بعد الحرب العالمية التانية أُقيمت محاكمات نورنبيرغ في ألمانيا كتجسيد حقيقي لمفهوم "عدالة المنتصر"، كانت محاكمات جنائية فردية أُعدم فيها المئات من المسئولين الكبار في القيادة السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية في ألمانيا النازية، والذين كانوا ضالعين في التخطيط، أو التنفيذ، أو المشاركة في جرائم الحرب. كانت هذه المحاكم بمثابة الانتقام من النازيين، ومثّلت أحكامها نقطة تحول في سير القانون الدولي من الكلاسيكي إلى المعاصر.
منذ اندلاع الحرب في السودان في نيسان/أبريل 2023 بين الجيش السوداني و"الدعم السريع" يعيش السودانيون أزمة إنسانية هي الأسوأ في تاريخهم الحديث، مخلفة أكثر من 11 مليون نازح ولاجئ في دول الجوار بحسب وكالات أممية، وأكثر من 150 ألف قتيل حسب منظمات حقوقية.
أثار العفو الذي أصدره قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان عن القائد الميداني السابق بـ"الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، أبو عاقلة كيكل، جدلًا واسعًا في الأوساط السودانية
وسط هذا الدمار، لا تقتصر تداعيات الحرب على النزوح وفقدان الأرواح، بل تشمل أيضًا تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وفي ظل هذا السياق الكارثي، يعتقد البعض بإمكانية حسم المعركة عسكريًا خصوصًا مع التقدم الكبير الذي أحرزه الجيش السوداني وحلفاؤه في الشهور الماضية وانفتاحه في ولاية الخرطوم و استعادته لجبل مويا في وسط السودان وسنجة عاصمة ولاية سنار والحدث الأبرز في 2025 باستعادته السيطرة على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة بعد عام من سيطرة "الدعم السريع" عليها.
إلى جانب ذلك برزت دعوات لتحقيق السلام من خلال العفو عن مرتكبي الجرائم كخطوة لوقف نزيف الدماء، ورغم أن هذه الفكرة قد تبدو حلًا جذابًا في بلد أنهكته الصراعات، إلا أنها تثير جدلًا واسعًا حول ما إذا كان العفو غير المشروط يمكن أن يؤدي إلى سلام دائم أم أنه يهدد بتحويل العدالة إلى ضحية أخرى للحرب.
وفي السياق، أثار العفو الذي أصدره قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان عن القائد الميداني السابق بـ"الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، أبو عاقلة كيكل، جدلًا واسعًا في الأوساط السودانية، سواء في الشارع العام أو على مواقع التواصل الاجتماعي. حيث يُعد كيكل من الشخصيات المتهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، خاصة منذ سيطرة "الدعم السريع" على ولاية الجزيرة في كانون الأول/ديسمبر 2023، بالرغم من مشاركته في استعادة السيطرة على المدينة في مطلع كانون الثاني/يناير الحالي.
بينما يرى مراقبون أن العفو يتجاهل مطالب العدالة للضحايا، حيث أن الجرائم المنسوبة إلى كيكل تشمل انتهاكات جسيمة مثل القتل والتعذيب، وهي جرائم تُصنَّف كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لا تسقط بالتقادم ولا يجوز فيها العفو وفقًا للمواثيق الدولية، كما أن بعض هذه الجرائم تقع ضمن نطاق الحق الخاص الذي يتطلب موافقة الضحايا أو ذويهم، ما يجعل العفو غير قابل للتطبيق من الناحية القانونية أو الأخلاقية.
ويشير خبراء قانونيون إلى أن هذا العفو يُعد "عطاء من لا يملك لمن لا يستحق"، لكون الجرائم المرتكبة لا يمكن التسامح فيها بموجب القانون الدولي أو المحلي، كما أن البرهان نفسه يُعد مسؤولًا جنائيًا عن سلسلة من الانتهاكات التي بدأت بفض اعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019 وما تلاه من أحداث حتى اليوم.
ويثير هذا التطور تساؤلات حول مستقبل العدالة الانتقالية في السودان، وحول إمكانية تحقيق توازن بين السعي للسلام والمساءلة عن الجرائم المرتكبة في سياق الحرب المستمرة لأكثر من 21 شهرًا حتى الآن.
العفو كأداة للسلام
قبل الشروع في مناقشة العفو، يجب الانتباه إلى أن هناك فرق جوهري بين العفو في الحق العام والعفو في الحق الخاص، وهو أمر يجب مراعاته عند مناقشة أي ترتيبات عدالة انتقالية. العفو في الحق العام يشمل الجرائم التي ترتكب ضد الدولة، مثل الجرائم السياسية التي تمس الأمن والاستقرار الوطني، ويمنح عادة من قبل الدولة أو السلطات المختصة بهدف تعزيز المصالحة الوطنية أو إنهاء الصراع. أما العفو في الحق الخاص، فيرتبط بالجرائم التي تمس حقوق الأفراد بشكل مباشر، مثل القتل أو الاعتداء، ويتطلب موافقة الضحايا أو ذويهم، حيث يُنظر إلى هذه الجرائم كاعتداء شخصي يجب أن يُعالج بطريقة تضمن إنصاف الضحايا وحقوقهم.
وفي سياق متصل، يجادل المؤيدون للعفو المشروط بأنه وسيلة ضرورية لإنهاء الحرب الحالية في السودان، مشيرين إلى أن هذا النهج يمكن أن يكون أداة فعالة لبناء الثقة بين الأطراف المتحاربة وتجنب المزيد من الانقسامات. من وجهة نظرهم، فإن معالجة الأزمة الإنسانية المروعة التي يعاني منها السودان تتطلب أحيانًا تقديم تنازلات على مستوى مطالب العدالة الفورية، وذلك لإفساح المجال أمام إنقاذ الأرواح، حقن الدماء، وتحقيق الاستقرار كأولوية قصوى.
يستند هذا الطرح إلى تجارب دولية ناجحة إلى حد ما، مثل تجربة جنوب أفريقيا، حيث ساعدت لجان الحقيقة والمصالحة في تحقيق انتقال سياسي سلمي من نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) إلى الديمقراطية في تسعينات القرن الماضي. تلك التجربة أكدت أن توفير العفو المشروط يمكن أن يخفف من حدة الصراع ويشجع الأطراف المتورطة على الانخراط في عملية سياسية شاملة، بدلًا من استمرار النزاع المسلح أو التمترس خلف مواقف متشددة تعيق الحلول السلمية.
تعد تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية من أبرز النماذج العالمية التي قدمت حلولًا واقعية للتعامل مع إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وفق موازين القوة للأطراف المتصارعة، ففي تسعينات القرن الماضي، وُضعت المبادئ الأساسية الـ34 للعدالة الانتقالية كإطار دستوري للانتقال السياسي أي بمعنى أنه تمت "دسترة العدالة الانتقالية"
وتعد تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية من أبرز النماذج العالمية التي قدمت حلولًا واقعية للتعامل مع إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وفق موازين القوة للأطراف المتصارعة، ففي تسعينات القرن الماضي، وُضعت المبادئ الأساسية الـ34 للعدالة الانتقالية كإطار دستوري للانتقال السياسي أي بمعنى أنه تمت "دسترة العدالة الانتقالية"، وشكلت هذه المبادئ الأساس لعملية التحول السياسي قبل ترسيخ المعايير الدولية الحديثة التي تؤكد على عدم جواز العفو عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية أو سقوطها بالتقادم.
بالنظر إلى هذا السياق، يبرز سؤال مهم فيما يتعلق بالوضع في السودان حول مدى إمكانية تبني معايير دولية صارمة لتحقيق العدالة الانتقالية، أو ضرورة مواءمتها مع خصوصية الواقع السوداني، والتنازلات الممكنة لتحقيق مصالحة وطنية شاملة ترتكز على أصوات الضحايا.
جاءت البداية في جنوب أفريقيا مع "الكوديسا" وهي الأحرف الإنجليزية الأولى لـ"المؤتمر لأجل جنوب أفريقيا ديمقراطية" الذي اجتمعت فيه أحزاب البلد لوضع لبنة المساومة التاريخية المعروفة التي أنهت نظام الفصل العنصري، والذي مثل نقطة انطلاق للتحول السياسي، حيث فصل بين العدالة الانتقالية والعدالة الاجتماعية والجنائية بناءً على السياق التاريخي للصراع.
وفي ظل توازن ضعف بين الأطراف المتصارعة حركات التحرر من جهة ونظام الأبارتايد في الجهة المقابلة، لم يكن هناك خيار لثورة شعبية أو انتصار عسكري لأي طرف، مما جعل الإصلاح السياسي البديل الوحيد لتحقيق الاستقرار، فشهدت تلك المرحلة تحولًا كبيرًا من مفهوم "عدالة المنتصر" إلى "عدالة الناجي" كما وصفها الدكتور محمود ممداني، حيث تم تفادي "شيطنة" الأطراف وتحويلهم إلى خصوم سياسيين من خلال رفع الحظر عن حركات التحرر، مثل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي، وإدماجهم في العملية السياسية.
تضمنت العملية السياسية ما عُرف بـ"بنود الغروب"، وهي تنازلات تاريخية اقترحها الأمين العام للحزب الشيوعي، جو سولفو، لضمان الانتقال السلمي، مثل الإبقاء على أجهزة الدولة البيروقراطية الأمنية والعسكرية و العفو العام مقابل المكاشفة والحقيقة، والاعتراف بحقوق الأقلية البيضاء في قضايا الأراضي، حتى في حالة النزاع مع الأغلبية السوداء، وتقييد هيمنة السود في المجالس المحلية عبر نظام انتخابي يعزز تمثيل الأقلية البيضاء. ورغم الجدل الكبير حول هذه التنازلات، إلا أنها أسهمت في تحقيق الاستقرار المؤقت وتجنب انهيار العملية السياسية.
في عهد الرئيس نيلسون مانديلا، تأسست لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون "تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة" لعام 1995، برئاسة القس ديزموند توتو، كان الهدف الرئيسي للجنة تحقيق المصالحة بين الضحايا والجناة، من خلال توثيق الانتهاكات بين عامي 1960 و1994 وتقديم توصيات بشأن التعويضات للضحايا، انقسمت اللجنة إلى ثلاث لجان فرعية: لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، ولجنة العفو، ولجنة إعادة التأهيل والتعويض، واعتمدت مبدأ "الاعتراف مقابل العفو" كآلية أساسية للمصالحة.
رغم نجاح اللجنة في تحقيق مصالحة وطنية، واجهت انتقادات عدة، أبرزها تعريف العنف كفعل إجرامي استثنائي وليس كممارسة مؤسسية دائمة، مما حدّ من تحميل الدولة مسؤولية هيكلية، وتركيز المسؤولية الجنائية على الأفراد المنفذين فقط مع إعفاء المستفيدين من نظام الفصل العنصري، بالإضافة إلى اقتصار التعويضات على 20 ألف ضحية فقط من أصل ملايين المتضررين.
يمكننا القول أن مؤيدي العفو في السودان يعتقدون أن تجربة جنوب أفريقيا تقدم دروسًا قيمة للسودان، حيث يجب دراسة التجربة بعناية لتحديد ما يمكن مواءمته مع خصوصية الواقع السوداني، وأنه من الضروري التركيز على دمج أصوات الضحايا في صياغة أي مشروع للعدالة الانتقالية
ويمكننا القول أن مؤيدي العفو في السودان يعتقدون أن تجربة جنوب أفريقيا تقدم دروسًا قيمة للسودان، حيث يجب دراسة التجربة بعناية لتحديد ما يمكن مواءمته مع خصوصية الواقع السوداني، وأنه من الضروري التركيز على دمج أصوات الضحايا في صياغة أي مشروع للعدالة الانتقالية، وتبني نهج سياسي واقعي قد يعتمد على "عدالة الناجي" إذا كانت الأطراف المتصارعة غير قادرة على تحقيق حسم عسكري شامل في كل السودان.
كذلك يرون أن تجربة جنوب أفريقيا توضح إمكانية تحقيق المصالحة الوطنية رغم التنازلات، لكنها تطرح تساؤلات حول كلفة تلك التنازلات وجدوى العفو كوسيلة لتحقيق الاستقرار في ظل خصوصيات كل بلد، وهل يمكن أن يكون العفو وسيلة جيدة لمعالجة وضع العسكريين بعد الحرب، مع ضرورة التمييز بين العفو القانوني والصفح الأخلاقي.
شرعنة الإفلات من العقاب
لكن في المقابل، يرى المنتقدون للعفو إن كان مشروطًا أو غير مشروط أنه يقوض مبدأ المساءلة و يعزز الإفلات من العقاب ويترك الضحايا دون إنصاف، وأن هذا النهج قد يشجع على ارتكاب المزيد من الانتهاكات في المستقبل، أو قد يقود بشكل ما إلى إندلاع النزاع مرة آخرى بشكل أعنف، والقاريء لتاريخ السودان الحديث يمكنه القول وبملء الفم أنه تاريخ الإفلات من العقاب.
ولتقديم نظرة أعمق للموضوع يمكننا الإشارة إلى تجارب بعض الدول المتعلقة بالعفو، وعلى سبيل المثال في إسبانيا بعد نهاية حكم الديكتاتور فرانكو، أُُصدر دستور جديد تم فيه العفو عن المعتقلين السياسيين واستُبعدت إمكانية ملاحقة النظام السابق قانونيًا. ومع ذلك، ظلت انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في عهد فرانكو حاضرة في السجالات السياسية، مع تنامي دعوات إنفصال إقليم كاتلونيا، ما يعكس التوتر بين الماضي وضرورات المصالحة.
في هذا السياق تُعد قوانين العفو من أبرز الوسائل التي لجأت إليها الأنظمة الدكتاتورية في مرحلة انتقالها نحو الديمقراطية لضمان الإفلات من المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ويشار لها بـ"إستراتيجية الأنظمة الدكتاتورية للإفلات من العقاب". ورغم أنها تُطرح أحيانًا كآليات لتحقيق المصالحة أو استقرار النظام الديمقراطي الناشئ، إلا أنها غالبًا ما تُثير جدلًا واسعًا بسبب انتهاكها لحقوق الضحايا وتقويضها لمفهوم العدالة.
في بلدان أميركا اللاتينية، مثل تشيلي، الأرجنتين، البيرو، البرازيل، الأوروغواي، نيكاراغوا، السلفادور، وغيرها، صيغت قوانين عفو لشرعنة الإفلات من العقاب. ومع ذلك، تُظهر تجارب بعض هذه الدول مدى تعقيد العلاقة بين تلك القوانين والتحول الديمقراطي.
على سبيل المثال، في تشيلي في 19 نيسان/أبريل 1978، أصدر النظام العسكري بقيادة أوغستو بينوشيه مرسوم عفو حصّن المؤسسة العسكرية والأمنية من أي مساءلة جنائية على الانتهاكات التي وقعت قبل ذلك التاريخ، منع هذا المرسوم التحقيقات أو المحاكمات الجنائية الفردية.
بعد تسليم السلطة إلى المدنيين عام 1990 بعد 15 عام من توليه بينوشيه السلطة، لم تتمكن حكومة الرئيس باتريسيو أيلوين (1990-1994) أو مجلس النواب من إلغاء القانون بسبب عدم توفر الأغلبية، رغم الجهود المبذولة في هذا الإتجاه في ظل نفوذ عناصر النظام السابق في المجلس.
أيضًا أعاق المرسوم عمل اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة، مما أثار توترًا بين المدنيين والعسكريين، كذلك تم استدعاء عسكريين للتحقيق في جرائم وقعت قبل صدور مرسوم العفو العام في 1978 وقد إستفز العسكر، بينما رد الجيش بعرض عسكري أمام القصر الرئاسي كتهديد بانقلاب جديد، مجبرًا الحكومة على تقييد التحقيقات.
أما في الأرجنتين فتم إصدار قانون "السلم الوطني" في أيلول/سبتمبر 1983 قبل تسليم السلطة للرئيس المنتخب راؤول ألفونسين (1983-1988) شمل العفو عن المسؤولين عن الانتهاكات بين آذار/ مارس 1973 وحزيران/يونيو 1982.
رغم مخاوف الطبقة السياسية من انقلاب عسكري، تم إلغاء القانون بواسطة البرلمان لعدم دستوريته في كانون الأول/ديسمبر 1983، إلى جانب تقليص ميزانية الجيش ونفوذه السياسي بفضل حيوية وضغط المجتمع المدني وعائلات الضحايا التي منحت الرئيس ألفونسين هامشًا للمناورة إضافة إلى إيمانه بأهمية التحول الديمقراطي.
تجدر الإشارة هنا إلى دور المجتمع المدني بمعية عائلات الضحايا في تحويل ميزان القوى، وهو ما كان غائبًا في تشيلي، حيث ظل نفوذ الجيش مسنودًا باليمين الشعبوي من عناصر النظام السابق قويًا حتى بعد تنحي بينوشيه الرئيس التشيلي الأسبق.
في تجارب تشيلي والأرجنتين والبيرو يمكننا ملاحظة أنه في بعض الحالات، مثل بيرو وتشيلي، لعبت الضغوط الدولية دورًا في محاكمة الجناة رغم وجود قوانين عفو، في إظهار حقيقي لأهمية المجتمع الدولي
وفي سياق آخر، في البيرو إبان الحرب الأهلية بين الدولة وتنظيمات يسارية مسلحة (1980–2000) خلفت آلاف القتلى والمفقودين وتعاقبت ثلاثة أنظمة على حكم البيرو في تلك الفترة مما جعل تحديد المسئولية عن الانتهاكات أمر بالغ الصعوبة، أصدر الرئيس ألبرتو فوجيموري قانونين للعفو في حزيران/يونيو 1995، شمل القانون الأول العفو عن عناصر الجيش والشرطة والمسؤولين المدنيين من أي محاكمة أو أحكام صدرت ضدهم خلال تلك الفترة. القانون الثاني، صدر بعد أسبوعين، لتفسير الأول وتوسيع نطاقه.
في 14 اذار/مارس 2001 تدخلت المحكمة الأميركية لحقوق الإنسان واعتبرت القانونين مخالفين للاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان (1978)، مطالبةً بإلغائهما، وبالفعل أبطلت أي فعالية قانونية لهما.
مما سبق في تجارب تشيلي والأرجنتين والبيرو يمكننا ملاحظة أنه في بعض الحالات، مثل بيرو وتشيلي، لعبت الضغوط الدولية دورًا في محاكمة الجناة رغم وجود قوانين عفو، في إظهار حقيقي لأهمية المجتمع الدولي الذي يعتقد البعض أنه "خرافة" في الدفع بعملية العدالة مع الأخذ في الاعتبار مسائل السيادة الوطنية وحفظ حقوق الدول في محاكمة مواطنيها.
ويمكننا القول أن قوانين العفو تُظهر التحدي الكبير الذي تواجهه الدول في الموازنة بين استقرارها السياسي وحقوق الضحايا في ذاكرة تستوعب معاناتهم، وتشرعن الإفلات من العقاب، إلى جانب محاولتها إجهاض التحول الديمقراطي وتخليفها إرثًا من الغضب والانقسامات وحالة من الغبن ومشاعر الخذلان لدى الضحايا، لذلك يكمن التحدي الأكبر في التوازن بين حاجة المجتمع للمصالحة وحق الضحايا في المساءلة وجبر الضرر.
نحو توازن بين العفو والمساءلة
في هذا الصدد أستطيع القول أنه لتحقيق سلام دائم في السودان بعد الحرب، لا يمكن التضحية بالعدالة برغم توازنات القوة، وأننا بحاجة إلى نهج متوازن يجمع بين العفو المشروط والمساءلة سواء كان وفق محاكم محلية أو دولية أو مختلطة "هجين"، إلى جانب إنشاء لجان حقيقة مستقلة "دولية" أو "مختلطة" للتحقيق في الجرائم التي وقعت منذ استقلال السودان، وضمان حق الضحايا في التعويض وجبر الضرر سواء كان معنويًا أو ماديًا، وضمان عدم تكرار الانتهاكات في مستقبل السودان عن طريق إصلاح شامل لمؤسسات الدولة مدنية كانت أم عسكرية وفق نموذج سوداني للعدالة الإنتقالية.
لكل ذلك، فإن إشراك الشباب ومنظمات المجتمع المدني في صياغة رؤية وطنية لوقف الحرب وبناء السلام تعزز من فرص تحقيق توافق وطني يراه الكثيرون أنه غير مدرك لغياب اي أفق تأسيسي لدى الفاعلين من الطبقة السياسية والاجتماعية والعسكرية ككل.
يقول الدكتور فتح الرحمن التوم "قوة العدالة الانتقالية لا تكمن في العفو، ولا في العقوبة المستحقة، إنما تكمن قوتها في المنع والالتزام
وكما يقول الدكتور فتح الرحمن التوم "قوة العدالة الانتقالية لا تكمن في العفو، ولا في العقوبة المستحقة، إنما تكمن قوتها في المنع والالتزام، ولهذا فإن غاية العدالة الانتقالية ليست التعويض فالتعويض مجرد مجاز، غايتها هي جعل الحياة حياة أفضل".
بعد ذلك نخلص إلى أن المصالحة الوطنية لن تأتي إلا كنتاج لعدالة إنتقالية شاملة سودانية خالصة توازن بين العفو القانوني والمساءلة، دون استنساخ تجارب دول أخرى، هذه المصالحة ستشكل هدفًا بعيد المدى، يرتكز على معالجة الجروح العميقة وإرساء العدالة كشرط أساسي لبناء السلام.
وفي اعتقادي أنه لكي نصل إلى مرحلة بناء نموذج سوداني للعدالة الانتقالية يجب علينا المرور أولًا بمرحلة توافق سياسي"تأسيسي" لا يستثني أحدًا بما في ذلك الحركة الإسلامية وتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية وفق أسس معينة ومبادئ تأسيسية تتطلب أولًا الاعتذار للشعب السوداني وتقديم نقد وقراءات جادة للفترة السابقة، إضافة إلى تقديم كل من تثبت إدانته بجرم إلى العدالة.
وفي هذا الصدد، عندما نتحدث عن التوافق التأسيسي الممهد للعدالة الانتقالية، فإننا لا نقصد المصالحة السياسية بين الأطراف المتصارعة فقط أو بين (الكيزان) و(قحت)، فهذه المصالحات الثنائية ذات الطابع السلطوي لا تؤسس لدولة، بل نسعى لتأسيس مبادئ العدالة وسيادة القانون، مع التركيز على مركزية الضحايا في العدالة الانتقالية.
هذا التوافق يتطلب معالجة قضايا أساسية مثل قضية حل "الدعم السريع" وبقية المليشيات وإصلاح الجيش، حيث يُعد الجيش السوداني بشكله الحالي مهددًا للأمن القومي ومصنعًا للمليشيات مع عسكرة للحياة السياسية.
ليس من الضروري انتظار نهاية الحرب للبدء في الحديث عن العدالة الانتقالية كأساس للسلام المستدام وبناء السودان الجديد، يمكننا تبني مفهوم العدالة الانتقالية كمدخل لوقف الحرب
وفي هذا السياق قد تتبادر إلى أذهاننا الأسئلة التي تطرح نفسها: هل يمكن للجيش بقيادته الحالية أن ينجز توافقًا تأسيسيًا؟ وما موقع الدعم السريع بعد الحرب؟ وماذا عن بقية المليشيات على إامتداد السودان من أقصى شرقه إلى أقصى غربه؟ هل يمكن حلها سياسيًا؟ هل الطبقة السياسية قادرة على التفكير بشكل تأسيسي بعيدًا عن السلطوية؟ وهل توجد قوة اجتماعية حديثة ومستقلة تسهم في تحقيق هذا التوافق؟
في الختام يمكنني القول أنه ليس من الضروري انتظار نهاية الحرب للبدء في الحديث عن العدالة الانتقالية كأساس للسلام المستدام وبناء السودان الجديد، يمكننا تبني مفهوم العدالة الانتقالية كمدخل لوقف الحرب، خاصة وأن أحد ركائزها الأساسية هو الإصلاح المؤسسي، بما يشمل الإصلاح الأمني والعسكري، ووصولًا إلى جيش مهني واحد.
وتكمن أهمية العدالة الانتقالية في قدرتها على التأسيس لمشروع وطني قائم على الحقيقة، العدالة، التعويض، الإصلاح المؤسسي الشامل. سودنة هذا الخطاب، وبناؤه على أسس تراعي خصوصيات السودان، هو الطريق الفاصل بين خيارين: الانزلاق إلى الحرب الشاملة الممتدة وتفتيت البلاد، أو بناء سودان جديد يتسم بالديمقراطية والتنمية.