاثنين، وهزيمة قوات الدعم السريع.

السودان.. هل يقود صراع الفصائل العسكرية المساندة للجيش إلى الاقتتال؟
في غمرة تقدم الجيش، اندلع تنافس محموم بين الفصائل على النفوذ ومواقع التأثير السلطوي ومراكمة الثروة والاعتبار، فاشتعل خلاف معلن بين القوة المشتركة لحركات دارفور المسلحة وقوات درع السودان من جهة، وبينهما معًا في مقابل كتائب الإسلاميين من جهة أخرى

أعضاء بمجلس الأمن يدينون اختطاف قوات الدعم السريع لموظفين أمميين
قال أعضاء بمجلس الأمن الدولي، إن قوات الدعم السريع احتجزت 60 من حفظة السلام الأمميين، واختطفت ثمانية موظفين مدنيين، ونهبت قافلة لوجستية تتبغ لقوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة لأبيي (يونيسفا)، مكونة من ثماني مركبات و280 ألف لتر من الوقود.